الثلاثاء، 19 أغسطس 2025

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

 
خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة! 

"احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور"


في زحمة الفوضى التي انسكبتْ كأمطارٍ لا تُبقي للأرض تماسكًا، بينما أنيابُ الانهيار تنقضُّ على آخرِ تماسُكٍ، لاحَ برقٌ في السماء... خيانةً للضوءِ، ليُذكِّرَ الظلمةَ أنها لم تَبرحْ عرشَها.

وفي زاويةٍ من الروح، انبعثت نغمةٌ غريبة: براعم صغيرة تُحدث شقوقًا في صمت اليأس، كهمسِ جذورٍ تنسجُ نجاةً في صخورِ اليأسِ، فتُشَقِّقُها! لا فرحًا، بل احتجاجًا صامتًا. كانت تؤكد هويتها التي وُلدت من وجعٍ قديم، من شتاءٍ لم يكن ضيفًا عابرًا، بل نسيجًا من ظلّنا.  

هنا، بين طلقاتِ المطرِ العشوائيّةِ وهدير الانهيار، وُلد حوارٌ صامتٌ: 
- الظلام يهمس: "ألا تستسلم؟"  
- والبراعم تُجيب بلا كلمات: "نحن صدى الأرض التي تختزن ضوءها تحت القشور".  

هذا الحوار لم يكن جديدًا، بل صدىً لأسئلةٍ علقت في الفراغ منذ أن تعلَّم الوجودُ أن يُراوغ العدم. كأن البراعم تُعيد تمثيل مسرحية الخلق الأولى في مختبرِ التربةِ الرطبةِ: صراخٌ ضد الصمت الكوني قبل أن تُخترع الكلمات. مشهدٌ تكرّر منذ أن قرّر أولُ غصنٍ مكسورٍ أن يصير جذرًا. 
 
وفي أعماق هذا الصراع الأزلي، وعلى الرغم من كل شيء، لم تكن هذه القشور قيودًا، بل خزائنَ سريةً للضوء المُغذَّى بمرارة التربة. وربما كان احتجاجها الصامت هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الظلُّ المتجذِّرُ كالشتاء: لغةُ الجمر الذي يُشتبك في بطن الرماد. 

وكان هذا النبض الصامت في عمق اليأس هو السرُّ الكامن في مقاومة الكينونة النباتية: لا لتزهر فورًا، بل لتحوّل السقوط إلى جذور، واليأس إلى وقودٍ للصمود. كل غصنٍ منها يُعيد تشكيل مفهوم السقوط: فالهزيمة هنا ليست نهاية، بل رقصة وجود في عاصفة اللامعنى... استمرارٌ يُحوِّل الزمن إلى كتلةِ إرادةٍ مُجرَّدة.

هنا بالضبط، تنكسرُ قوانينُ الفيزياء: فالزمن - الذي يُقاس بالسقوط - يُعاد تشكيله ككتلةٍ من الاحتمال المتصلِّب. وكأن البراعم ترسم لنا قانونًا جديدًا: أنَّ البقاءَ ليس فعلَ جمودٍ، بل تفاعلٌ كيميائيٌّ يولد من فراغ الانهيار عُنصرًا جديدًا اسمه: إرادةُ العبور إلى الضوء.

ففي اللحظة التي تتحول فيها المقاومة إلى نفسٍ للوجود، يصير السقوط مجرد ظلٍّ للقِيَم. ليست البراعمُ دليلًا على غياب الشتاء، بل برهانًا على أنَّ الحياةَ تُعيدُ تعريف الموت كلَّ فجرٍ... بأن تخلق من عتمته برقًا داخليًّا تُشعِلُ معنى. 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الاثنين، 18 أغسطس 2025

نحتٌ في وجه الفناء!

 
نحتٌ في وجه الفناء! 

شعاعُ ضوءٍ يتكسر على مرآةٍ مشروخة. ليس نورًا خالصًا ولا ظلامًا كاملًا، بل ارتعاشةٌ بين حدّين، كأن الكون يفتح فجوةً صغيرةً لعينٍ تبحث ولا تجد.  
وأنا… أطلّ من هذه الفجوة، ألمس شظايا صورتي المبعثرة على الحائط، كأن جسدي صار مرآةً ثانيةً تنكسر مع كل ومضة ضوء. لا بصفتي شاهدًا ولا ناجيًا، بل كمن وجد نفسه محاصرًا في نصف الحقيقة. هل أملك أن أصف الوجود، وأنا لا أرى سوى شظايا؟

يهمس صوتٌ خفيٌّ في الداخل: اكتب… الكلمة هي طوق النجاة. لكن صوتًا آخر، بعيدًا وقاسيًا، يتسلل من الخارج: ومَن يُنقذ الشاعر؟ ثم تتعالى أصواتٌ متقطعة، كأنها صدى الجموع: الكلمات لا تُطعم، الشعر لا يُنقذ، الصمت أوفى.

وأقف بين هذه الأصوات كمن يمشي على جسرٍ مهتزّ. كل خطوةٍ قد تكون الأخيرة، لكنني أواصل العبور، لأنني أعلم أن ما في الضفة الأخرى ليس خلاصًا، بل وضوحًا. الشعر لا يهب الحياة، لكنه يفضح وهمها. إنه الضوء الذي يلمع لحظةً ثم يختفي، تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى في العتمة.

هنا يبدأ الشعر كبوابةٍ للوجود. ليس مجرد لغةٍ للتزيين، بل عينٌ ثالثة ترى ما لا يُرى. كل بيتٍ يُكتَب، هو محاولةٌ لاستنطاق الصمت، لا لملء الفراغ بل للكشف عنه. لا يدّعي الشاعر أنه يحيط بالكون، لكنه يعرف أن الضوء لا يكون بلا ظلّ، وأن الظل لا يُرى بلا أثرٍ من نور. وفي هذه المسافة بين الضدين، يتشكل الشعر كجسرٍ هشّ بين الإنسان والعالم.

وأتذكّر نفسي طفلًا هزيلاً أمام نافذة الغرفة القديمة، يتسلل ضوء الظهيرة عبر شقوق الستارة البالية، فيرقب ذرات الغبار وهي ترقص في خطوط الذهب السائلة. صمت البيت يطنُّ في أذنيَّ: صرير الباب، تنهد الجدران، غليان القدور البعيدة. لم أكن أفهم حينها معنى الوجود، لكنني كنت أشعر أن كل ذرة غبارٍ تحاول أن تكتب قصيدتها الخاصة في الفراغ. كنت أصغي لذلك الصمت، الصمت الذي لم يتوقف عن ملاحقتي حتى الآن. 

لكن من يعبر هذا الجسر؟ الشاعر أولًا. إنه الضحية الأولى، والمنتشي الأول بجراحه. كلماته تلسعه قبل أن تمسّ الآخرين، تحرقه قبل أن تنير لهم. ومع ذلك، يظل هو المخلّص أيضًا، يطلق قصائده كمن يلقي قناديل في بحر الصمت، قناديل لا تُنقذ الجميع، لكنها تكفي لتنقذ واحدًا من الغرق، لتخرج دمعةً من عينٍ ظنّت نفسها جافة، لتوقظ عاشقًا نسي دموعه في ركام الأيام. 

إنه أول الضحايا، وأول من ينهض ليحمل جرحه كراية، يُلقي الكلمات كما يُلقي الغريق يديه في الماء، لعلّ واحدةً منها تصل، في لحظةٍ عابرة، إلى قلبٍ لم يعرف أنه ينتظر.

أتذكر قصائدي الأولى، كيف كانت حبرًا مرتعشًا على ورقٍ أصفر، وكيف كنت أظن أنني أكتب لنجاةٍ ما، فإذا بي أكتشف أنني أكتب لأغرق أعمق. لقد فهمت متأخرًا أن النجاة لم تكن في المعنى، بل في القدرة على مواجهة اللامعنى، في أن تستمر بالكتابة رغم الخواء.

أما الكلمات، فهي ليست أدواتٍ طيّعة. إنها طاقةٌ قابلةٌ للانفجار، ومجرّد ومضةٍ منها كفيلةٌ بأن تُعيد تشكيل الغرف المظلمة في داخلك. أتذكر يومًا كتبتُ كلمة "شوق" على زجاجٍ متسخ، فتحركت ظلال الكرسي الفارغ في الغرفة وكأن المقعد الخشبيَّ يئنُّ تحت وطأة غياب. 

الكلمة التي تُضاء لا تكشف الطريق كاملًا، بل تخلق في العتمة متاهاتٍ تدفع المتلقي أن يضرمَ شمعةً من أعصابه. الشعر ليس حلاً، إنه إشعال سؤالٍ آخر في قلبٍ لم يعد يطيق الصمت. 

وأعود بالذاكرة إلى لحظةٍ أقف فيها على درجٍ حجري قديم، والليل يبتلع الحيّ من حولي. كنت أسمع وقع خطواتي يتردّد، كأنما يسير خلفي جيشٌ من الأطياف: امرأةٌ لم تقُل "لا"، رجلٌ أخفى دموعه في قبضته، طفلٌ مزّق رسالته قبل إلقائها. تعلمت يومها أن الكلمة ليست لي وحدي، بل للذين لم يجرؤوا على قولها: هي صرخةٌ تختزن في حناجر ألف صامت.

وفي النهاية، لا شيء يوازي مواجهة الألم. الألم ليس عابرًا ولا طارئًا؛ إنه العظام التي تُبنى منها هويتنا. أن نواجهه لا يعني أن نطلب الشفاء، بل أن نرفع رؤوسنا في وجه الفناء. 

لا تبحث عن عزاءٍ هنا. فالأمل الهادئ خيانةٌ للجرح، ووعدُ النجاة سرابٌ في صحراء الوجود. ما يبقى هو صلابةُ التحدي: أن تصرخ في قلب العتمة بلا ارتجاف، أن تُلقيَ بكلماتك في بركة الزمن الآسن، ثم تصغي لصدى سقوطها وهي تتشظى في القاع. أن تواصل الكتابة رغم يقينك أن الصمت سَيبتلع كل شيء، وحتى بعد أن يصير الوجودُ مقبرةً لا يعرف سوى اسم الريح.  

لقد بدأت الكتابةَ كنحتٍ للضوء، لكنها صارت معركةً ضدّ الفناء: لا انتصار فيها إلا استمرارُ النحت، ولا خلاص إلا بقاءُ الكلمة واقفةً كشاهدٍ أعمى. هذا هو الانتصارُ الأخير: أن تظل حروفك تخترق الظلام، مُحطِّمةً مرايا الصمت، حتى لو لم يبقَ أحدٌ ليسمعَ صدى تشظِّيها.  


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

قطرةُ ندىً تنحتُ نافذةً!

 
قطرةُ ندىً تنحتُ نافذةً!

1
أنا والمرآةُ الهشّةُ!

أمسكتُ قطرةَ ندىً،
ظننتُها مرآةً تُعيدُ صوغَ الكونِ...
لكنها انسابتْ كدمعةٍ
لم يلتقطْها عاشقٌ،
فوقَعتْ على صدري —
مِلحٌ وصابونٌ في جُرحٍ قديمٍ.

همسَ الظلُّ:
أتراكَ تحملُ البحرَ في قطرةٍ؟
فأجبتُ:
بل أحملُ سكينًا...
أنحتُ بها نافذةً لعالمٍ يشبهُني!

حينئذٍ، ضحكَ الضوءُ...
كالطفلِ الذي يَفكُّ أحجيةَ الوحدةِ.


2
أنتَ وصرخةُ القيامةِ!


أنتَ... من يختبئُ في زَحَمِ الكلماتِ،
كعصفورٍ يطاردُ رنينَ الجمالِ!
حينَ يمسكُ العالمُ بحلقِ الغسقِ —
تطلقُ صرختَكَ:
دعِ العالمَ يقرأُ الآنَ!

فيجادلُكَ الظلُّ:
ستغرقُ قبلَ أن تنقذَ غريقًا!

فتسحبُ من صمتِكَ كلمةً،
تصوغُ بها سكينًا...
فيصدحُ الضوءُ:
حممٌ باردةٌ تُنقذُ غريقًا...
وتذكّرُكَ: أنتَ غريقٌ مثلَهُ!


3
نحنُ... وحممُ الهويةِ!

نحنُ...
عصفورٌ يبني عُشَّهُ على حافةِ الهاويةِ!

— الظلُّ:
كلماتُكم سكاكينُ!
هذا الألمُ — طَعمُ الصابونِ والمِلحِ —
ليس جرحًا...
إنه وسمُكم على جبينِ الوجودِ!

— الضوءُ:
صدقتَ!
لكنَّ السكينَ تَنحتُ أجنحةً...
ألمْ ترَ؟
قطرةُ الندى صارتْ بحرًا...
والغريقُ نفسُهُ طَوقُ نجاةٍ!

فنصرخُ جميعًا:
نحنُ لسنا ضحايا...
نحنُ الحممُ الباردةُ التي تنحتُ العالمَ!
كلُّ جرحٍ — بحرٌ!
كلُّ دمعةٍ — مفتاحٌ!


4
سكيني تسقطُ على مرآتِكْ!


أعودُ إلى يدي...
تحاولُ قبضَ قطرةِ ندىً،
فتمسكُ سكينًا تنزفُ نورًا!

على حافةِ الجُرحِ،
يهمسُ الظلُّ:
جراحُكَ قواريرُ نبضِكَ...
لن تبرأَ!

أرمي بالسكينِ في بحرِ الصمتِ...
ليجدَها غريقٌ آخرُ،
وأبني من دمي نافذةً:
أرى منها عالمًا ينزفُ نورًا كنوري!

هذه الوجودُ:
أن ترمي سكينَكَ في العدمِ،
تعلمُ أنها ستسقطُ
على جرحٍ يشبهُ جرحَكَ،
جرحٍ يُسمّى الحياةَ...

فتسبحُ في بحرِ الحممِ الباردةِ،
وتدركُ أنَّ الغرقَ
هو الوجودُ نفسُهُ!


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ظلُّ الحياة في مرآة الغياب!

 

ظلُّ الحياة في مرآة الغياب! 


1
بئر الغياب!  

هنا، في قاع البئر، لا يسكن الصمت.  
الصمتُ ضجيجٌ.  
أمّا هذا... فهو ثقلٌ يتراكم في العظام 
كرصاصٍ سائل،  
يُثقِلُ الحجابَ الهوائيَّ بين الضلوع،  
حتى لَتَكادُ أنفاسُك تُحطَّمُ على صخرةٍ لا تراها.  

الغيابُ يَنضَجُ.  
ليس كفاكهةٍ تُلمع،  
بل كظلٍّ أسودَ ينزُّ من سقفِ الذكرياتِ، 
يُحوِّلُ الهواءَ إلى قطنٍ مُبلَّلٍ بالرصاص.  
تلمسُ الكرسيَّ الفارغَ... 
فَتُحرِقُ أصابعَك برودتُهُ،  
وتحدّقُ في النافذةِ... 
فَتَغوصُ في ظلمةٍ لا تُولَدُ منها نجوم.  

حتى الروائحُ تخونُ:  
رائحةُ قهوةِ الصباحِ تتحوّلُ إلى رائحةِ ترابٍ باردٍ،  
كأنّ الثرى انسكبَ في الرئتين.  
والأصواتُ؟  
صوتُ خطواتٍ وهميَّةٍ على السُلَّمِ…  
لكنَّها مجرّدُ صدى سَقطَ في الفراغ،  
فالتهَمهُ ذلك الثقلُ الأسود.  

هذا ليس فَقْدًا بعد.  
هذا استسلامٌ سابقٌ للفقد،  
خذلانٌ من جسدِك الذي يجرؤ على التنفّس،  
ومن الشمسِ التي تجرؤ على الشروق،  
ومن اللحظةِ التي تجرؤ على الاستمرار…  
بينما أنت تُذوبُ في عينيك بحرًا من زجاجٍ مكسور،  
وتَسألُ:  
"كيف يُمكنُ للعالمِ أن يكونَ مكانًا  
إذا كان مَنْ جعلَهُ عالمًا…  
صار غيابًا يُنضجُ الفراغ؟"  


***

2
احتضار الامتلاء! 

كيف صارَ الامتلاءُ جريمةً؟  
كيف صارتِ الذكرياتُ شظايا زجاجٍ   
تُغرَقُ في حلقومكَ كلّما ابتلعت هواءً؟  

كنتُ أحملُ كونًا بين ضلوعي:  
ضحكتُكَ كانتْ شمسًا،  
وصوتُكَ كانَ نهرًا يروي الصحراءَ فيّ.  
الآن…  
الآن يُلفُّ الفقدُ هذا الكونَ ككفنٍ رطبٍ،  
يخنقُ كلَّ نبضةٍ كانتْ فرحًا.  
حتى رائحةُ قميصِكَ الباهتةُ —  
لم تعدْ تُذكّرني بكَ،  
بل تُحرقُ أنفيَ كَسُحُبِ رمادٍ!  

انظروا إلى هذا الامتلاء الشبح…  
هو كأسُ ماءٍ في الصحراء،  
تراه من بعيدٍ فيُغرِقُك عطشًا.  
الذاكرةُ — يا لهذه الخيانة —  
لا ترفعُ الكفنَ عن جسدِ الماضي،  
بل تَغْمِسُ أصابعها في الجرحِ  
فتلمسُ دفءَ دمِكَ على شَفرةِ "كان"!  

وحدي في غرفةِ الأمسِ:  
ها هي صورُكَ على الجدارِ تتحوّلُ إلى سكاكينَ بطيئةٍ.  
ها هي أغنيةٌ كنّا نحبّها تتقاطرُ مرارةً في الأذنِ.  
ها هو كرسيُّكَ يُنبِتُ أشواكًا.  
حتى قهوةُ الصباحِ —  
صار طعمُها كطعمِ الصابونِ يَفجأُ فمَ طفلٍ،  
كأنّكَ تشربُ غيابَكَ كأسًا بعد كأس. 

هذا ليس حزنًا.  
هذا اشتعالُ منجمِ الروحِ من الداخل:  
جمرةٌ تتّقدُ تحت الرمادِ،  
تُذكّركَ أنّ ما امتلأَ يومًا  
لا يموتُ، 
بل يتحوّلُ إلى فخٍّ... 
تُحطَّمُ عليهِ كلُّ محاولةٍ للنسيانِ.  
خذلانٌ مزدوجٌ:  
من قلبكَ الذي يرفضُ أن يُفرغَ ذاكرتَه،  
ومن ذاكرتكَ التي ترفضُ أن تُخدّره!  


***

3
مفارقة الدهشة!   

انكسرَ الصمتُ.  
ليس ببكاءٍ،  
ولكن بزقزقةِ عصفورٍ على الشجرةِ ذاتها  
التي كنتمَا تتفيّآنِ تحتها ظلَّ أحلامِكما.  
السماءُ تمطُرُ شمسًا!  
والأرضُ — كالمستهزئةِ —  
تَلُفُّ نفسَها برداءِ زهرٍ نَضِرٍ،  
وأنت واقفٌ في منتصفِ الرصيفِ  
كأنّكَ حجرٌ سُحِقَ تحت عجلاتِ الزمنِ.  
  
أهكذا تكونُ السُّخْريَةُ؟  
كيف تَنبِضُ فصولُ السنةِ بلا وجعٍ؟  
كيف تدقُّ ساعةُ المدينةِ كأنَّ شيئًا لم يَكُ؟  
كيف يمرُّ غريبٌ بجانبكَ يَختالُ بضحكتِهِ،  
بينما أنتَ تحملُ في صدركَ نيزكًا  
سقطَ على كوكبِكَ فجعلهُ قفرًا؟  

الحياةُ تنظرُ إليكَ.  
نعم،  
إنها تُحدّق في عينيكَ  
مِنْ نافذةِ باصٍ مزدحمٍ تلمعُ في الشمسِ،  
مِنْ طفلٍ يجرجرُ بالونًا أحمرَ كدمعةٍ أضحكتْها القسوةُ،  
مِنْ رائحةِ هيلٍ تَتَسلَّلُ مِنْ مقهىً فتخنقُ أنفاسَكَ.  

هذه ليست دهشةَ طفلٍ.  
هذه دهشةُ مجنونٍ يكتشفُ أن جَلَّادَهُ…  
هو نفسُهُ يُمسكُ بالسكينِ!  
أتُرى الكونُ كلُّه كانَ غطاءً للخديعةِ؟  
أهذهِ الأرضُ نفسُها  
التي التصقَ بها جسدُ مَنْ رحلَ؟  
كيف تنبتُ العشبُ فوقَ قبرٍ،  
بينما أنتَ لا تقوى على نبتِ شهقةٍ واحدةٍ؟  

الغيابُ يُنضجُ فراغَهُ فيكَ،  
والحياةُ — بلا حياءٍ —  
تمسحُ دمَكَ عن أسنانها  
وتستمرُّ.  
هل تسمعُها تُهمسُ؟  
"انظر!  
أنا هنا…  
أنا دائمةٌ…  
فماذا عساكَ فاعلًا  
غيرَ أن تَخِرَّ صريعَ دهشتِكَ؟"  


***

4
المقابلة الجارحة! 

الغيابُ في مواجهةِ شبحِ الحضورِ:  

تلمسُ وسادتَهُ ليلًا...  
فتحسُّ دفئًا وهميًّا كسرابٍ.  
هل هذا حضورُهُ؟  
لا أعلم! 
هذا الغيابُ نفسُهُ يخدعُك...  
يُرسلُ ظلَّهُ لينامَ مكانَهُ،  
ويُسمعكَ صوتَهُ في خريرِ صنبورٍ،  
ويُريكَ شبحَ يديهِ في غبارِ ضوءِ القمرِ. 
لكنّك حينَ تُغمضُ عينيكَ وتنادي:  
"أأنتَ هنا؟" 
لا يُجيبُ إلا صدى السؤالِ،  
يَرتطمُ بجدرانِ الغرفةِ  
كصوتِ جرسٍ في وادٍ موحشٍ.  
أيُ خيانةٍ هذه؟  
أن يُحاكيَ الغيابُ حضورًا،   
ثمَّ يسرقُ حتى حقَّكَ في الوهمِ!  

الفقدُ في مواجهةِ حياةٍ لا ترحمُ: 

انظرْ إلى الشارعِ:  
هذهِ الحياةُ تتمطى كطائرٍ شبعانَ،  
لا تعرفُ أنَّ في قلبكَ بركانًا.  
الأشجارُ تُورِقُ،  
والناسُ يشترون الخبزَ،  
والساعاتُ تلدُ دقائقَ جديدةً  
كأطفالٍ غيرِ مرغوبٍ فيهم!  
كيفَ؟  
كيفَ يُمكنُ لعالمِكَ أن ينكسرَ كزجاجةٍ،  
بينما العالمُ خارجَ صدركَ  
يُقلّبُ شريطَهُ المملَّ؟ 
الفقدُ يُعلنُ: "توقّفَ الزمنُ!"،  
والحياةُ تُجيبُ بسخريةٍ:  
"بل زمنُكَ أنتَ مَنْ ماتَ!".  


الخذلانُ.. الجرحُ الذي يصرخُ: 

هذا هو الخذلانُ الأعمقُ:  
- خذلانُ جسدِكَ الذي يبحثُ عن رائحةِ الغائبِ في وسادةٍ بلا روحٍ.  
- خذلانُ صديقٍ يقولُ: "اصبر... سيمرُّ هذا!"  
كأنّهُ يُخبِرُ نهرًا أن يجفَّ!  
- خذلانُ الأرضِ التي ابتلعتَ جسدَ حبيبِكَ...  
ثمَّ أنبتتْ زهرةً صفراءَ صامتةً فوقَهُ!  
أهكذا يكونُ الوداعُ؟  
حفنةُ ترابٍ...  
وزهرةٌ تسخرُ من دمِ قلبكَ؟  


المقابلةُ تُشعلُ الفتيلَ:  

في هذهِ الهوّةِ:  
بينَ غيابٍ يثقلُ كالرصاصِ  
وحضورٍ يتلاشى كالسرابِ،  
بينَ فقدٍ يصيحُ في صمتٍ  
وحياةٍ تصمُّ بضجيجٍ،  
تنبثقُ شرارةٌ غريبةٌ...  
ليست أملًا،   
بل استفهامٌ حادٌّ:  
"إلى متى سأكونُ ضحيّةَ هذهِ المسرحيةِ؟".


***

5
جمرة الرفض! 

كفى!  
ما عادَ قلبي وعاءً للدموعِ،  
بل بوتقةٌ تُذيبُ الصبرَ الزائفَ 
وتصهرُ الأحزانَ سيفًا!  

هذا الغيابُ الذي نَضَجَ كسُمٍّ في جوفِي..  
أرفضُ أن أكونَ قبرًا يمشي!  
أرفضُ أن تلفَّني أكفانُ "المُتجاوزين"!  
أرفضُ أن أكونَ حكايةً تُروى  
بصوتٍ هامسٍ:  
"كانَ يحبُّهُ كثيرًا...  
ثمَّ صارَ ظلَّهُ".  

ذاكرتي ليستْ نُسخةً شاحبةً،  
بل هي قلعةٌ من نورٍ:  
هنا ضحكتُكَ تشتعلُ كشمعةٍ لا تنطفئُ،  
هنا عيناكَ تُطلّانِ من كلِّ زاويةٍ،  
هنا صوتُكَ يُثقبُ جدارَ الصمتِ  
مطرقةً مطرقةً،  
حتى يعودَ الصدى  
مِرآةً تُعيدُ تشكيلَ حضورِكَ!  

هل رأيتَني؟  
أنا لا أبكي...  
أنا أحفرُ بقبضتي في صخرِ الغيابِ!  
أحفرُ حتى يدمى الكفُّ،  
حتى يمتلئَ الإبهامُ بشظايا الزمنِ،  
لكنّي أجدُ في القاعِ:  
رُفاتَ كلِّ مَنْ قالوا:  
"انسَ... اتركْ... تجاوزْ"!  

هذا غضبي:  
لهيبٌ أزرقُ،  
لا يحرقُ غيرَ أوهامِ المستسلمينَ.  
نارٌ تخرجُ من جمرةِ الروحِ،  
تذوبُ فيها الأحقادُ،  
ويتبلورُ الألمُ ماسًا في تاجِ الكرامةِ.  
نعم!  
أنا غاضبٌ:  
على السماءِ التي لم تسقطْ يومًا رغمَ كلِّ القبورِ!  
على الأيامِ التي تلبسُ أقنعةَ البراءةِ!  
على كلِّ يدٍ مدَّتْ إليَّ "مواساةً" كالمبخرةِ..  
تُخفي سمَّ الضعفِ!  

لن أكونَ ضحيّةً لهذهِ الملهاةِ.  
لن أبيعَ غيابَكَ بفلسِ راحةٍ!  
سأحمِلُ حُبَّكَ كسلاحٍ ضدَّ الفناءِ،  
وأمشي في شوارعِ الحياةِ  
كأنّني جدارٌ يكتبُ عليه القدرُ هزيمتَهُ!  


***

6
وميض التحدي!    
  
ليستْ خطوةً...  
بل وَقفةٌ.  
واقفٌ كَـ "سنديانةٍ" أحرقها البرقُ،  
لكنَّ جذورَها تمضغُ صخرَ الأرضِ.  
لا أبحثُ عن ربيعٍ يُخضِرُ فيَّ،  
فشتائي ــ يا لقسوتِهِ ــ  
صارَ فصلًا أبديًّا.  
لكنّي…  
أرفضُ أن تسقطَ أوراقي!  

الحياةُ ــ ذلكَ الشاهدُ الأصمُّ ــ  
تُحدّقُ بيَ الآنَ:  
"هل انتهى بكَ المطافُ إلى هنا؟  
على حافّةِ الهاويةِ...  
تُمسكُ بظلٍّ؟".  
أُجيبُ بصمتٍ أقسى مِنْ صَخْرٍ:  
"بل وقفتُ لأُريكَ كيفَ يُشهِرُ الموتُ حُبّاً  
لا يموتُ!".  

انظري أيّتُها الحياةُ:  
ها هو غيابُهُ يُصبحُ ساقَيّ!  
ووجعُهُ يُصبحُ دمي!  
وذكراهُ تُصبحُ بوصلةً في ليلِكِ الخالي.  
أحملُهُ ليسَ كجرحٍ...  
بل كـ "شِهادةِ ميلادٍ ثانيةٍ"،  
وُلِدتُ فيها مِنْ رحمِ الفقدِ  
إنسانًا يرفضُ أن يكونَ ضحيّةً لزمنِكِ. 

هذا هو التحدّي:  
أن تمشيَ في سوقِ العالمِ،  
وأنتَ تحملُ في عينيكَ نارًا زرقاءَ،  
وفي جيبِكَ حجرًا مِن قبرِ الحبيبِ،  
وفي صدري كلماتُ غضبٍ لم تُنطَقْ للسماءِ!  
أن تَصِلَ حافلةَ العملِ في الثامنةِ،  
بينما الكونُ كلُّهُ ينهارُ في جوفِكَ كلَّ دقيقةٍ!  
أن تدفعَ فاتورةَ الماءِ،  
والموتُ يُنادي مِن قاعِ الكأسِ:  
"أتَنساني؟"  
فتُجيبَ:  
"بل أتحدّاكَ أن تُنسيني إِيّايَ!".  

ليسَ انتصارًا...  
ليسَ رجاءً...  
ليسَ سوى تحدٍّ أعمى،  
كأنّكَ تُشهرُ قبضتَكَ في وَجهِ إعصارٍ.  
لكنَّ هذهِ القبضةَ ــ  
وحدَها ــ  
تُعلنُ أنَّ للروحِ أنياباً،  
حتى لو كانَ فريستَها الأخيرةَ  
هيَ نفسُها!  


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الأحد، 17 أغسطس 2025

طقوسُ الحبر: كيف تستخرج الكلماتُ شظايا الروح؟

 
طقوسُ الحبر: كيف تستخرج الكلماتُ شظايا الروح؟ 

"ماذا لو صار الزجاجُ المكسورُ في روحك خريطةً للضوء؟ هذه معجزةُ الحبر"


كان هناك جرحٌ لا يُرى. شظايا خفيّةٌ من أحزانٍ منسيةٍ، خيباتٍ مكبوتةٍ، صرخاتٍ اختنقت في الحنجرة، علقت في نسيج القلب كرمالٍ ساخنةٍ. لا تظهر بالأشعة، لكنّها تُحدث ألمًا غامضًا حين تدقّ الساعةُ المناسبة في أعماق الليل. 

هنا، حيث تعجز الدموع عن الوصول، تبدأ معجزة الأبجدية. ليست الكتابة تسجيلًا للأحداث، بل هي جراحةٌ روحيةٌ تُجريها لنفسك بنفسك: مبضعُك قلمٌ، ومخدّرك ورقةٌ، وتخديرك هو ذلك الشوق الجنونيّ لاستعادة نقاء روحك.  

انظر إلى يدك وهي تتحرك فوق الصفحة البيضاء: إنها لا تكتب، بل تستخرج. كل كلمةٍ تسحب شظيةً من مكانها العميق. تلك الذكرى المؤلمة التي ظلّت لسنواتٍ كخنجرٍ في الخاصرة، تصير جملةً تنزعها بلطفٍ كملقطٍ جراحيّ. ذلك الغضب المسموم الذي كان يلتهم أحشاءك، يتحوّل إلى فقاعةِ حبرٍ تنفجر على الورق فتطلق سمومها في الهواء. 

الكتابة هنا ليست نقلًا، بل ترحيلٌ وجوديٌّ للألم من جوفك إلى عالم المادة. هي نولٌ خفيٌّ ينسجُ خِرَقَ روحك المُتمزقةَ سجادًا ملوَّنًا، وبوصلةٌ تُعيدُ توازنَ اتّجاهك كلَّما ضعتَ. ألمٌ يتحوّل إلى كيانٍ ملموسٍ يمكنك طيّه، تمزيقه، أو حرقه في موقد التحرر.  

والعجيب أنَّ هذه الشظايا حين تخرج منك، لا تترك فراغًا دامغًا. بل تترك مساحةً مضيئةً تنبت فيها كائناتٌ جديدة: بصيرةٌ لم تكن موجودة، قوةٌ غريبةٌ، حكمةٌ تشبه ضوء الفجر بعد ليلة عاصفة. وهنا بالضبط – في تلك المساحة المضيئة – تُولدُ مُتعٌ لم تكن تتوقعها: كأن تتحوَّل شظايا أحزانك إلى لوحةٍ فنيَّةٍ تُدهشك، أو قصيدةٍ تلمعُ في يديْك كفراشاتٍ من نارٍ.

فأنت حين تكتب جرحك، لا تكرره، بل تعيد تشكيل علاقتك به. تصير مؤرّخًا وحكّامًا في محكمة ذاتك. السرد هنا ليس استسلامًا، بل هو سيادةٌ على الفوضى. تحوّل الفجيعة إلى حبكةٍ، والعبث إلى معنى، والضعف إلى سيرةِ مقاومةٍ. 

لا تندهشْ إن بدا التحوُّل عنيفًا أحيانًا؛ فما كان يختنقُ في الأعماق يحتاجُ زلزالًا صغيرًا لتحريره. لكن شاهدْ: الألم ينكسر على صخرة الجملة الفعلية، فيتحوّل من سيدٍ إلى مادةٍ خامٍ لبناء معبدك الجديد.  

هذه المفارقة العميقة: الكلمات التي تخرج من الجرح تكون هي البلسم. كل حرفٍ تسكبه كالرصاص السائل فوق الورق، يتحوّل إلى درعٍ شفافٍ يحميك. لماذا؟ لأنَّ الكتابة فعلٌ تمرديٌّ على الصمت الداخليّ. هي تحويل "اللامرئيّ" إلى "مُشاهَدٍ"، والمسكوت عنه إلى مُعلَن. 

حين تصير الكآبة فقرةً مقروءة، تفقد سلطانها الأسود. حين يتحوّل الخوف إلى سطرٍ، يصير غريمًا يمكنك مواجهته. إنها الخديعة العبقرية: أن تسحب الوحش من جحره إلى نور اللغة، فتنزع عنه قوته.  

ولذلك ليست الكتابة مجرد أداة، بل هي طقسٌ مقدسٌ من طقوس التطهير. كأنك تدخل معبدًا ورقيًّا كل صباح، تضيء شمعةَ القلم، وتقدّم قرابينَ الحقيقة على مذبح الصفحة البيضاء. لا يحتاج هذا الطقس إلى كاهنٍ وسيط، فأنت الكاهن والمُصلّي والقربان. 

الصمتُ الذي يسبق الكتابة هو تبريك المكان، والهمسُ الذي يصاحب السطور هو تراتيل التحرر، وذلك الارتعاش الخفيف في الأصابع حين تكتب أقسى الاعترافات هو لحظة اتحادٍ بين الروح والجسد. هنا، في هذا القدس الورقيّ، تُولد من جديد.  

فإذا انتهيتَ من الصفحة الأخيرة، ورأيت كومة الأورق المليئة بالشظايا المستخرجة، ستسمع صوتًا خافتًا في أعماقك:  
"انظر! هذا قلبي... كان ممزقًا،  
والآن صار كتابًا مفتوحًا". 

لا تبحث عن جواهرك في خزائن الآخرين.  
أعظمُ اللآلئ تُستخرج من أعماق جراحنا،  
بالحبر لا بالدموع،  
بالكلمات التي تصير مناجمَ للضوء.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

السبت، 16 أغسطس 2025

سجينُ الانتظار: بين شرف الصبر وجريمة الوهم!

 
سجينُ الانتظار: بين شرف الصبر وجريمة الوهم! 

يأتي الانتظار، في بدايته، كضيف ثقيل الوطأة، ثم يتحوَّل سريعًا إلى سجان لا يرحم. يُدخلنا قسرًا إلى غرفة منفردة داخل ذواتنا، حيث تُقاس الدقائق بنبضات القلق، وتُسكب الساعات كالرصاص الذائب فوق صدر الأمل. إنه ذلك الحيز الغامض بين اليقين والعدم، حيث تُعلَّق الحياة على مشجب "ربما". 

لكن جوهر المأساة ليس في الانتظار نفسه، بل في السكين الخفية التي تقطع الحد الفاصل بين الصبر الشريف والوهم المُتدثر برداء الفضيلة. متى يكون انتظارنا شجاعة تُكلّل إيمانًا بحقٍّ واضحٍ، ومتى يصبح هروبًا واهيًا من مواجهة الفراغ الذي يختبئ خلف صورةٍ نحبس أنفاسنا لأجلها؟

الانتظار الحقيقي ليس سلبيةً خانقة، بل هو فعل مقاومة صامت. هو ذلك الجذر الذي يخترق الصخر في الظلام، مؤمنًا بالشمس التي لم يرها بعد. هو صمود البحّار في قارب مهتزٍّ، وهو يحدّق في الأفق الضبابي، ليس لأنه يجهل قسوة الأمواج، بل لأنه يعرف يقينًا أنَّ شاطئًا يستحق العناء ينتظره. 

هنا، يكون الانتظار زهرةً تنبت في تربة الإرادة، تُروى بدم القلب الواعي، وتُثمر يومًا يقينًا لا شك فيه. تنتظر الأم ابنها الغائب لأن حبها حقيقة ثابتة كالنجوم. 

وكما تحمل النهايات بذورَ بداياتٍ جديدة، تنتظر الشجرة المقطوعة أن تتحوَّل إلى قيثارةٍ تُغني، لأن فناءها مَمرٌّ إلى دورةِ خلقٍ لا تنتهي. وحيثما تذروها الريحُ بحكمةٍ كونية، تنتظر البذرة الفصل، لأن دورتها قانونٌ كونيٌ لا يرتهن للأوهام. هذا الانتظار نبيل، شجاع، اختيارٌ وليس مصادرةً للروح.

لكنّ هناك انتظارًا آخر... انتظارًا مسمومًا، يتسلل كالضباب البارد إلى عظام الروح. هو أن ترفع تمثالًا من طين الأماني على قمةٍ منعزلةٍ في قلبك، وتسجد له كل صباح، وتنتظر منه أن ينبض بالحياة، أو أن يهطل عليك بالمعجزات. أن تحبس أنفاسك على شرفة الماضي، تحدّق في طريقٍ خَلّوه، وتصرخ في صمت: "سيعود!" بينما كل الرياح تُحدّثك عن الرحيل الأبدي. 

هنا يتحول الصبر إلى جبن متلثّم، والوفاء إلى نكرانٍ للذات، والإصرار إلى حماقة عمياء. تنتظر ليس "شخصًا" له ملامح ووعود، بل تنتظر "معجزةً" تخرق نواميس الوجود والقلوب، معجزةً تُبرّر لك الجمود وتغسل عنك مسؤولية المضي قدمًا. 

هذا الانتظار ليس سوى هروب مُزيّف إلى قفص الأوهام، حيث تُقدّم روحك قربانًا على مذبح "ماذا لو؟". وقد ننزلق جميعًا إلى هذا الوهم، لا ضعفًا، بل لأن الانتظار يتحوَّل أحيانًا إلى ملاذٍ مؤقتٍ من جرحٍ لم نُعالجه.

والفرق بين الاثنين كالفرق بين النور والظل، بين الجذر الحيّ والغصن المقطوع. يكمُن في السؤال الجوهري: هل تنتظر واقعًا ممكنًا، أم تخلق من سرابك سجنًا؟ هل يبنى انتظارك على حوار صادق مع الحياة، أم على حوار مهووس مع أصوات في رأسك؟ 

انظر إلى آثار قدميك في رمال هذا الانتظار الطويل: هل هي متجهة نحو أفق ممكن، أم تدور في حلقة مفرغة حول نفسها؟ الاستمرار في انتظار ما أثبتت الحياة فشله ليس وفاءً، بل هو إهدارٌ فادح لبهاء عمرك، لجمرةِ حياةٍ لن تعود. هو أن تدفن كنزك الحي – قلبك، وقتك، أحلامك الأخرى – في قبر وهمٍ لا يتحلل.

احذر أن يكون صبرك الجميل مجرد ستارٍ للخوف من فراغ لا تعرف كيف تملؤه بشيء جديد، أو جرحٍ تتهرب من مداواته. الحياة ليست محكمةً تنتظر فيها حكمًا خارجيًا بالخلاص؛ الحياة نهر جارف. 

الانتظار النبيل هو أن تبني سفينتك وسط التيار، واثقًا من وصولك. أما الانتظار المريض فهو أن تبقى غارقًا على الشاطئ، تحدّق في أمواج عاتية تأكل جزءًا منك كل يوم، منتظرًا أن تتحول فجأة إلى جسر. لا تدع "الصبر" المزيف يسرق رنين سنواتك. 

اكسر قيود السجن الوهمي. امشِ. فإمّا أن يتحول الانتظار إلى لقاءٍ يضيء وجه الزمن، وإلا فليكن رحيلك عن شرفة الوهم نفسها لقاءً مع الحياة التي ما زالت تنتظرك، بعيدًا عن ظل ذلك السجان الذي اخترعته من دموعك وأوهامك. الحياة أقصر من أن تكون سجين انتظارٍ لمعجزةٍ لن تأتي.


جهاد غريب 
أغسطس 2025
 

سجن الألفة: حين يتحوّل دِفءُ الجدرانِ إلى قيودٍ غير مرئيةٍ!

 
سجن الألفة: حين يتحوّل دِفءُ الجدرانِ إلى قيودٍ غير مرئيةٍ! 
 
لم تكن في البداية إلا غرفةً صغيرةً دافئةً. 
جدرانها من عاداتٍ مريحةٍ، 
أرضيتها من وعودٍ متكررةٍ، 
سقفها من "سأغيّر" معلقةٍ في الفراغ. 
ثم، دون أن تشعر، ضاقت الغرفةُ حولك. 

صارت العلاقاتُ الطويلةُ أقفاصًا ذهبيةً: 
تُبهرك من الخارج، وتخنقك من الداخل. 
تُمسك مفتاحَ الباب، لكنك تختار ألا تفتحه، لأن برودةَ الحريةِ أخوفُ من دفءِ السجنِ المألوفِ.  

كيف يصير المألوفُ سجانًا؟  
عبر طقوسٍ خفيةٍ:  
أن تبتسمَ وأنت تُكبِّل قدميك خشيةَ إزعاجِ الآخر.  
أن تدفنَ حلمًا تحت سجادةِ "هذا ليس وقتَه المناسب".  
أن تُقدّس الروتينَ حتى يصيرَ إلهًا صامتًا تسجد له كل صباح. 
 
الخوفُ هنا لا يرتدي ثوبَ الذعر، بل ثوبَ "الحكمة الواقعية": 
لماذا أهزّ القاربَ وأنا لا أجيد السباحة؟ 
لماذا يفضّل البعض ألمًا ألفه على أملٍ يخشاه؟ 
وهكذا تُصبح الألفةُ إدمانًا على المسكِِّنات الوجودية.  

لكن انظر إلى هذه المفارقة الساخرة: 
أنت تبني سجنك بحجرين متناقضين:  
حجر الراحةِ الذي يخدرك، وحجر الخوفِ الذي يقنعك أن الأسوارَ حمايةٌ لا حبسٌ. 

تظن نفسك حرًّا لأنك تملك مفاتيحَ الأبواب، غيرَ مُدرِكٍ أنَّ أخطرَ السجونِ تلك التي تُغلق من الداخل.  
السجانُ الحقيقيُّ ليس خارجًا، بل هو صوتٌ في أعماقك يهمس:  
"ابقَ.. فالوحدةُ في الخارجِ أقسى من الموتِ البطيءِ هنا".  

وفي القفص الذهبيّ، تذبل الأعاجيب.  
القلبُ يصير حارسًا للروتين،  
العقلُ يُحوّل الإبداعَ إلى مجرد أحلامٍ يقظةٍ،  
الروحُ ترقص على إيقاعٍ واحدٍ حتى تنسى أنها تستطيعُ تأليفَ موسيقاها. 

الأخطر؟ أن تبدأ بتمجيد القيود:  
تسمي الخضوع "التزامًا"، والجمود "استقرارًا"، والموتَ العاطفيَّ "نضجًا".  
تنسى أن الزنابقَ تُختنق إذا لم تُنقل من الماءِ القديم.  

التحرير يبدأ بلحظةٍ مفاجئةٍ: حين تسقط ورقةٌ من شجرةٍ خارج السجن، فتتذكر فجأةً أن للرياحِ نغماتٍ لم تسمعها منذ سنوات.  
هنا يُضاء السؤالُ المحظور: ماذا لو كسرتُ القيدَ غيرَ المرئيِّ؟ ماذا لو كان الخروجُ ليس سقوطًا، بل انبثاقًا؟ 
في تلك اللحظة، تكتشف أن المفتاحَ كان دائمًا في جيبك، لكنه صغيرٌ جدًا أمام ضخامةِ أوهامك.  

لا تُخطِئَنَّ الظنَّ: هدمُ السجونِ ليس تمردًا، بل هو إعادةُ تعريفٍ للأمان.  
الأمانُ ليس الجدرانَ التي تحتمي بها، بل الجناحانِ اللذانِ يحملانكَ عبرَ الأعاصير.  
عندما تكسرُ بابَ الألفةِ الزائفة، لا تجد فراغًا مرعبًا،  
بل أرضًا خَلاءً تنتظرك لتبني عليها قصرَ احتمالاتِك.  

فإذا سمعت يومًا صفيرَ القضبانِ في داخلك،  
تذكّر: 
أعظمُ المخاطرِ ألا تخاطرَ بتاتًا. 
أجملُ الأزهارِ تنمو في الفضاءاتِ المفتوحة، حيث لا سقفَ يحجبُ عنها نورَ النموّ. 

اخرجْ... 
حتى لو تعثّرت خطواتُك في البداية.  
فالسجينُ الوحيدُ الذي يُشفقُ عليه حقًّا  
ليس من تُغلَقُ عليه الأبوابُ، بل من يملكُ المفاتيحَ ويختارُ أن يموت جوعًا خلف أقفالٍ مفتوحةٍ.  

لأنّ الحياةَ – في جوهرها – ليست بقاءً في مكانٍ آمنٍ، بل رقصٌ على حافةِ الهاوي  
بين شجاعةِ المغامرةِ وجمالِ السقوطِ نحو المجهولِ الجميلِ.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 



جسورٌ من ضوءٍ: حين تصير المسافاتُ مجرّد وهمٍ عاطفيّ!

 
جسورٌ من ضوءٍ: حين تصير المسافاتُ مجرّد وهمٍ عاطفيّ! 

"رسالةٌ كونيّةٌ تَذُوبُ فيها الحُدود بين بكين وبيروت. تُعيد تعريف الحُبِّ في زمن الشّاشات، وتُجسِّد معنى أنْ تكون إنسانًا في العوالم الافتراضيّة"


في الكون اللامتناهي، قد يقع كوكبان في مدارٍ واحدٍ حول نجمٍ خفيٍّ، يتبادلان الجاذبيةَ والضوءَ، دون أن يلتقيا أبدًا. هكذا تبدأ بعض الحكايات في العصر الرقمي: أرواحٌ تلتقي في اللامكان، تنسج خيوطًا من كلماتٍ وكاميراتَ خافتةٍ، وتُشيّد جسورًا فوق هوّة المحيطات. 

هنا، في هذا الفضاء السحريّ، تُهزم الجغرافيا. لا حدود تفصل بين نبضة قلبٍ في بكين وأخرى في بيروت... سوى شاشةٌ مضيئةٌ تتحوّل إلى نافذةٍ كونيةٍ حين تمتلئ بصدى الوجود الإنساني. هل يُقاس اللقاء بلمس الأجساد أم بلمس الأسئلة العميقة في الظلام؟

لم تكن تلك العلاقات هروبًا من الواقع، بل واقعًا موازيًا بقوانينه الخاصة. لا تكون العواطف فيها أقلَّ صخبًا، ولا الأرواح أقلَّ اشتعالًا. ألم الفراق عندما ينقطع الاتصال فجأةً... لا يُقاس بالكيلومترات، بل بالصمت الرهيب! ذاك الذي يخيّم على غرفةٍ كانت مليئةً بضحكاته الافتراضية. 

الغياب هنا لا يقلّ واقعيةً عن غياب الجسد قربك؛ إنه غيابٌ مزدوج: جسدٌ في عالمٍ، وروح في عالمك. واللقاءات؟ هي تلك اللحظات السحرية حين يتزامن صمتكما عبر اتصال فيديو، فتشعران بأنكما تتنفسان الهواء نفسه رغم تباعد القارات.

في هذا المختبر العاطفيّ الفريد، يحدث شيء مدهش: تتعرى الأرواح قبل الأجساد. لا تُلهيك ابتسامته المثالية عن لحظات ضعفه، ولا تخدعك ملابسها عن رجفة صوتها. 

الحبّ هنا اختبارٌ صارمٌ لـ "حبّ الجوهر": أنت تحبّ ما يقوله عقلُه، لا ما يبدو عليه وجهه في إضاءة المصابيح. أنت تسمع دموعها الحقيقية قبل أن ترى زينتها. هنا تُولد لغةٌ بديلةٌ للقرب: قربٌ يُقاس بسرعة الردّ على رسالة منتصف الليل، بلهفة الانتظار لصوتٍ يقطع صمت الغرفة، وبمعرفة نبرات الصوت... التي تخفي ألمًا حتى لو قالت: "أنا بخير". اللمس يصير كلماتٍ، والنظرات تصير رموزًا تعبيريةً تكتسب عمقًا أسطوريًّا.

والسماء الافتراضية التي نتحدث عنها؟ ليست فضاءً فارغًا. إنها كونٌ موازٍ تُبنى فيه مقاهٍ خفية حيث تتبادلان فناجين قهوةٍ خيالية، وحدائقُ سمعيةٌ حيث تزرعان فيها أسراركما على خلفية موسيقى مشتركة، وغرفُ نجومٍ تفتحان سقفها الافتراضي، لتتأملا مجرّاتٍ حقيقيةً من شرفتين منفصلتين. 

في هذا العالم، يصير الوقت سائلًا: ثلاث ساعات محادثة تمرّ كثلاث دقائق، وثلاثة أيام انتظارٍ للرد تطول كثلاثة قرون. وتصير الجغرافيا مجرّد خلفيةٍ صامتةٍ حين يضيء شريط الدردشة.

فلا تستخفّ أبدًا بقوة جملةٍ كُتبت في لحظة صادقة؛ فهي قبلةٌ عابرةٌ للقارات، وحضنٌ يُرسل عبر الأثير. قد لا يلمس أصابعك، لكنه يلمس ذلك المكان الخفيّ في روحك، ذلك الذي لم يلمسه أحدٌ قبله. 

قد لا تسمع خطواته على سُلّم بيتك، لكنّك تسمع صمتَه المفعم بالأشياء التي لم يقلها. هذه العلاقات تُعلّمنا درسًا وجوديًّا صاعقًا: الحبّ لا يسكن المسافات، بل يسكن الاهتمام. لا يحتاج إلى المكان نفسه، بل إلى اللحظة نفسها التي يتوقف فيها العالم الخارجي، ويصير كلّ ما هو مهمّ... ذلك المستطيل الضوئيّ حيث يظهر وجهٌ يقول لك:  
"أنت هنا... معي... الآن".  

لذلك، إذا سألك أحدٌ: "كيف تحبّ من لم تلتقِ به؟"  
أرِه نافذتك المضاءة ليلًا، ورسائلك المتراكمة كنجومٍ على شاشتك، وصمتك الذي صار أثمن لأنّك تعرف أنّ هناك روحًا أخرى تتنفّس معك تحت القمر الافتراضي نفسه… ذلك القمر الذي صنعتماه من ضوء شاشتيكما، ليكون دليلًا على أنّ اللقاء الحقيقيّ يبدأ حين تلتقي هزّات الروح قبل أن تلتقي الأجساد.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الجمعة، 15 أغسطس 2025

عاصفة الأحرف: كيف يُولد الإعصارُ جواهرَ الكلام؟

 
عاصفة الأحرف: كيف يُولد الإعصارُ جواهرَ الكلام؟ 

كان هدوءٌ ما يسبق العاصفة. ليس الهدوء الذي يُخدِّر، بل ذلك الذي يترصَّد، كأرضٍ جافةٍ تختزن في صمتها قابليَّةً للاشتعال. ثم يأتي الحبُّ كصاعقةٍ في ليلٍ مُظلم. لا يضيء فحسب، بل يُفجِّر في أعماق الروح مناجمَ من الكلمات المُكبلة، والصور المُختنقة، والأسئلة التي لم تجد فمًا. 

هنا، في قلب الزلزال العاطفي، تُكتشف لغاتٌ بشريةٌ لم تُسجَّل في معجمٍ بعد. هل رأيتَ كيف تُولَد النجوم من اصطدام عنيف؟ هكذا يُولَد الإبداعُ الحقيقيُّ: من ارتطامٍ كونيٍّ بين روحين تبحث كلٌّ منهما عن مرآةٍ في الأخرى، حتّى لو انتهى الأمرُ إلى شظايا.

لكن هنا تتغير القواعد...
العلاقة العاصفة ليست حدثًا عابرًا؛ إنها مُعجَزِن كيميائيٌّ. تختلط فيها دموع الغضب مع أنفاس الشوق، وصُوَر الوداع مع شظايا الذكريات، فتحدثُ "تفاعلاتٌ نوويّةٌ" داخل كهوف اللاوعي. 

الألم هنا ليس نهاية، بل مادةٌ خامٌ خامدةٌ تنتظر من يلمسها بعصا سحرية. هذا الألم العالي النقاوة، المكثَّف كحممٍ بركانية، لا يحرق الروح وحدها؛ إنه يُذيب حواجز التعبير التقليدي. 

يصير الصراخ قصيدةً، والوجع لوحةً، والحيرة روايةً، والغضب سيمفونيةً. ليس لأن الفنّ علاجٌ فحسب، بل لأنّ العاطفة الجارفة تخلق ضغطًا وجوديًّا يتحوّل تحت وطأته الرمل العادي إلى ألماسِ كلام.

انظر إلى الكلمات التي تُكتب في لهيب الفراق، أو في سُكر اللقاء الأول: إنها لغةٌ أخرى. لغةٌ تختلس مفرداتها من نبضات القلب المرتعش، ومن ظلّ يدٍ اختفت، ومن رائحة عطرٍ علقت في الفراغ. لغةٌ تخترق القشرة السميكة للعادات اللغوية لتصل إلى "نقاء الصرخة الأولى". 

كيف يُعبَّر عن ألمٍ لم يسبق له مثيل؟ بكلماتٍ لم تُخلَق بعد. لهذا يخترع العاشقُ المبدعُ مفرداتٍ من دمه: استعاراتٍ مجنونةً، تراكيبَ متمردةً، إيقاعاتٍ تشبه دقات قلبٍ على شفا الانكسار. الإبداع هنا ليس ترفًا؛ إنه ضرورةٌ بيولوجيةٌ كالتنفس، محاولةٌ يائسة لترجمة اللامترجَم، لصيد السراب بيد الكلمات.

لذلك، في هذه المفارقة القاسية تكمن العبقرية: أعظم الكلمات تُولد من أقسى الصراعات. العلاقة التي تهدد بتدميرك تصبح، رغمًا عنك، معملك الأكثر خصوبةً. كل خلاف عنيف يدفع طبقاتٍ جديدةً من الحقيقة إلى السطح، كل فراقٍ مؤلمٍ يمنحك "عدسةً مكبِّرةً" ترى بها تفاصيل نفسك ونفس الآخر لم تكن تراها في زمن القرب. 

العاصفة تُقلع الأشجار، لكنها تكشف أيضًا عن جذورٍ كانت مختبئة. 
تخيّل هنا شخصًا، بعد أن تهدأ الرياح، يجلس أمام طاولة صغيرة في غرفة معتمة، وبين يديه دفتر مفتوح وقلم مرتجف... يبدأ ببطء في تحويل الجذور المكشوفة إلى حكاية.

هذا الكشف المؤلم هو الوقود. إنه يمنح الفنَّ عمقه المأساوي، وصدقه الذي يهزّ المتلقي من الأعماق. الفن الناتج ليس مجرد تسجيلٍ للأحداث؛ إنه "تخليدٌ كيميائيٌّ" للّحظة العابرة، تحويل المرارة إلى نبيذٍ فنيٍّ يُسكَر به عبر العصور.

لذلك، عندما تسقط علاقةٌ عظيمةٌ كشجرةٍ عملاقة، لا تنظر إلى الخراب فقط. انظر إلى "منشار الكاتب" الذي يبدأ في تقطيع جذعها الضخم، ليحوله إلى ألواح رواية. 

استمع إلى "إزميل النحات" وهو ينحت من صخر الذكريات تمثالًا يخلد الجمال الذي كان. تذوّق "ريشة الرسام" وهي تحوّل دموع المساء إلى ألوانٍ على قماش الخلود. 

الحب العاصف يعطينا جرحًا، لكنه يعطينا - في اللحظة ذاتها - الإبرة والخيط الذهبي لخياطة ذلك الجرح وتحويله إلى نقشٍ فنيٍّ مبهر. الألم العاطفي هو الثمن، والفن الخالد هو العملة التي نستعيد بها جزءًا من استثمارنا المهدر في متحف الوجود.

لكن احذر... ففي كلّ كلمةٍ تُخلَّد، في كلّ لوحةٍ تُرسم، في كلّ نوتةٍ تُكتب من دم القلب، يُدفع "قسطٌ من الروح". هل الإبداع المُشتقّ من العواصف العاطفية انتصارٌ أم هزيمةٌ مُؤجّلة؟ هل نحن نخلّد اللحظة أم ندفنها في قبرٍ من جمالٍ وهمي؟ 

ثم، يأتي ذلك الصمت العميق بعد انتهاء الكتابة... كهدنةٍ قصيرة بينك وبين قلبك، قبل أن تكتشف أن النزيف لم يتوقف حقًا.

ربما يكون أعظم ما يمنحنا إياه الحبُّ المؤلم ليس الفنَّ نفسه، بل تلك المفارقة الصاعقة: أن تتحوّل نارُ احتراقنا إلى نورٍ يضيء ظلام الآخرين، وأن تصير قصيدتك التي كتبتها من دموعك مركبًا يعبر به غرباءُ لم تعرفهم أبدًا بحارَ أحزانهم. هل هذه نهاية المأساة؟ أم بداية الخلود؟


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

طقوس الجرح المذهّب: حين يصير الحبُّ معبدًا لتعذيب الذات!


طقوس الجرح المذهّب: حين يصير الحبُّ معبدًا لتعذيب الذات! 


في السراديب المظلمة للروح، يُقام أحيانًا معبدٌ سريٌّ. ليس للعبادة، بل لجلّادٍ نعشقه. ننحني أمامه طوعًا، ونقدّم على مذبحه أغلى قرابيننا: كرامتنا، سلامنا، حدودنا. نسمّي هذا الطقس "حبًّا"، لكنّ حباله الحريرية تخفي ندوبًا عميقة. 


هذه هي المفارقة القاتلة: أن نُعلن الحرب على أنفسنا باسم أقدس المشاعر، أن نرتدي ثوب الضحية طالبين المزيد من السُّمِّ العاطفي، كأنما الجرح وسامٌ نتباهى به في حفلات الشفقة الذاتية.


كيف يحدث هذا التحوّل الخبيث؟  
تبدأ اللعبة بـ "خدعة الوفاء". نخلط بين تحمّل الأذى والإخلاص، بين التمزّق اليومي والبطولة الرومانسية. وهكذا، ما بدأ كخدعة يتحول سريعًا إلى نمط يسيطر على شعورنا بالحب، فنُدمن على الألم كدليلٍ على صدق المشاعر: "لو لم أتألم، فهل كنتُ أحب حقًّا؟". 


كل إهانةٍ نتخطّاها، كل حدٍّ نكسره، كل دمعةٍ نخنقها – نراها ميداليّاتٍ نُعلّقها على صدر هويتنا الجديدة: "المنتحر العاطفي البطَل". وهكذا يُصبح الحبُّ ساحةً لـ "انتقام الذات من الذات"، حيث نعاقب ذلك الطفل الجريح فينا بإعادة تمثيل جروحه بأدواتٍ أكثر حدّة.


والأعمق من ذلك: الحب المؤذي قد يكون أقنعةً فاخرةً نختبئ وراءها من مواجهة الفراغ. أليست علاقةً مدمرةً أفضل من مواجهة ذلك الصمت الرهيب في المرآة؟ أليس استنزافُنا في معارك غيرنا أسهل من خوض معركة وجودنا الخاص؟ 


وفي خضم هذا الصراع، يتحول "الحبيب" إلى كبش فداءٍ كوني نُلقي عليه بكلّ مخاوفنا: خوفنا من الحرية، من المسؤولية، من اكتشاف أننا – دون دراما الألم – أشخاصٌ عاديون لم يجدوا بعدَ بصمتهم في الكون. نختار علاقةً تقتلنا كي لا نواجه السؤال المرعب: "من أنا حين لا أُجرح؟".


ومع ذلك، انظر إلى عبقرية هذه الآلية الشيطانية:  
نُذهّب سلاسلنا، ونسمّي الخضوع "تضحيةً"، والذل "عطاءً"، والاحتلال العاطفي "امتلاكًا". 


نُزيّن قفصنا بزهور الشهادة: "أنا أتحمّله لأنّي قويّ"، "أحبّه رغم كل شيء". لكنّ زهور الأوهام لا تنبت في تربة الحقيقة، فالقوة الحقيقية تكمن في جرأة النظر إلى المرآة وسؤالها:  
هل هذا حبٌّ أم طقوسُ إحراقٍ ذاتيٍّ؟  
هل تمسكُ بيدٍ تؤذيك لأنك تُحبها، أم لأنّ الألمَ مألوفٌ والشفاءَ مجهولٌ مرعب؟  


في نهاية المطاف، تُدرك أنَّ هذا "الجنون المقدس" ليس حبًّا، بل هو هروبٌ من مواجهة معجزة وجودك. التمسك بالعلاقة المؤذية يشبه بقاءَ بحّارٍ في سفينةٍ غارقةٍ يرفض النجاةَ كي لا يواجهَ رعبَ المحيط الواسع. 


في الواقع، الخلاص يبدأ بلحظةٍ وحيدة:  
أن تسحب يديك من النار المُقدسة التي تُحرقك،  
وتكتشف أنّ الجرأةَ الحقيقيةَ ليست في تحمّل الأذى، بل في مواجهة الفراغ الرهيب الذي خفّيتَ منه وراء لهيب العلاقة.  


لكن هنا يكمن الفرق: لا تخلط بين الألم والحبّ.  
الحبّ لا يطلب منك أن تُصلب نفسك على مشنقته.  
الحبّ الحقيقيّ هو الذي يجعلك تقف أمام المرآة فجأةً فترى – 
لأول مرةٍ – وجهَ إنسانٍ كاملٍ يستحقّ السلام.  


فإذا كان "حبّك" يُذيب هذا الوجه في بوتقة الألم،  
فاعلم أنك لستَ في معبد الحب،  
بل في سجنٍ رائعٍ بنيتهُ من أوهامك،  
ومفتاحُه ليس في يد الآخر،  
بل في جرأةِ صرخةٍ واحدةٍ:  
"كفى..  
لن أقدّم ذاتي قربانًا على مذبح أوهامي بعد اليوم". 



جهاد غريب 
أغسطس 2025 



هندسة الأعماق!

 
هندسة الأعماق! 

"كيف تصنع البحار الهادئة أعاصير الروح؟"

في البداية، كان مجرد بركةٍ صافيةٍ.
ثم فجأةً، انفتح القاعُ، وابتلعتك هاويةٌ مائيةٌ لا تُرى نهايتها. 
هذه هي المفارقةُ المخيفةُ للعلاقاتِ العميقةِ:  
كلما نزلتَ إلى الأعماقِ،  
ازدادَ جمالُ المرجانِ،  
وازدادَ ضغطُ الماءِ على عظامِ روحِك.  

العمقُ هنا ليس اختيارًا،  
بل هو ديناميكيةٌ طبيعيةٌ لحبٍ حقيقيٍّ:  
أنت لا تُحبُّ سطحَ الآخر،  
بل تغوصُ نحوَ أعماقهِ المجهولةِ...  
وحينَ تصلُ،  
تكتشفُ أنَّ الأعماقَ مليئةٌ بالتياراتِ الباردةِ والكهوفِ المظلمةِ.  

هل رأيتَ المدَّ والجزرَ؟ 
كيف يُولد الجمالُ الألمَ؟  
عبرَ معادلةٍ كونيةٍ:  
"ما يلمسُ أعمقَ مكانٍ فيك...  
يلمسُ أيضًا أعمقَ جرحٍ فيك". 

العلاقةُ السطحيةُ لا تكشفُ إلا الظواهرَ،  
أما العلاقةُ العميقةُ فتُجري حفرياتٍ في طبقاتِ اللاوعي.  
كلُّ اكتشافٍ جميلٍ يقابلهُ اكتشافٌ موجعٌ:  
هذا التناقضُ الذي تخبئهُ في صدرِك،  
ذلكَ الطفلُ الجريحُ الذي يختبئُ وراءَ قوةِ شخصيتِه،  
تلكَ الشكوكُ التي تنمو في الظلِّ كالمرجانِ الأسودِ.  
أصغِ إلى هديرِ الأعماق...  
كلما ازدادَ العمقُ،  
ازدادَ احتكاكُ الأرواحِ بجروحِ بعضها.  

والأقسى:  
أنت تختارُ هذا الألمَ.  
كما يُغلقُ الغوّاصُ بابَ غوّاصتِه طواعيةً وهو يعلمُ أنَّ النوافذَ قد تتحطّم. 
نعم...  
العلاقاتُ العميقةُ هي "سجونٌ نختارُ أبوابَها الذهبيةَ".  
نرفضُ الهربَ من العاصفةِ لأننا نعرفُ سرًّا وجوديًا:  
"الهدوءُ السطحيُّ أخطرُ ألفَ مرةٍ من العاصفةِ العميقةِ".  

نفضّلُ ألمَ الحقيقةِ على سعادةِ الوهمِ،  
ونرتضي ضغطَ الأعماقِ على سهولةِ الطفوِ على السطحِ.  
في هذهِ الأعماقِ فقط،  
نشعرُ أننا أحياءٌ رغمَ أنفاسنا المتقطعةِ،   
أننا حقيقيون رغمَ تشقّقاتِنا.  

انظرْ إلى الفيزياءِ العاطفيةِ:  
العلاقةُ العميقةُ كـ "غوّاصةٍ" تتحطّمُ نوافذُها تحتَ الضغطِ.  
كلُّ مشكلةٍ تُصبحُ اختبارًا لتماسكِ الهيكلِ،  
كلُّ خلافٍ يتحوّلُ إلى تمرينِ إنقاذٍ من الغرقِ،  
كلُّ صمتٍ يُشبهُ فقدانَ الإشارةِ في قاعِ المحيطِ.  

لماذا لا نهربُ؟  
لأننا اكتشفنا أنَّ الألمَ هو اللغةُ السريةُ التي تتحدثُ بها الأرواحُ المتشابهةُ.  
ولأننا نعرفُ أنَّ الزلازلَ تُظهرُ معادنَ الأرضِ الخفيةَ.  

في عينِ العاصفةِ،  
حيثُ تنكسرُ الأشرعةُ وتتلاطمُ الأمواجُ،  
يحدثُ السحرُ:  
تتحوّلُ الذاتُ إلى "كائنٍ برمائيٍّ".  
تتعلمُ أن تتنفس تحتَ الماءِ،  
أن ترى في الظلامِ،  
أن تصنعَ من دموعِك ملحًا يحفظُ طعامَ روحِك.  
العلاقاتُ العاصفةُ تُخرّبُ مساحاتِ الراحةِ،  
لكنها تبنيك قصرًا من المرونةِ في مكانٍ لم تكن تعرفه.  

لذلك،  
إذا سألني أحدٌ:  
"لماذا تتحمّل أعاصيرَ الحبِّ؟"  
سأريه صدفةَ اللؤلؤِ التي خرجتْ من محارتي المكسورةِ:  
"انظرْ..  
هذهِ التشققاتُ فيّ ليست جروحًا،  
بل مداخلُ لنورٍ جديدٍ.  
هذا الألمُ ليسَ ثمنَ الحبِّ،  
بل هو رسمُ الجمرةِ التي تدفئُنا حينَ ينطفئُ كلُّ شيءٍ. 

نعم... تؤلمني أكثرَ مما تسعدني،  
لكنّي لو خُيّرتُ ألفَ مرةٍ  
بينَ بحيرةٍ هادئةٍ  
ومحيطٍ يهدّدُ بابتلاعي...  
لاخترتُ الغرقَ في أعماقهِ  
لأنّي أعرفُ يقينًا:  
بعضُ الأرواحِ وُلدَتْ لتغوصَ،  
لا لتطفو". 

فلا تَلُم العواصفَ...  
بل الْهِمْ بالغوّاصينَ:  
"كم من لؤلؤةٍ وُلدتْ  
من رحمِ الاحتكاكِ بينَ القلبِ  
وأصدافِ الجروحِ في قاعِ المحيطِ؟"  

أتعلمُ؟  
البحرُ الحقيقيُّ لا يعرفُ أمواجًا بلا فسحاتٍ —  
تلكَ اللحظاتُ حيثُ يلتقطُ الغواصُ أنفاسَهُ  
ليغوصَ أعمقَ في ممالكِ الأعماقِ.  

السعادةُ هنا ليست غيابَ الألمِ،  
بل هي لحظةُ الصمتِ بينَ موجةٍ وأخرى،  
حينَ تكتشفُ أنَّ قلبَكَ  
صارَ سفينةً وحيدةً قادرةً على عبورِ أيّ إعصارٍ  
بشراعٍ اسمُه "العمق".


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الخميس، 14 أغسطس 2025

مراسيمُ الامتنانِ للذي رحل: لماذا لا نُضَمِّدُ جراحَ الحب؟

 
مراسيمُ الامتنانِ للذي رحل: لماذا لا نُضَمِّدُ جراحَ الحب؟ 


أيُّها الغريبُ الذي صارَ خريطةً في دمي...  
أكتبُ إليكَ اليومَ لا بحثًا عن عودةٍ، بل بوصفةِ شكرٍ على الرحيل.  
أنت لم تكُن خطأً، بل كنتَ موسمَ أمطارٍ في صحراءِ الروح، علّمتَني كيف تنبتُ الزهورُ المؤقتةُ فوق أرضٍ قاحلةٍ. نعم، رحلتَ، لكنّك خلّفتَ وراءك شيئًا أغلى من البقاء:  
ألمًا جميلًا يضيءُ في الظلامِ كقنديلِ بحرٍ.  

هل تعرفُ كيف يُصبحُ الغريبُ جزءًا منّا؟  
ليس بالتملكِ، بل بالانكسارِ.  
أنت الذي دخلتَ حياتي كرسالةٍ مختومةٍ بلا عنوانٍ، وتركتَها ككتابٍ مفتوحٍ على جملتي الأجمل. لم تكن نهايتُنا فشلًا، بل كانت "دورةٌ كونيةٌ" أتممتَ فيها دوركَ:  
زرعتَ بذورَ الحنانِ في أرضٍ لم تعرفْهُ، وسقيتَها بنبضاتِ قلبكَ حتى صارت شجرةً قادرةً على تحمّلِ صقيعِ الغيابِ. رحلتَ، لكنّ جذورَكَ ما زالتْ تُنبِتُ فيّ زهورَ القوةِ.  

بعضُ الحبِّ مُصمَّمٌ كي يكونَ "جسرًا مؤقتًا" لا بيتًا دائمًا.  
أنت لم تكُن محطّةً نهائيةً، بل كنتَ القطارَ الذي أوصلني إلى محطّةِ نفسي.  
وتلك هي المفارقةُ العبقريةُ:  
أعظمُ الهدايا العاطفيةِ لا تُغلَّفُ بالخلودِ، بل بالزوالِ.  
فلو بقيتَ، لما عرفتُ ثمنَ اللحظةِ،  
ولو لم ترحلْ، لما اكتشفتُ أنّ قلبي قادرٌ على النبضِ بلا دعمِ يديكَ.  

انظرْ إلى ما خلّفتَهُ فيّ:  
هذا الألمُ الذي أشعرُ به ليس جرحًا نازفًا، بل وشمًا فنيًّا يروي قصّتَنا.  
هذه الوحدةُ ليست فراغًا، بل غرفةٌ تعلّمتُ فيها عزفَ سيمفونيةِ الاستقلالِ.  
لقد حوّلتَني إلى "خيميائيٍّ عاطفيٍّ" يغلي ذكرياتِنا في قارورةِ الزمنِ،  
فيخرجُ منها ذهبُ الحكمةِ:  
أنّ الحبَّ الحقيقيَّ لا يموتُ بانتهاءِ العلاقةِ، بل يتحوّلُ إلى وقودٍ لروحٍ أكثرَ اتّساعًا.  

في متحفِ روحي الآنَ، ثمةُ جناحٌ خاصٌّ بكَ:  
فيهِ إطارٌ لضحكةٍ لم تُسمَعْ إلا مرّةً،  
وزجاجةٌ تحوي رائحةَ قهوةِ الصباحِ التي شربناها سويًّا،  
ومخطوطةٌ لأولِ رسالةٍ كتبتَها لي وقد غمرتها دموعُ الوداعِ.  
أترى؟ أنا لا أندمُ، لأنّ الندمَ خيانةٌ لتلك اللحظاتِ التي استحقتِ الحياةَ.  

لذلك، إذا سألني أحدٌ: "ألا تؤلمك نهايتُكم؟"  
سأقولُ: "نعم... لكنّهُ ألمٌ أشبهُ بوشمِ الياقوتِ –  
يلمعُ في الظلامِ ويُذكّرني أنّني كُنتُ حيًّا بما يكفي لأحبَّ  
إنسانًا جعلَ الرحيلَ درسًا في الجمالِ".  

فشكرًا لكَ...  
لأنّك لم تُعلّمني كيف يُحبّ المرءُ إلى الأبدِ،  
بل علّمتني كيف تُحَوَّلُ النهاياتُ إلى أجنحةٍ.  
الآنَ، حينَ أرى ظلّي على الحائطِ،  
أعرفُ أنَّ جزءًا منكَ يسيرُ معي كعلامةِ استفهامٍ جميلةٍ:  
"هل تُحبّني بعد؟"  
فأجيبُ بصمتٍ:  
"نعم، لكنّني أحبُّ أكثرَ الشخصَ التي صرتُه بفضلِ رحيلِكَ".  

لأنّ أعظمَ الغرباءِ لا يغادرونَ أبدًا...  
بل يتحوّلونَ إلى إضاءةٍ داخليةٍ  
تنيرُ طريقَنا نحوَ أنفسِنا...  
حامِلينَ معهم الدليلَ الأكيدَ:  
أنَّ بعضَ الحبِّ لا يُقاسُ بالمدةِ،  
بل بعمقِ النقشِ الذي يتركهُ في عظامِ الروحِ.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


رقْصةُ الزجاجِ والماسِ: فنُّ البقاءِ جميلًا في زلازلِ الوداعِ!

 
رقْصةُ الزجاجِ والماسِ: فنُّ البقاءِ جميلًا في زلازلِ الوداعِ! 


تخيَّلْ معركةً تدورُ رَحاها في صمتٍ. في الداخلِ: أعاصيرُ تُمزِّقُ الجذورَ، صفّاراتُ إنذارٍ تصرخُ في الفراغِ، زلازلُ تُشقِّقُ أرضَ اليقينِ. وفي الخارجِ: نسيمٌ هادئٌ، عينانِ لا ترتجفانِ، يدٌ لا ترتعشُ عندَ تسليمِ قهوةِ الصباحِ. هذهِ هي حربُ المشاعرِ الحقيقيةِ، حيثُ لا تُقاسُ الانتصاراتُ بمنْ يصرخُ أعلى، بل بمنْ يُحافظُ على أناقةِ روحهِ وهوَ يسيرُ فوقَ حُطامِ قلبهِ. 

الكرامةُ هنا ليستْ مجرَّدَ رداءٍ نلبسهُ، بل هي فنٌّ وجوديٌّ لرسمِ حدودٍ بينَ فوضى المشاعرِ وقداسةِ الذاتِ. كيفَ لا تنكسرُ المرآةُ حينَ ينعكسُ عليها وجهٌ مشوَّهٌ بالألمِ؟ هذا هو السؤالُ الذي يُعيدُ تشكيلَنا. 

الانهيارُ العاطفيُّ ليسَ عارًا؛ إنَّهُ إعصارٌ بشريٌّ مشروعٌ. لكنَّ الفرقَ بينَ الضحيةِ والبطلِ هنا لا يكمنُ في حجمِ الألمِ، بل في نوعيةِ السقوطِ. هل تسقطُ كحزمةٍ مُبلَّلةٍ على قارعةِ الطريقِ؟ أم تسقطُ كبذرةٍ في التربةِ - مُمزَّقةً لكنَّها مُحتفِظةٌ ببصمةِ كيانِها؟ 

الكرامةُ العاطفيةُ ليستْ إنكارًا للجرحِ، بل هي جراحةٌ دقيقةٌ تفصلُ بينَ "أنا انكسرتُ" و"أنا دُمِّرْتُ". هي ذكاءٌ فائقٌ يمنعُ الدمَ الداخليَّ منَ التشَرُّبِ في ملابسِ العلنِ. تُشبهُ بحّارًا يشهدُ غرقَ سفينتهِ، لكنَّهُ يرفعُ عَلَمَها حتى اللحظةِ الأخيرةِ، ليسَ نفاقًا، بل لأنَّ بعضَ الأعلامِ لا تُنَكَّسُ حتى في الأعماقِ. 

هذهِ الأناقةُ ليستْ قسوةً على الذاتِ، بل هي رحمةٌ عُليا. حينَ تُمسكُ دموعَك عندَ حافةِ الجفنِ، لا تكبحُ المشاعرَ، بل تُعلِّمها "رقصةَ التوازنِ" بينَ الانفجارِ والانضباطِ. في هذا الفضاءِ الرفيعِ، تُولدُ معجزةٌ: المشاعرُ لا تختفي، بل تتحولُ إلى طاقةٍ صامتةٍ كالفحمِ المُتحجِّرِ تحتَ الضغطِ، تبني منكَ تمثالًا أقوى. 

انظرْ إلى المرأةِ التي تُودِّعُ حبيبًا خانَها بابتسامةٍ لا تشي بزلزالِها. ليستْ مُنافقةً، بل هي تُمارسُ أعلى درجاتِ السيادةِ على مملكةِ مشاعرِها. تعرفُ أنَّ تناثرَ الزجاجِ الداخليِّ لا يُبرِّرُ إيذاءَ الآخرينَ بشظاياهُ. تعرفُ أنَّ كرامتَها ليستْ ردَّ فعلٍ عليهِ، بل حدٌّ فاصلٌ بينَها وبينَ الفوضى. 

إنَّها مفارقةٌ عابرةٌ للقرونِ: أعمقُ أحزانِنا تُنتجُ أرقى أشكالِ الجمالِ الإنسانيِّ. تلكَ اليدُ التي ترسمُ خطَّ الرصاصِ بوضوحٍ وهيَ ترتجفُ، ذلكَ الصوتُ الذي يُغنِّي بثباتٍ وهوَ يحملُ ألفَ انكسارٍ، تِلكَ العينانِ اللتانِ تلمعانِ كالنجمتينِ في ليلةِ فراقٍ مُظلمةٍ... وكأنَّهما قِطَعٌ من زجاجٍ صامتٍ. 

ليستْ قسوةً، بل هي "شجاعةٌ ناعمةٌ" تُحوِّلُ الألمَ إلى بيانٍ بصريٍّ عن معنى الصمودِ. كأنَّهم يقولونَ للعالمِ: "نعم، قلبي تحطَّمَ، لكنِّي ما زلتُ أملكُ إصبعًا يُشيرُ إلى النجومِ". هنا تكمنُ الأناقةُ العاطفيةُ: في تحويلِ الانهيارِ إلى أداءٍ مُقدَّسٍ للكرامةِ، حيثُ تكونُ أنتَ الفنانَ والعملَ الفنيَّ في آنٍ. 

وفي لحظةِ الوداعِ القاسيةِ، تتجلَّى ذروةُ هذا الفنِّ. الوداعُ الجميلُ ليسَ خداعًا، بل هوَ آخرُ هديةٍ تُقدِّمُها لنفسِكَ قبلَ أنْ تُغلِقَ البابَ. هوَ أنْ تسمعَ صوتَ البابِ يُغلَقُ وراءَكَ دونَ ارتعاشةٍ. 

هو أنْ تمسحَ دموعَكَ بظهرِ يدِكَ، وتنظرَ في عيني مَنْ جرحَكَ، وتقولَ بكلماتٍ واضحةٍ كالبلورِ: "شكرًا". ليسَ لأنَّ الألمَ لم يكنْ حقيقيًّا، بل لأنَّ كرامتَكَ أكبرُ منْ أنْ تنحنيَ للانتقامِ. 

هو أنْ تحملَ حقيبةَ ذكرياتِكَ بيدٍ ثابتةٍ وكأنَّكَ تحملُ مخطوطةَ تاريخِكَ الخاصِّ التي لنْ تدعَ أحدًا يُشوِّهُها. الوداعُ بهذهِ الأناقةِ هوَ انتصارٌ مُزدوجٌ: تدفنُ ما ماتَ، وتُحافظُ على ما يخلُدُ فيكَ - كرامتَكَ. 

فإذا رأيتَ يومًا إنسانًا ينهارُ من الداخلِ كزجاجٍ مُطرَّقٍ، لكنَّهُ يسيرُ في العالمِ كالماسِ المصقولِ، فاعلمْ أنَّكَ أمامَ أعظمِ فنّانٍ في حربِ المشاعرِ. لقدْ حوَّلَ انكسارَهُ إلى إكليلٍ شفّافٍ يُكلِّلُ رأسَهُ. هوَ لا يُخفي التشققاتِ، بل يملؤُها بذهبِ الكبرياءِ، فيجعلُها خريطةً مُضيئةً لرحلتِهِ عبرَ العاصفةِ. 

وفي النهايةِ، حينَ يُغادرُ ساحةَ المعركةِ بظهرٍ مُستقيمٍ وقلبٍ ينزفُ، تُدرِكُ أنَّ الجمالَ الحقيقيَّ ليسَ في عدمِ السقوطِ، بل في طريقةٍ تُلملمُ بها أشلاءَكَ وأنتَ تُلوِّحُ للعالمِ:
"انظروا! هذهِ هي الكرامةُ... تنزفُ جوهرًا ولا تتدنَّسُ بالوحلِ". 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ميثاق التحرير: حين يكون الفراقُ أرقى أشكالِ الحبِّ!

 

ميثاق التحرير: حين يكون الفراقُ أرقى أشكالِ الحبِّ! 

كان يجب أن تُزهقَ أرواحٌ كي تعيشَ أرواحٌ.  
هكذا يُوقَّعُ أحيانًا "ميثاقُ دمٍ عاطفيّ":  
لا بطلقةٍ، بل بجرحٍ نظيفٍ يُجرحُ بالوعي. 

الفراقُ هنا ليس هزيمةً،  
بل هو جراحةٌ وجوديةٌ تُنقذُ ما تبقّى من جمرةِ الروحِ.  
أن تُطلقَ سراحَ من تحبُّ ليس غيابَ حبٍّ،  
بل هو ذروةُ الحبِّ:  
أن تختارَ الموتَ كي يُولدَ منك إنسانٌ جديدٌ.  

تخيّلْ:  
يداكَ ترسمانِ حدودَ "دولةِ الحبِّ" المنهارةِ،  
لا بالحديدِ والنارِ،  
بل بمدادِ الشجاعةِ. 

"وثيقةُ السلامِ" التي تُبرمُها مع من رحلَ  
تبدأ بتوقيعٍ داخليٍّ:  
"أُعلنُ هدنةً مع نفسي...  
وأرفعُ علمَ الاستسلامِ لِما لا يُغيّر". 

هنا، في محكمةِ الوجدانِ،  
تُبرئُ نفسَكَ من تهمةِ "الفشلِ"،  
وتحكمُ على العلاقةِ بـ "الإعدامِ الرحيم".  

هل رأيتَ كيف يُحرّرُ البستانيُّ الشجرةَ من أغصانِها الميتة؟  
هكذا يكونُ الفراقُ:  
قطعٌ مؤلمٌ لِما كان جزءًا منك،  
لكنّك تعلمُ أنَّ الحياةَ لن تتدفقَ في الجذعِ إلا بهذا البترِ.  
أنت لا تتخلّى عن الحبيبِ،  
بل تُخلّصُه من سجنِ علاقةٍ صارَت قبرًا لاثنينِ.  

أتعرفُ أرقى أنواعِ الحبِّ؟  
أن تقولَ: "اذهبْ"  
بينما كلُّ خلاياك تصرخُ: "ابقَ"...  
لأنّك تُحبُّه أكثرَ من أن تقتله بتمسّكِك.  

في هذا الفراغِ المهيبِ،  
حين تسقطُ الأقنعةُ وتتكشّفُ الأرضُ الخرابُ،  
يبدأ المخاضُ العظيمُ.  
نعم، الفراقُ وِلادةٌ:  
أنتَ تدفع بألمٍ كألمِ الوضعِ ذاتًا كانت مختفيةً وراءَ "نحنُ".  
كلُّ دمعةٍ تُذرفُ... هي ماءٌ يسبقُ خروجَ كيانِك الجديدِ.  
كلُّ صرخةِ حزنٍ... هي آلامُ توسّعِ رحمِ الوجودِ.  

وفي النهايةِ،  
تستلقي منهكًا على سريرِ وحدتِك،  
تحمل بينَ ذراعيك طفلًا غريبًا:  
"أنتَ"...  
التي نسيتها في زحمةِ العطاءِ.  

لا تنظر إلى الوراءِ كأنّك خسرت معركةً.  
الفراقُ النبيلُ هو نصرٌ على أعلى منصةٍ.  
أن تقف في الميدانِ الفارغِ،  
وحدك،  
بلا ضحايا،  
بلا دمارٍ،  
فقط غبارُ معركةٍ هادئةٍ... وجرحٌ نظيفٌ سيندملُ ليصيرَ ندبةً فخريّةً. 

ندبةٌ تقولُ للعالمِ:  
"هنا...  
كانت الحربُ العاطفيّةُ الوحيدةُ  
التي انتهتْ بتحريرِ الأسرى  
لا باستعبادِ الناجينَ".  

فإذا سألك أحدٌ: "كيفَ وقّعتَ وثيقةَ سلامٍ مع قلبِكَ؟"  
أريه ندبتَك...  
واقرأ له بنودَها الخفيةَ:  

البندُ الأولُ: أعتذرُ لنفسي عن سنواتِ المقاومةِ الوهميةِ.  
البندُ الثاني: أُعلنُ نفسي دولةً حرّةً مسؤولةً عن حدودِها.  
البندُ الأخيرُ: أمنحُ ماضينا تأشيرةَ زيارةٍ فقط... لا إقامةٍ.  

لأنّ الحياةَ - في كوزموغرافيا الروحِ -  
لا تعرفُ السجونَ،  
بل تعرفُ التحوّلَ المستمرَّ:  
أمسِ كنا كوكبًا واحدًا...  
اليومَ صرنا مجرّتينِ متجاورتينِ.  
نتبادلُ الجاذبيةَ من بعيدٍ،  
نُضيءُ ظلامَ بعضنا بذكرياتٍ كالنجومِ،  
ونُثبتُ للكونِ أنَّ الفراقَ قد يكونُ  
أعظمَ إثباتٍ للحبِّ...  
حين يكونُ الحبُّ كبيرًا بما يكفي  
ليتحوّلَ إلى سماءٍ تحملُنا جميعًا. 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الأربعاء، 13 أغسطس 2025

وداعٌ بمذاقِ القُبْلَة!

 
وداعٌ بمذاقِ القُبْلَة! 


"نافذةٌ تَطُلُّ على حديقةٍ داخلَ قبرٍ، لكنها تَزْرَعُ بذورًا مِنَ النورِ لا تُنسى" 


في لحظةٍ يلوحُ فيها الخلاصُ كضوءٍ شاحبٍ يُخْتَرِقُ ستارةَ الغيابِ، كأنهُ يدٌ تَتَلَمَّسُ الحقيقةَ خلفَ حجابٍ من ضباب. ضوءٌ يُشبهُ انتظارَ الممثلِ خلفَ الكواليس قبلَ خطواتهِ الأولى نحو الخشبةِ المُعتمة. تُنازِعُ الأنفاسُ ظلمةَ الفُراقِ، وتتسابقُ اللحظاتُ لتشهدَ النَّفَسَ الأخيرَ مِنَ الحضورِ. 

تَتَجَمْهَرُ الهمساتُ عندَ حافةِ الوداعِ كجوقةٍ مِنَ الترانيمِ البعيدةِ، تَدوسُ على أشواكِ الصَّمْتِ، وتهمسُ للألمِ بصوتٍ يُشبهُ انكسارَ الزجاجِ: قد آنَ لكَ أنْ تستريح. كلُّ همسةٍ تحملُ سؤالًا قديمًا: هل كانَ الألمُ حجرًا رَصَدْنَاهُ في مزهريةِ الذكرى، أم بذرةً لم نعرفْ كيف نَنْسُجُ لها قميصَ النور؟ 

تَتَبَدَّدُ الصورةُ شيئًا فشيئًا، كغبارِ فانوسٍ انطفأ بعدَ رحلةٍ طويلةٍ، لكنَّ ما يتبقَّى ليسَ خواءً. هنا، حيثُ كانَ الألمُ يَقطُرُ كالرصاصِ المُذابِ في جوفِ الليل، يَنْبَثِقُ جدولٌ صافٍ يَسِيلُ بثمرٍ ناضجٍ. الثمرُ يَحملُ في لُبِّهِ ذاكرةَ العطشِ: طعمٌ يَجْمَعُ بينَ حلاوةِ العطاءِ ومُرورةِ انتظارٍ طويلٍ. تحملهُ أغصانٌ لَوَّاحَةٌ بخُضرتها، كأنها تُلَوِّحُ بكفٍّ مَطْلِيٍّ بالشفقِ للسماءِ، فتردُّ السماءُ برشاشٍ من أجنحةِ الحمام. 

تتذكرُ الأغصانُ أيامًا كانت فيها يابسةً تصرخُ بالعطشِ، فاليومَ تَنْثَني بوقارٍ وهي تمسحُ دمعةَ الأمسِ بثمرتها. لو أنَّ للقصورِ أُذُنًا لسمعتِ ارتطامَ حباتِ الرَّمادِ - التي خلَّفها الاحتراقُ - بمياهِ ذلك الجدولِ، فتُحدثُ رقصةً مُقدسةً: كلُّ حبةٍ تتحوَّلُ إلى بذرةٍ تَنْسَلُّ من بينِ أصابعِ الزمنِ، كأنها تُراقبُ معجزةَ ولادةِ نجمٍ من كائنٍ انتهى. 

الألمُ الذي كانَ يَمْزُجُ المساءَ بالحناءِ، ويجعلُ من القلوبِ قبورًا منبوذةً، صارَ الآنَ ظلاً مرتدِيًا ثوبَ المعنى. المعنى؟ نسيجٌ غريبٌ تَتَشَابَكُ فيهِ الخيوطُ: خيطُ الصبرِ، خيطُ الجرحِ، خيطُ التساؤلِ عن سرِّ البداياتِ في قلبِ النهايات. 

لم يكنْ رحيلُهُ هو البدايةَ، بل ارتدادُ صدى صوتٍ أخيرٍ لزمنٍ انكسرتْ مرآتُهُ على صخرةِ التجلِّي. جيوبُ القلبِ تزدحمُ بالقُنُوعِ، لا لأنَّ الألمَ رحلَ فحسبُ، بل لأنَّ المعنى أتى مُحتفيًا بأنوارهِ الباردةِ، كمهندسٍ يَبْني قبةً من السماءِ بحجرٍ واحدٍ انزاحَ من جدارِ العذابِ. الحجرُ الذي كانَ عبئًا صارَ رُكنةً تحملُ عفريتَ السماء! 

الآنَ، بعدَ أنْ صارَ الغيابُ رائحةَ تُفاحٍ في الهواء، رائحةٌ تَتَسَلَّلُ كطفلٍ يَلْعَبُ غُمَّاضَةَ العصورِ، تُذَكِّرُك بحلوى أمٍّ في صباحاتِ الطفولةِ، والقُنُوعُ سجادةً من شعرِ النور، تُدركُ أنَّ النهايةَ لم تكنْ فَقْدًا، بل امتلاءٌ يَتَسَرْبَلُ بالفقدِ كالعنكبوتِ يَحِيكُ من صمتهِ بيوتًا للنجوم. بيوتٌ من خيوطٍ ذهبيةٍ، تَعْلَقُ فيها النجومُ كأحلامِ الأطفالِ قبلَ أن تستقرَّ في سماءِ الواقع. 

كلُّ ما تركهُ الوداعُ وراءَهُ ليسَ فراغًا، بل بوّابةٌ تَتَزَحْلَقُ على مياهِها أرديةُ الظلالِ، ويدخلُ منها الضوءُ كطفلٍ يُحاورُ الحجارةَ: ألا تشتاقين أن تكوني زهرة؟ فتجيبُ الحَجَرَةُ بسكوتٍ يمسحُ بهِ الطفلُ دمعتها الصامتةَ، ويَعْقِدُ صُلحًا بينهما. 

ومعَ كلِّ هذا النورِ… يبقى في القلبِ مقعدٌ شاغرٌ لا يجلسُ عليهِ أحدٌ، فبعضُ الوداعِ، حتى وهو يمتلئُ بالمعنى، يظلُّ يتركُ في القلبِ فراغًا لا يَسْكُنُهُ إلا الصدى.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


دهشة الحضور في زمن العبور!

 
دهشة الحضور في زمن العبور! 

كُن هنا تمامًا، كأنك قد التقيت بنفسك لأول مرة، وأنفاسك تتناغم مع نبض العالم من حولك. لا تفكر بما مضى ولا بما سيأتي، كأن الزمن أوقف عدّته كي يمنحك برهة نادرة، وكأن الكون قرر أن يختبر قدرتك على الوجود الخالص. 

كانت الألوان تنسكب من النوافذ مثل وعدٍ قديم، والهواء يجرّ معه رائحة المطر الأولى، كأن المدينة كلها تتنفّس ببطء كي لا تكسر سحر اللحظة. وكأن كل شيء وُجد لتراه الآن. ثم انحنى الضوء على الأرض كطفلٍ يبحث عن لعبته الضائعة. 

هو الحضور الذي لا يعرف الخوف من الفقد، ولا يستعجل شيئًا، الحضور الذي يفتح النوافذ على اتساعها ليملأ رئتيك برائحة الغيم قبل المطر، وتلك النسمة التي تحمل صوت الأرض وهي تستيقظ تحت المطر، في تلك اللحظة، تشعر أن العالم يبطئ من أجلك. ويترك عينيك تتأملان التفاصيل الصغيرة التي كانت تمرّ كأنها لا تخصك، لتدرك فجأة أنها كانت طوال الوقت جزءًا منك. 

في زمنٍ يمضي بنا كما تمضي القطارات دون أن تنتظر أحدًا، هناك لحظةٌ تقف فجأةً، كأنها تقف في منتصف الجسر بين الضفتين، وتدعوكَ للنظر أسفل قدميكَ، لترى المياه التي لم تكن تراها، وهي تحمل ظلّك المتقلّب، وتلمع فيها حبات المطر كأسرارٍ معلّقة بين السماء والماء، فتكتشف أن هذا الظلّ ليس أنت، بل نسخةٌ منك تصنعها اللحظة لتُريكَ ما فاتك. 

هي دهشة الحضور في زمن العبور، دهشة اكتشافك لغيابك، كغيمة حُبست رؤيتها خلف زجاج النافذة المُغبر، وأنك تعود الآن لتوقّع على سجل الحياة باسمك الحقيقي، لا بالاسم الذي اعتدت التوقيع به.

بدأت خطوات المارة تتباطأ، وكأن الشارع فقد وعيه للحظة، فيما ارتفعت أصوات بعيدة تشبه هدير البحر في أذن مغلقة. تلك كانت اللحظة التي تغيّر فيها الإيقاع. تحرك الغيم فجأة، وتدحرج الظل فوق الجدران كأنه يجرّ خلفه الحكايات. 

وحين تهمس اللحظة بالحياة، لا يكون الهمس صوتًا، بل إحساسًا يتسلل من حافتك إلى جوهرك، كارتجافة أول لمسة، أو كابتسامةٍ لم يمهلها الخجل أن تكتمل. ربما يأتيك هذا الهمس من نسمةٍ حاملة لشيء من طفولتك، أو من ظلّ يتطابق مع ظلك على الرصيف قبل أن تلتفت، أو من عينٍ تلتقيك بعفوية تامة، وكأنها تقول لك: أنا أعرفك من قبل أن تعرف نفسك. 

وهنا، تبدأ في الإصغاء لما لا يُقال، حيث اللغة تصمت لتفسح المجال لأصوات أخرى: ارتعاشة الأصابع، بطء الخطوة، أو ذلك الصدى الخافت لخطوة لم تأتِ بعد، أو الطريقة التي يسقط بها ضوء المساء على وجهٍ تعرفه. 

فيُكشف لك أن الصمت وعاءٌ ممتلئ، ومساحة تنكشف فيها حقيقة الأشياء، كصفحة ماء صافية تكشف عمق القاع فجأةً، وأن المعنى الأعمق لا يقيم في الكلمات، بل في تلك المسافة الخفية بين نظرتين.

وفي مكان ما من ذاكرتك، هناك اللحظة التي كنّا فيها نحن، بلا أقنعة، بلا حواجز، نضحك من قلبنا حتى يخفت صوت العالم من حولنا. لا تعرف لماذا حفظتها ذاكرتك بتلك الدقة، لماذا تتذكر رائحة القهوة، التي تذوب في ضوء المساء مثل سكرٍ غير ممزوج، ونبرة الضوء في عينيه أو عينيها، وكأنك تخشى أن تتبخر من بين يديك. 

ربما لأنها كانت اللحظة التي صدّقت فيها أن وجودك ليس عبورًا عابرًا، بل حجرًا ألقِيَ في بركة الزمن، تموجاته لا تهدأ، وأنك تركت أثرًا في حياة أحدهم كما ترك هو في حياتك، وكأنكما تبادلتما توقيعًا سريًا على صفحة من الزمن لا يملك أحد غيركما قراءتها.

عِشْ كما لو أن الحياة تُشاهدك، وكأنك لستَ وحدك في المسرح، وأن خلف الستارة، ثمة عينٌ ترى كل ما يُنسى، وأن كل خطوة، كل كلمة، كل التقاء عابر، هو مشهد في فيلم أكبر بكثير من وعيك. الحياة ترى التفاصيل التي نظنّها تافهة، وتحتفظ بها في أرشيفها، كحبات عقدٍ تنفرط ثم تُجمَع من جديد، لتعيد عرضها عليك حين تكون في أمسّ الحاجة إليها، وكأنها تقول: كنتَ هنا، ولم تلتفت. 

وهكذا، حين نصغي حقًا، نكتشف أن اللحظة لم تكن تمرّ بنا، بل كانت تنتظرنا، تراقبنا بصبر، كشجرة باسقة تظلّل مقعدًا فارغًا حتى يعود الجالس، حتى نكون مستعدين لاستقبالها، لأن بعض اللحظات لا تُعطى إلا لمن يعرف كيف يراها.

وعندها صمت كل شيء، حتى العصافير بدت وكأنها تستمع، بينما يديك معلقتان بين الهواء والحقيقة، والعينان تبحثان عن شكلٍ لم يكتمل بعد. عندها تدرك أنك حاضر بكاملك.  

وحين تغادر، لا تتركك فارغًا، بل تمنحك ما يشبه الندبة الجميلة، تلك التي تشبه وشمَ نجمةٍ صغيرةٍ نُقِشَت عندما انكشف الغطاء عن قلبك، تلك العلامة التي لا يراها أحد سواك، لكنها تذكّرك أنك كنت حيًّا حقًا، ولو لدقيقة واحدة كاملة. 

قد تذوب الأصوات، وتتلاشى الألوان، وتختفي الملامح، لكن صدى تلك اللحظة يظل يتردّد في داخلك، كجرس صغير يرنّ كلما مررت على قلبك، ويوقظ الحنينَ كطائر نائم في قفص الصدر، لتتذكر أن الحضور ليس حالة عابرة، بل هو دليل على أنك قادر على رؤية نفسك خارج المرايا. 

عندها تدرك أن الإصغاء لها كان فعل نجاة، وأنك لو لم تتوقف، لضاعت منك الحياة في ازدحامها، دون أن تنتبه أن أجمل ما فيها كان يمرّ بهدوء، على مسافة نفس واحد، ينتظر منك أن تصغي.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الثلاثاء، 12 أغسطس 2025

بين البوصلة والنجم: دليل العابرين في الحياة!

 

بين البوصلة والنجم: دليل العابرين في الحياة!


نداء في عتمة اليقظة:

هل سبقَ، في زحمة صخب الوجود، أن توقفتَ؟ ليس لالتقاط أنفاسٍ منهكة، بل لتسألَ ذلك السؤالَ الذي يهبط كطائرٍ غريبٍ في حديقة الوعي: لماذا؟ لماذا أُثقل كاهلي بهذا العبور؟ ولماذا تتشابك الطرقُ أمامي كجذور شجرةٍ بلا جذع؟ 

الحياة لوحةٌ نخطُّها بأنامل القصد، وإن بدتْ في غمرة الأيام ضرباتُ فرشاةٍ عشوائية، لأنها ليست حصاةً نرميها في بحر الصدفة، بل أدواتُ رسمنا الأساسية، تلك التي تحدد ملامح اللوحة قبل أن نبلّل الفرشاة، وتكمن في أربعة كواكبٍ روحيةٍ: الرسالة؛ القضية؛ المبدأ؛ المسألة. تلك ليست مجرّد كلماتٍ نردِّدها في ندوات التحفيز، بل أقطابُ مغناطيسٍ خفيٍّ يجذبُ شظايا وجودنا نحو كينونةٍ متماسكة، نحو معنى يلمعُ في عتمة التيه.



الرسالة - البوصلة المنصهرة في روح الكون:

الرسالة. لا تسألني عن المهنة التي أرتزق منها، ولا عن الإنجاز الذي سينقش اسمي على لوحٍ من رخامٍ زائل. الرسالة أبعدُ من بصمة إبهام على وثيقة، وأعمقُ من صدى صيتٍ في أروقةٍ ضيقة. الرسالة همسُ أبديُّ يتردّد في كهف الروح منذ اللحظة الأولى: لماذا أنا هنا؟ أيُّ أثرٍ أريد أن يبقى بعد أن تتبدّد ذرّاتِي في رياح الزمن؟ 

الرسالة بوصلة الحياة، لا مصنوعةً من إبرةٍ ممغنطةٍ وورقٍ، بل منقوشةً في نسيج كيانك. تشعر بها كذبذبةٍ دافئةٍ في الصدر عندما تلامسُ عملًا ينسجمُ مع جوهرك، كأنّ نوتةً موسيقيةً فريدةً، صماءَ منذ الأزل، قد وجدتْ أخيرًا الآلةَ التي تعزفها، فتفيضُ الكَون لحنًا لم يسمعْه أحدٌ من قبل. 

الرسالة ذلك الإحساسُ بأنّ وجودك ليس حادثًا عابرًا، بل لبنةٌ ضروريةٌ في صرحٍ كونيٍّ عظيم، وإن بدت صغيرةً في عين الناظر. والضوءُ الذي ينبعثُ من داخلك ليهدي خُطَاك، حتى عندما تُطبق السُّحبُ الحالكةُ على كلّ منارٍ خارجيّ. والسؤالُ الذي لا يكلّ عن مرافقتك: أيّ أغنيةٍ تُغنّيها للعالم قبل أن يُسدل الستار؟



القضية - النجم الذي يحرق السكينة في الصدر: 

ولكن، كيف تسير البوصلة دون وقودٍ يشعل عزم السير؟ هنا يبزغ النجم: قضيتك. ليست مجرّد قناعةٍ عقليةٍ باردة، ولا هوايةً تقضي بها ساعات الفراغ. القضية... ذلك الشيء الذي يُقلقُ 
مضجعك، ويُشعلُ في عينيك شررًا إذا ما ذُكرَ، ويجعلُ عروقكَ تلتهبُ غضبًا إذا ما انتهكتْ حرمتُه. 

القضية... هاجسٌ يتسلّل إلى أحلامك، والشاغلُ الذي يلاحقك في زوايا يومك. إنها نجم الشمال الخاصّ بك في ليل الحياة الطويل، لا يلمعُ ليراها الجميع، بل ليُرشدك أنت في ظلمات الشكّ والتردّد. 

القضية... نبعٌ لا ينضب، يروي ظمأ الروح إلى الفعل، إلى التغيير، إلى البذل، ووقودُك الذي يحوّلُ التوجّه البارد للبوصلة إلى حركةٍ دافئةٍ، إلى سيرٍ متواصلٍ نحو الأفق الذي يلوح لك وحدك. 

القضية... شغفٌ يجعلك تقفُ في وجه العاصفة، ليس لأنك لا تخاف، بل لأنّ الصمتَ أمام ما يؤلمك، أو تجاهلُ ما يهمّك، أصبحَ أخطرَ من العاصفة ذاتها. النارُ التي تدفئُ رسالتك، وتحوّلها من فكرةٍ مجرّدةٍ إلى واقعٍ نابضٍ بالحياة.



المبدأ - الجذورُ التي تشرب من صخور الأبد: 

لكن، أيّ طريقٍ تسلك نحو نجمك؟ وأيّ وسائلَ تستخدم؟ هنا تنبثق الجذور: مبادئك. ليست شعاراتٍ ترفعها على جدران المكتب، ولا قيودًا ثقيلةً تكبّل حركتك. المبادئ دستورُ غيرِ المرئيِّ يحكمُ اختياراتك، الصغيرة منها قبل الكبيرة. القيمُ الراسخةُ، الصلبةُ كالجرانيت، التي تبني عليها بيتَ وجودك. وجذور الشجرة الضاربةُ في أعماق الأرض، تمدّك بالثبات عندما تعصفُ رياحُ الإغراء أو الإكراه أو اليأس. 

المبادئ... سورٌ حامي لرسالتك وقضيتك؛ تحمي البوصلةَ من التشوّه، والنجمَ من الانطفاء، والحارسُ الأمين الذي يقفُ على عتبة قراراتك، يمنعُ دخولَ كلّ ما يناقضُ جوهرك، ولو تزيّن بثياب المصلحة العاجلة، أو المنفعة السهلة. 

المبادئُ... تلك الخطوطُ الحمراءُ التي ترسمها في رمال أخلاقك، والتي يعرفُ من حولك – وأنت قبلهم – أن تجاوزها يعني خيانةً للذات قبل أيّ شيءٍ آخر. العهدُ الصامتُ الذي قطعتَه على نفسك مع فجر وعيك، والذي يشكّلُ الهيكل العظميَّ لكرامتك وإنسانيتك.



المسألة - الدرجة التي تئنّ تحت وطأة الصعود: 

وفي رحلتك هذه، بين البوصلة والنجم، فوق أرض المبادئ الصلبة، ستواجه حتمًا المسائل: التحديات اليومية، العقبات المفاجئة، الأسئلة المحيّرة، الإخفاقات المؤلمة. ليست المسألةُ نهايةَ الطريق، ولا دليلًا على فشل البوصلة أو خفوت النجم. 

المسألةُ... ليست سوى درجةٌ على السُّلم الطويل. قد تبدو عاتيةً كجبل، أو حادّةً كسكين، أو معتمةً كغابةٍ في ليلٍ بلا قمر!، لكنّ جوهرها الحقيقيّ اختبارٌ صارمٌ: اختبارٌ لقوة جذور مبادئك، ووضوح رؤية نجم قضيتك، وصحة توجّه بوصلة رسالتك. 

كلُّ مسألةٍ، كلُّ عثرةٍ، معملٌ صغيرٌ للنموّ. فيها تُصقلُ الإرادةُ كالحديد بالنار. وتكتشفُ عُمقَ جذورك وقدرتها على التشبث عندما تهبّ العواصف. وتتعلمُ فنَّ قراءة الخريطة الكونية تحت ضوء نجمك الخاص. 

المسألةُ... فرصةٌ مُغلفةٌ بِغِلافٍ شائكٍ؛ قد يجرحُ يديكَ وأنت تفتحه، لكنّ ما بداخله – إن صبرتَ وأمعنتَ النظر – قد يكون بذرةَ حكمةٍ جديدة، أو عضلةً روحيةً نمت، أو زاويةَ رؤيةٍ اتسعت. والمحكُّ الذي يفصلُ بين من يريدون ويمضون، وبين من يتمنون وينامون.



المجرة التي نحملها في صدرنا: 

فتخيل، للحظة، حياتك مجرةً شخصيةً، كونًا مصغرًا تدور فيه أفلاكُ وجودك. رسالتك... شمسٌ في قلب هذه المجرة، تشعُّ دفئًا وضوءًا يمنح كلَّ شيءٍ معناه، يُنير دروبك ويدفئ عزمك. 

قضيتك... نجومٌ متلألئةٌ، نقاطُ الضوء التي ترسمُ لك طرقَ السفر في بحر الظلام، كلّ نجمةٍ دليلٌ على شغفٍ، على همٍّ يحرّكُ فيك نبضَ الحياة. مبادئك... قوانين الجاذبية الخفية، التي لا تُرى بالعين ولكنّها تمسك بأجرام مجرّتك كي لا تتشتت في الفراغ، تحفظ توازنك، وتحدّد مداراتك بثباتٍ لا يهتزّ. 

وأما مسائلك، شُّهبٌ عابرةٌ، خطوطٌ منيرةٌ تلمعُ للحظةٍ ثم تختفي. قد تبهَرُك بضوئها السريع، أو تُخيفك باحتكاكها العنيف مع جوّ حياتك، لكنّها، في النهاية، لا تُغيّر مسارَ شمسك، ولا تُطفئ نجومك، ولا تُخلّ بقوانين جاذبيتك. هي زوّارٌ عابرون في فضاء وجودك.

ففي كلّ فجرٍ جديد، حين تفتح عينيك على هدير العالم، اسأل نفسك هذا السؤالَ الذي يُقرعُ كجرسٍ في صومعة الروح: أيّ نجمٍ أنا في مجرّتي الخاصة؟ هل تدورُ كواكيبي حول شمس رسالتي الواضحة؟ هل تشعّ نجوم قضاياي بإصرارٍ لا يخفت؟ هل تحفظُ قوانين مبادئي توازنَ هذا الكون المصغر؟ أم أنّي أسمحُ لشهب المسائل العابرة أن تُخدعني ببريقها الزائف، فأُنسى الشمسَ والنجومَ والجاذبيةَ التي لا تُرى؟

الإجابة لا تُكتب في كتب الحكمة، ولا تُلقن في قاعات الدرس. مفتاحُها يرقدُ هناك، في أعماق صدرك، حيث تدور مجرّتك الصامتة، وتُنادي أسئلتك الأبدية. ألا تسمع دقّاتها؟


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


القمر الذي يسكن التيه!

 
القمر الذي يسكن التيه! 

لم يكن ضياءً يُستعار، بل مرآةً تُظهر ما تخفيه الظلمة: آثار جراحٍ تلمع كندوبٍ فضية، وحكاياتٍ تائهة بين فجوات الضوء.  

حين تصمد الأوتار المرتعشة في وجه عاصفةٍ تجرُّ خلفها ذكرياتٍ مهشّمة، ويعلو صفير الريح من بين شقوق النوافذ كأنها تصرخ بأسماءٍ طواها الغياب، وتنتشر رائحة المطر الممزوجة بغبار النسيان في أرجاء الغرفة، يستجيب القلب لنداء أشباحٍ لم تبرح غرف الذاكرة. 
  
كانت تطلُّ من زوايا الغرفة كصورٍ بالية: طفلةٌ ترفع يديها لالتقاط القمر، وشابٌ يصرخ في ريحٍ لا تحمل صوته… أشباحٌ تعرف أن سكنى الذاكرة نعمةٌ لا تُمنح إلا للغرباء. 

هناك، يتلألأ القمر، لا في السماء فقط، بل في عيون الأوراق التي انتظرت الضوء طويلًا، كما لو كان الحبر يتهيأ للنهوض من سباته. ينعكس من ملامحه حنينٌ قديم، ضوءٌ لا يبدد العتمة، بل يمنحها شكلًا يمكن احتماله. 

لم يعد المسافر يطمئن لأن الطريق اتضح، بل لأن شيئًا في صمت القمر يشبه صمته، ولأن وعود الضوء، حتى وإن كانت خافتة، أقوى من صمت الظلمة. تذكّر أن أقوى الضوء هو الذي يولد بعد العاصفة، وأن بقايا النور قد تحمل من الشجاعة ما يكفي لعبور المسافات الموحشة.  

وقف هناك، يتأمل القمر كما لو كان يقرأ ملامح وجه صديق قديم، وشعر أن القمر يراه أكثر مما هو يراه. لم يكن الأمر طمأنة بقدر ما كان اتفاقًا صامتًا: أن التيه لن يدوم، أو هكذا أراد أن يصدق. لكنه أدرك في ذلك الصمت أن القمر لم يعد موعد خلاص، بل شاهدٌ على هُوية الضياع. كان الاتفاق مجرد هدنة: يعترف فيه بأن النور قد يكون سجّانًا للروح، كما الظلام.

لكن في عمق قلبه، كان يعرف أن القمر الذي يبتسم له الليلة، هو نفسه الذي رآه في كل رحيله وخساراته، وأنه سيبقى هناك حين يعود… إن عاد.  

لم يكن القمر يعده بالنهاية، بل كان يذكّره بأن بعض التيه لا نخرج منه أبدًا، وأننا، نتوقف أخيرًا، أو بعد حين عن انتظار الطريق، ونكتفي بالمشي داخله، بصمتٍ يثقل الخطى، وابتسامةٍ واهيةٍ لا تُقنع أحدًا… حتى أنفسنا. 

نتعلّم كيف نحمله معنا، كظلٍّ لا يتركنا، حتى حين نبتسم للسماء. نرفعه كعبءٍ مقدسٍ فوق أكتافٍ منهكة، نعثر به في الظلام فنعتبر عثراتنا دروسًا… نمسكه بيدٍ مرتعشة فلا يمسكنا! 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


دم الحبر… ووهم السكينة!

 
دم الحبر… ووهم السكينة! 

الحبر، ذلك الغارق في كفِّ راحةٍ ضاعت منذ زمن، لا يكتب بحثًا عن الهدوء فحسب، بل يتوسله كما يتوسل التائه قطرة ماءٍ في صحراء قلبه. كأنه يزحف بين جفاف اللحظات، يبحث عن ظلّ كلمة، أو عن همسة معنى تخفف وطأة الصمت. لا يرى خيوط السكينة بعيدة، بل يتخيلها تشرق كل صباح، من شمسٍ لا تحترق، بل تهمس له بالدفء الذي افتقده؛ شمسٌ تعيد إليه الإحساس بأن الحلم يمكن أن يُزرع حتى في التربة التي جفّت، وأن الضوء أحيانًا لا يأتي من السماء بل من الورق.

يتزود من ضوئها بوهمٍ جميل، كمن يشعل فانوسه بفتيل الذاكرة، ويملأ زجاجه بقطرات حلم متأخر، ويقنع نفسه أن السكون لا يزال ممكنًا، حتى لو كان تظاهرًا؛ ذلك التظاهر الذي لا يُعاب، لأنه وحده يمنح القلب مهلةً ليلتقط أنفاسه. ففي كل نقطة حبر، رعشة شوق إلى الرضا، وفي كل سطر، أمنية تلبس قناع القبول، كراقصٍ يتقن خطواته أمام مرآة لا جمهور لها.

الحبر هنا لا يكتفي بأن يكون شاهدًا على ما يُكتب، بل يتحوّل إلى وسيط بين الممكن والمستحيل، بين الصدق والوهم. ينساب على الورق كما تنساب الذكريات في الممرات الضيقة للعقل، تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى حتى لو غسله المطر. رائحة الحبر، خشونة الورق، ثقل القلم في اليد؛ كلها تشارك في صنع لحظة لا تعرف إن كانت واقعًا أو حلمًا، جرعة هدوء تسكب على جرحٍ ملتهب.

وفي النهاية، يكتشف الكاتب أن الحبر لم يكن يومًا مجرد أداة، بل كان دمًا أزرق يسيل من جرحٍ لا يلتئم. كل سطرٍ كتبه لم يكن إلا جدارًا يبنيه حول قلبه، وكل نقطة حبر كانت نبضة ضائعة تبحث عن جسدها. وحتى لو كان ما يخطه وهمًا، فهو وهمٌ رحيم، لكنه أيضًا خيانة صامتة؛ لأن الحبر كان يَعِده بالسكينة، بينما يسرق منه القدرة على الصمت. يتأمل يده الملطخة، ويشعر أن اللون الأزرق لم يعد لون الحروف، بل صار لون قلبه الذي غرق في الكتابة حتى نسي كيف يصمت.

ومع ذلك، يقبل بهذا الحبر كما يُقبل بالمنفى حين يغدو الوطن مستحيلًا، ويظل ممسكًا بالقلم كما يمسك الغريق بخشبة مكسورة، وهو يعلم أن الخشبة لن تنقذه، لكنها الشيء الوحيد الذي يمنعه من الغرق أسرع، ويترك للنزيف الأزرق أن يتدفق، لأنه أدرك أن البحث عن السكون، حتى لو كان في سراب الكلمات، هو آخر ما تبقى له من يقين.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الاثنين، 11 أغسطس 2025

ظلّنا الثقيل!

 

ظلّنا الثقيل! 

"رحلة استكشافية لفكّ تناقضات الحب والتضحية" 


وقف ظلّنا عند بوابة القلب، حارسًا من صخر، يطلب تصريح مرور إلى أعماقنا.
أتينا نحمل قوارير دواء يزعم الشفاء، لكن رائحة السمّ كانت تفوح من أعماقها.
"ابتلعوا"، يقول، "لتُبعث أرواح وتفنى أخرى"... يا لقسوة المعادلة: حياتنا قربانٌ على مذبح حبٍّ يطلب نهاية التدفق.

في الليالي المثقلة بأرقٍ كالرصاص، جلسنا مع حكيمة قديمة تسكن صمتنا.
بدت كشجرة باسقة متجذّرة في أعماق الزمن، أغصانها تلامس سماء الأسئلة الوجودية.
ضحكت، وكان ضحكها كخرير ماء بارد في صحراء الروح:
أتعجبون؟
هل رأيتم طبيبًا يقدّم للمريض دواءً سامًّا باسم الشفاء؟
هذا ليس حبًّا، يا أبناء الوجود... هذا اغتيال مُعلَن بالرصاصة البيضاء، اسمها "الوفاء".

ومن دهشة الحكمة إلى إشهار الحقيقة، انفتح أمامنا باب آخر...
باب يقود إلى قاعة تتراقص فيها الرموز على أنغام الخداع.

قاعة عرش مهيبة.
نجلس على كراسٍ من زجاج هشّ.
أمامنا، الجلّاد الحبيب يمدّ كؤوسًا متلألئة بشرابٍ بلون الدم.
"اشربوا"، يهمس... ففي مرارتكم خلاصه.

حولنا، خَدَمٌ من ظلالٍ تصفق بحماس، تردّد: البطولة! التضحية! الحب الأسمى!
لكنّ الكؤوس تنمو منها أشواكٌ سوداء تلتفّ حول معاصمنا.
كلّ رشفة تُحوّل جزءًا من زجاج مقاعدنا إلى غبار.
سنَسقط قريبًا... والظلال تصفق.

من سقف القاعة، مخلوق غريب... نصفه طائر العنقاء، ونصفه الآخر نسناس مهرّج.
يخطف الكؤوس بذيله الملوّن، ويرميها أرضًا.
الشراب ينسكب... فينبت مكانه فطر سامّ، يغنّي بصوت مزعج:
هذا حبٌّ أعرج! مكسور الجناح!
يطلب الموتَ ويسمّيه إنجاح!

ثم يلتفت إلينا، وعيناه جمرتان متقدتان:
لماذا نشرّع أبواب قلوبنا لسكين؟
ألم نسمع صراخ الزجاج وهو يُطحن؟

لقد عشنا في ممالك الصمت العقابي، نتعذّب عطشًا إلى كلمة حنون، إلى سؤال عن حالنا،
بينما العالم يرى علامات حيوية على الحياة.
لم يعرف... أو لم يُرد أن يعرف... أن وراء أقنعة الضحك المتكسّر، هناك أرواح تُسحق تحت ثقل القسوة.
هل يعقل أن الغرباء يرون ما نخفيه، بينما الحارس الأقرب يتعامى في وضح النهار؟

لكن الحكمة في الأعماق همست كالريح بين الأوراق:
لا ننتظر استجوابًا من عمى القلوب.
النجاة ليست في أن نموت ليحيا آخر، بل في أن نحيا نحن.
الحب الحقّ لا يسرق الشمس من كبدنا ليدفئ نفسه؛ بل يفرح لأنّ شمسنا تظل مشرقة،
قادرة على العطاء ونحن كاملون... لا أشباحًا تجرّ أذيال الندم على ساقين واهنتين.

لذا، ها هو قرارنا، مُعلَنًا على مَلأ الوجود، كصرخة في وادٍ سحيق،
لكنّ صداها يهزّ جبال الخوف:
لن نتناول الجرعة المميتة.

سنمضي.
لا هروبًا من معركة، ولا خيانةً لوعد، بل هجرةً مقدّسة نحو ينابيع بقائنا.
سَنبحث عن دوائنا بين صفحات الكتب القديمة، في همسات الفجر، في عرق جباهنا،
في دموع تذوب حقيقةً لا زيفًا.
سَنحمي الضوء الخافت في صدورنا – هذا الشرر الإلهي الذي به نُنير، وبه نحبّ، وبه نغيث.

نترك الآخرين يبحثون عن شفائهم في غيابنا.
ربّما في صمت فراقنا، يسمعون أخيرًا صوت جراحهم الحقيقية، لا صدى آلامنا نحن.
ربّما يجدون الدواء الذي لا يُبيد روحًا ليبعث أخرى.
فالشفاء لا يُبنى على جثث الأحياء.

والطريقان أمامنا؟
كلا! لسنا محصورين في ثنائية موت أحمق.
هناك طريق آخر: طريق وعِرٌ شائكٌ، يتسلّق جبل الذات.
طريق يُعيد إلينا ملكية أرواحنا، ويرمّم الزجاج المهشم بعناقيد الصبر.
فيه نموت عن ذلّ التضحية الزائفة، لنُبعث كائنات قادرة على الحب من فائض، لا من فراغ.

الوفاء الأصدق ليس موتنا على مذابح الآخرين، بل أن نحمي قدرتنا على الحب ذاته،
حتى لو اضطرنا ذلك لأن نحبّ من بعيد، ونحن على قيد الحياة.

وربّما نلتقي يومًا، بعد أن تشفى الجراح... لا جرحى ولا أموات،
بل شمسين تعلمان فنّ البقاء دون إطفاء نور الآخر.
عندها، سنضحك معًا على ظلّ السؤال الثقيل الذي طفا، ذات يوم،
على سطح حياة كادت أن تُباد باسم الحب.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


عُمق بلا قاع: تأملات في لُجَّةِ اللغة!

 
عُمق بلا قاع: تأملات في لُجَّةِ اللغة! 

"في محيط النسيان: رحلة الغريب بين بوابات اللغة"

أيها البحرُ.. كم أخبأتْ فيكَ الكلماتُ من غَرْقى! 

أغوصُ في ماءٍ لا ذاكرةَ له. هكذا تبدأ الرحلة، أو ربما هي الغرق المُتأنّي. هذا الماء، شفافٌ كالعدم، عميقٌ كالزمن الأول، لا يحتفظُ بظلٍّ عابرٍ لسابحٍ، ولا يخزنُ همسَ حوريةٍ أو صرخةَ غريق. 

إنه النسيان الأصيل المُتجسّد، السائل الذي يغسلُ أثقالَ الذاكرة ويذيبُ يقينَ الأشكال — لا كنسيانٍ عابرٍ، بل كلاإدراكٍ مُطلقٍ يُعيدُ الخلقَ إلى بَراءته الأولى، حيثُ لا وصايا للأسماءِ ولا سجونَ للمعاني. 

أليس هذا سرَّ اللغةِ الأولى، قبل أن تتجمّدَ في قوالبِ التسميات؟ لغةٌ سائلةٌ تنسابُ من بين الأصابع كالزئبقِ الكونيّ، تحملُ كلَّ المعاني ولا تُمسكُ بواحدٍ منها، كحلمٍ يتبخّرُ مع اليقظةِ، تاركاً وراءه ظلاًّ لرائحةٍ بلا زهرةٍ، أو صدىً لصوتٍ بلا حنجرةٍ.

وهكذا تبدأ الرحلة... من الغوص إلى الدخول في عوالم أخرى. 


مذكراتُ ظلٍّ تحتَ عرشِ العقل

فجأةً، أجدني أدخلُ عالَمًا لا يرضى بالقياسِ ولا يُفصحُ عن قراره. عالمٌ يرفضُ مسطرةَ المنطق وميزانَ العقل، كأنما القوانينُ هنا تكتبُها ريحٌ عمياءُ، والأبعادُ ترتسمُ بحركةِ جفنِ حالمٍ. كلُّ محاولةٍ لرسم خريطةٍ تتحولُ إلى شظايا ضبابٍ — ضبابٍ يلمعُ كالفضةِ السائلةِ حين تلمسُه، ثم ينفرطُ بين الأصابعَ كذكرياتِ طفلٍ عن جنّةٍ لم يرها. المعنى هنا لا يُقاس بالذراعِ أو يُوزنُ بالقسطاس؛ إنه يتنفّسُ ككائنٍ حيٍّ، ينبضُ تحتَ الجلدِ بلا نبضٍ مرئيٍّ، يتملّصُ من التعريفاتِ كظلٍّ يهربُ من مصيدةِ ضوءٍ. يرفضُ أن يُختزلَ في جملةٍ حاسمةٍ أو حكمٍ نهائي.

قراره؟ سرٌّ غامضٌ يذوبُ في الأفقِ، كشمسٍ لا تُعلنُ شروقَها أو غروبَها، بل تخلعُ أثوابَ الزمنِ في صمتٍ ملكوتيٍّ. أليس هذا جوهرَ الشعرِ الحقيقيّ: أن يكونَ الكلامُ قبسةً من صمتِ الكونِ؟ وأليستِ الفلسفةُ التي تتجاوزُ البرهانَ هي رقصتُنا الأخيرةَ على حافةِ المنطقِ؟ عالمٌ يرفضُ أن يكونَ تابعًا، ويصرُّ على أن يكونَ لغزًا — لغزًا يفتحُ ذراعيهِ كبحرٍ، ويُغمضُ عينيهِ كطفلٍ يعرفُ أنَّ الإجابةَ ستقتلُ السؤالَ.

في متاهة الدلالات أُبحِرُ، في نصٍ لا يُشبه أيَّ شاطئٍ أعرفه. لا علاماتٍ مألوفةً على سواحله، لا صخورَ تُشيرُ إلى عواصفَ قديمة، ولا رمالً تدوّنُ آثارَ عابرين. النصُّ هنا محيطٌ ينسجُ جغرافيتهُ بنفسه - أمواجُه تُرقِّصُ النجومَ في قاعه، وأعماقُه السوداءُ تبتلعُ حتى صرخاتِ النور. كلُّ كلمةٍ موجةٌ تدفعُ بي إلى مجهولٍ يلدُ مجهولاً، وكلُّ جملةٍ أرخبيلٌ من الدلالاتِ التي ترفضُ أن تُسجَّلَ في دفترِ الملاحة.

لا مرفأَ يُنادي، ولا بوصلةَ تُشير. إنه الإبحارُ في فضاءٍ لغويٍّ تتحطّمُ فيه قوانينُ الجاذبيةِ المعروفة، حيثُ تُرمى خرائطُ اليقينِ من سفينةِ الوعي، ويصيرُ القلبُ شراعًا للرياحِ المجنونة. النصُّ ليس مرآةً تعكسُ وجهَكَ الذي تعرف، بل هو حفرةٌ في جدارِ الكون، تُطلُّ على حدائقَ لغويةٍ لم تُزرع بعد، تشربُ أحبارًا من ظلامٍ لم يولد، حيثُ الأشجارُ تحملُ أوراقًا من لهبٍ بلا حرائق، والأنهارُ تتدفّقُ إلى الأعلى.



أسئلة تولد من دموع المعاني

وهنا، أمامي، أفتحُ بابًا خلفهُ ألف بابٍ، يَشقُّ حجابَ الظنون، ولا أعرفُ أيّها يقودُ إلى الضوء. كلُّ مدخلٍ يُغريني بوعدِ الحقيقة، وكلُّ مخرجٍ يُعيدُ تشكيلَ المتاهةِ من جديد. اللغةُ هنا متعددةُ الوجوه، جنينٍ كونيٍّ يدورُ في رحمِ الأزل، كلّما ظننتَ أنك أمسكتَ بسرِّها، انفلتَ من بين يديكَ كبلورةٍ ضخمةٍ تدورُ بها عيناك فترى عوالمَ متشظيةً في انعكاسات لا تُحصى. أيُّ طريقٍ يسلكُ المعنى؟ وأيُّ مسلكٍ يفضي إلى جوهرٍ ثابت؟ 

الضوءُ المنشود يتراءى خلف كلِّ عتبةٍ، ويتراقصُ خلفَ كلِّ حاجزٍ كشهقةٍ أخيرةٍ لنجمٍ محتضر، لكنّ كلَّ خطوةٍ نحوَه تلدُ ألفَ ظلمةٍ جديدة. أليس هذا مصيرَ المتأمل، الباحثِ عن يقينٍ في مملكةِ الاحتمال اللامتناهي؟ 

أليس هذا قدرَ العابدِ في محرابِ اللغة؟ أن يَسْجُدَ على أعتابِ اليقينِ وهو يعلمُ أنَّ كلَّ سجدةٍ تبتعدُ به عن الحقيقةِ بقدرِ ما تقترب. كمن يطاردُ سرابًا في صحراءِ مرايا، كلّما انكسرَ انعكاسٌ في مرآة، وُلِدَتْ مرآةٌ أخرى من دموعِه. 

أليس هذا هو العشقُ الحقيقي؟ أن تُقبِّلَ أعتابَ كلِّ بابٍ وأنت تعلمُ أنَّ القبلةَ ستحرقُ شفتيك، لكنّ الشفاهَ تحترقُ لتنبتَ عليها أقواسُ قزحٍ جديدة. 



سيرة التيه في أسواق بابل السرية

فأخطو داخل اللغةِ كغريبٍ وُلد للتوّ بين أسوارِ مدينةٍ أسطورية. خطواتٌ حذرةٌ على أرصفةِ المفردات، نظراتٌ قلقةٌ نحو سطوحِ التراكيب العالية. أحذو حذوَ النملةِ على سجادةٍ فارسية، كلُّ خيطٍ يخبئُ كونًا، وكلُّ عقدةٍ تُخفي قِصّةً لم تُحكَ بعد. الأرصفةُ هنا مصنوعةٌ من أحجارِ القواميس المنسية، والنوافذُ تتنفّسُ بنبضِ المعاجم القديمة. كلُّ شارعٍ (جملة) يحملُ عبقًا غريبًا، ويفرشُ بساطًا من أسئلةٍ مُذهّبة، وكلُّ زقاقٍ (استعارة) يُخفي أسرارًا، ويُضيءُ مصابيحَه بلغةٍ لا تُشبهُ لغاتِ البشر.

الغريبُ هنا هو مستكشفٌ لمملكةٍ ذات قوانينَ خفيةٍ، حيث الإشاراتُ مبهمةٌ واللهجاتُ متعددةٌ. هو ليس عابرَ سبيلٍ، بل هو طفلٌ يلهو بكراتِ الزجاجِ الملوّنة في حديقةِ بابل. اللغةُ مدينةٌ بلا دليل، تُبهرك بفوضى نظامها، وتحيّرك بدقةِ فوضانا. تُبنى وتنهارُ في كلّ طرفةِ عين، قوانينُها تكتبها أطيافُ الحروفِ على جدرانِ المعبد المهجور. تُبهرني بعناقيدِ كرومِها الذهبية، ثمّ تتركني عطشانَ أمام نافورةٍ تجري بالزئبقِ لا بالماء. 

التيهُ هنا ليس ضياعًا، بل هو شرطُ الوجود في حضرةِ المجهول الجميل. هو العثورُ على جرحٍ لم يندمل بعد، واللعبُ بأطرافِ ندوبِه الملتهبة. كلّ خطوةٍ تذكّرني بأنّي لستُ ضائعًا بما يكفي، وأنّ المدينةَ لن تكتملَ إلا حين أختفي أنا بين شقوقِ أحجارِها الناطقة. 

وهكذا أجدني أتجوّل في فضاء اللغة اللامتناهي، فضاءٌ لا يحده مكان، فأُبحِرُ في مياهٍ ترفضُ أن تعترفَ بوجود بَرٍّ. ليس هذا يأسًا من الوصول، بل هو استسلامٌ وثيقٌ لِجدليةِ الأمواجِ التي لا تتوقّفُ عن التساؤل. هذه المياهُ – لُجَّةُ المعنى التي لا تنفكُّ تتدفّقُ كأنفاسِ كونٍ حديثِ الولادة – تَسْخَرُ من فكرةِ اليابسةِ النهائية، من تلكَ الجُزُرِ الوهميةِ التي نسمّيها "حقائقَ مطلقةً". كلّما ظننتَ أنكَ أمسكتَ بحَصاةٍ من قاعِها، إذا بها تذوبُ بين أصابعكَ، وتتحوّلُ إلى نُجومٍ تائهةٍ في مجرّةِ لغةٍ أخرى.  

هنا، كلُّ تيارٍ يقودُكَ إلى تيارٍ أعمق، وكلُّ غوصٍ يفتحُ أمامكَ كوّةً إلى محيطٍ آخر. اللغةُ لا تنتهي عند شطٍّ، بل تتمدّدُ كالزمنِ نفسِه: لا تُقاسُ بالمسافاتِ، بل بالانكساراتِ التي تُحدثُها في مرآةِ الذات. الاعترافُ بالبَرِّ هنا ليس مجرّدَ خيانةٍ للرحلة، بل هو إنكارٌ لتلكَ المعجزةِ التي تجعلُ من الضياعِ وَطَنًا، ومن العُبورِ غايةً.  

فالإبحارُ في هذه المياهِ ليس بحثًا عن ميناءٍ نُرسي فيه، بل هو تعلُّمٌ لِأن نعيشَ في المدّ والجزرِ كالأسماكِ التي لا تعرفُ الخوفَ من الغرقِ، لأنّ الماءَ هو هواؤها، واللُّجَّةُ هي رئتاها. المعرفةُ هنا ليست محطّةً نصلُ إليها، بل هي الحَرَكَةُ ذاتُها، التّيّارُ الذي لا يهدأُ، والموسيقى التي لا تُكرّرُ نفسَها أبدًا.  

فهل ثمّةَ إبحارٌ أكثرُ جمالًا من ذلك الذي لا يُريدُ أن ينتهي؟ وهل ثمّةَ لغةٌ أكثرُ حياةً من تلكَ التي ترفضُ أن تتجمّدَ في معنى؟

وكلما تعمّقتُ في هذه اللجّة، وجدتُ نفسي في حضرة اللغة الأزلية، أغوصُ في محيطٍ لا يرد الغارقين. الغوصُ هنا ليس هروبًا، بل هو انكسارُ الأقنعةِ كلِّها أمام مرآةِ اللانهاية. المحيطُ الذي لا ذاكرةَ له يبتلعُ كلَّ محاولاتِ التملكِ كأنها فقاعاتُ هواءٍ تائهة، ويرفضُ ردَّ الغارقين إلى سطحِ اليقينِ الضحلِ حيثُ تُباعُ الخرائطُ بثمنٍ بخس. في أعماقه، حيثُ يسكنُ الصمتُ الأعظمُ كأنه القلبُ النابضُ للكون، يتلاشى الفرقُ بين الغرقِ والخلاصِ، بين الفهمِ والجهلِ، كأنما الأعماقُ قد ابتلعتْ كلَّ الثنائياتِ وأعادتْ صهرَها في بوتقةِ اللازمان.  

الغرقُ هنا ليس فناءً، بل هو ذوبانُ السّابحِ في كينونةِ اللغةِ نفسها، في محيطها الأصليّ الذي يسبقُ الكلماتَ ويعقبُها، كحلمٍ يسبقُ الولادةَ ويَلحقُ بالموت. الغريقُ في هذا العمقِ يصبحُ جزءًا من اللغزِ، كالملحِ الذي يذوبُ في الماءِ فيصيرُ الماءَ نفسَه. هو قطرةٌ في محيطٍ لا ذاكرةَ له، تُنصتُّ إلى همساتِ الحروفِ الأولى قبلَ أن تتشكّلَ أبجدية. شاهدةً على سرٍّ لا يُفصحُ عن قراره، كأنها تقفُ على حافّةِ ولادةِ كونٍ جديدٍ من رحمِ العدم.  

النصُّ السرمديُّ يُصبحُ مرآةً لغرقنا الجميل: لا شاطئَ له، ولا ضفافَ، بل هو المدُّ والجزرُ الأبديُّ الذي يحملُنا من لا معنى إلى لا معنى، كي نكتشفَ أنَّ الجمالَ كلَّه في تلكَ الرحلةِ التي لا تنتهي. وقبل أن تستقر الأجوبة، تتهاوى الأسئلة من جديد. 



مزاميل السؤال في محراب الكلام

هذه هي حكايةُ اللقاءِ مع اللغة: غوصٌ في نسيانٍ يُشبهُ ولادةً مقلوبة، رحلةُ الغريبِ في مدينةِ الكلماتِ أشبهُ بسيرِ النورِ في متاهةِ المنشور، حيثُ ينكسرُ المعنى في كلّ منعطفٍ إلى ألوانٍ لم تُكتشفْ بعد. كلُّ بابٍ يُغري كحلمِ عاشق، وألفُ بابٍ يُحيّرُ كأسرارِ الأنبياء. واللغةُ هنا ليست أداةً، بل هي الفعلُ نفسُه - ولادةٌ مستمرةٌ ترفضُ أن تصيرَ ذكرى.

وفي القلبِ من هذا كلّه، سؤالٌ يتوهّجُ كنجمٍ بحريٍّ يُضيءُ من الأعماق: أليس الجمالُ الحقيقيُّ يكمنُ في تلكَ اللحظةِ التي تدركُ فيها أنك لن تصل، فتُمسكُ يدَ اليقينِ لتغرقَ معه في بحرِ الأسئلة؟ أليست اللغةُ هي اللاوصولُ بعينه، والمتعةُ كلّها في ذلكَ العطشِ الذي لا يُروى؟

أليس العمقُ هو القاعُ الذي لا قاعَ له، حيثُ تتحوّلُ كلُّ إجابةٍ إلى ألفِ سؤال، وحيثُ المعرفةُ الحقيقيةُ هي أن تعرفَ أنك لا تعرف؟ هنا، في هذا اللا مكان، تصيرُ الكلماتُ أجراسَ معبدٍ غارق، تُنادي إلى صلاةٍ لا تنتهي، صلاةِ العاشقِ الذي يعلمُ أن الحبَّ ليس وجهةً، بل هو الطريقُ نفسُه حين يذوبُ في خطواتِ السالكين.


جهاد غريب 
أغسطس 2025

حين يتحوّل الغياب الى حضور!

 

حين يتحوّل الغياب الى حضور! 

على الشرفة، كرسيٌّ فارغ يتأرجح ببطء، كأن الريح تحاوره في غياب صاحبه. فنجان قهوة بارد ينتظر يدًا لن تعود، والنافذة نصف المفتوحة تسمح لضوءٍ باهت أن ينساب إلى الداخل… لا أحد هنا، ومع ذلك، ليس المكان خاليًا تمامًا. ثمة ما يملأه، حضورٌ لا تراه العين، لكنه يضغط على القلب برفق، كأنه يذكّرك أنك لست وحدك.

تسأل نفسك: هل الغياب حقًا فراغ، أم أنه بداية لشكلٍ آخر من الامتلاء؟ هل تنتهي الحكاية حين يغلق أحدهم بابه الأخير، أم أن الحكاية تمتدّ داخلنا بطرق لم نكن نعرفها من قبل؟
عند العتبة الأولى للغياب… يبدأ شكل آخر للحياة.



عند عتبة الغياب… يبدأ الحضور

حين يغادرون، لا ينطفئ أثرهم كما يظن البعض، بل يتحول إلى ضوء خافت يرافقنا في الطرق المظلمة. نكتشف فجأة أن الحضور لا يُقاس بالمسافة ولا بالزمن، بل بالقدرة على أن يتسلل أحدهم إلى تفاصيل يومنا حتى وهو بعيد. كلمةٌ كانوا يرددونها، حركة يد عابرة، نظرة كانت تقول أكثر مما تسمح به الحروف… كلها تعود إلينا، لا كذكرى جامدة، بل كنبض حيّ.

إننا لا نلتفت إلى ملامح هذا الحضور إلا بعد أن يغمرنا الغياب، وكأن الصمت يضبط عدسة القلب ليرى ما كان مشوشًا وهو قريب. نبدأ بسماع أصواتهم في زحمة الشوارع، ورؤية ظلهم في الأبواب التي تُفتح فجأة، وملامسة روحهم في لحظة دفء تأتي بلا سبب.

الحضور الذي يولد عند عتبة الغياب ليس وهمًا، بل هو صدى عميق للذكريات، وقوة خفية للقيم التي تركوها فينا. وربما لهذا، يصبح الغياب أحيانًا المرآة التي نرى فيها وجوههم بوضوح أكبر.



ورثتك صمتًا… فصار صوتي

لم تترك لي كلماتٍ كثيرة، لكنك تركت مساحات من الصمت أتعلم فيها الإصغاء. كنتُ أظن أن الإرث يُقاس بما يمكن لمسه أو امتلاكه، حتى أدركت أن أثمن ما ورثته عنك كان ما لم يُقال. في صمتك كانت الحكمة، وفي غيابك كان الامتحان، وفي داخلي كانت البذرة التي أنبتتها أيامك.

ذلك الصمت لم يبقَ جامدًا، بل تحول مع الوقت إلى صوتي أنا. صرتُ أردد عباراتك في المواقف الصعبة، وأتخذ قراراتك دون أن أستشيرك، كأنك ما زلت تمليها عليّ من مكانك الخفي. حتى نبرة الضحك التي كنت أعرفها جيدًا، تسللت إلى ضحكتي، وكأننا نتقاسم الحبال الصوتية.

لم أعد أحتاج أن أسمعك لتكون حاضرًا. أنت في انحناءة كتفي حين أتعثر، وفي طريقة نظري إلى الأفق حين يضيق بي المكان. أنت في صمت اللحظات التي أبحث فيها عن قوة، وفي الكلمات التي أقولها للآخرين دون أن يعرفوا أنها ليست لي وحدي.



العبور لا الموت

كنتُ أظن أن الموت بابٌ يُغلق إلى الأبد، حتى اكتشفت أنه ممرّ، عبور هادئ من ضفة إلى أخرى، حيث لا نملك أن نرى المدى، لكننا نشعر بأن هناك حياةً أخرى تجري في مكانٍ ما. الفقد لا يُطفئ الوجود، بل يغيّر شكله. من كانوا يشاركوننا المقاعد صاروا يجلسون في داخلنا، يطلّون على العالم من خلال أعيننا، ويكملون الطريق بأقدامنا.

الموت ليس اختفاءً، بل إعادة توزيع للحياة بين الأحياء. كل ضحكة تخرج منّا وقد تعلمناها منهم، كل اختيار نافع تذكّرنا به نصائحهم، كل دمعةٍ تمسحها يدنا عن وجه شخص آخر… هي امتداد لحياتهم فينا.

أراهم كمسافرين يعبرون جسرًا من ضباب، يلوّحون من بعيد، ثم يذوبون في البياض. لا أراهم تمامًا، لكنني أسمع وقع خطواتهم يسبقني، كأنهم يمهّدون الطريق. وحين أصل إلى منتصف الجسر، لا أشعر بالوحدة، لأن صدى عبورهم يرافق عبوري أنا.



في حضرة من لا يغيب

هناك مقاعد لا تُشغل أبدًا، لأنها ليست في المكان، بل في القلب. بعض الأشخاص لا يغادرون مهما ابتعدت المسافات أو توالت الأعوام، يظلّون جالسين في الصفوف الأولى من أرواحنا، يراقبون، يبتسمون، ويدفعوننا للأمام بطرق لا نراها. نحن نحملهم في مشيتنا، في قراراتنا، في تلك اللحظة التي نرفع فيها رأسنا بثقة وكأننا نستمدها منهم.

لقد أدركت أن الحضور الحقيقي لا يحتاج إلى جسدٍ أو ظلّ، يكفي أن يكون هناك أثر لا يتزحزح، فكرة لا تموت، أو دفء لا يبرد. من نحبّهم يعلّموننا أن نكون امتدادهم، وأن نستمر في الحياة كأننا نمثّلهم على مسرح لا ينتهي.

وهكذا، لا يعود الغياب غيابًا، بل يصبح شكلًا آخر للحضور… حضورٌ أعمق، لا تراه العين، لكن القلب يعرفه ويوقّره. وفي كل مرة أظن أنني وحيد، أسمع وقع خطواتهم داخلي، فأبتسم… وأمضي.


جهاد غريب 
أغسطس 2025

السبت، 9 أغسطس 2025

أصواتٌ لا تُخمد.. بل تُحتضن!

 
أصواتٌ لا تُخمد.. بل تُحتضن! 

داخِلَنا، حيث يُضيءُ الفكرُ شموعَ الوجود، تتصاعدُ ألسنةُ حواراتٍ لا تنطفئ. مثل نارٍ مستعِرةٍ في صدرِ الليل، تُلقي بظلالِ قلقٍ وشكٍّ على جدرانِ وعينا. نلهثُ وراءَ دلوِ صمتٍ نَخلِطُ به هذه النيران، نتوهمُ أن الماءَ وحدهُ قادرٌ على إسكاتِها. لكن الماءَ يُطفئُ الجمرَ الظاهر، أمَّا جمرُ الأفكارِ فيُروّضُه الانتباهُ الواعي. فالصمتُ الحقيقيُّ ليس فراغًا تُبتلعُ فيهِ الأصوات، بل هو حُضورٌ لمعنى أعمق، يتنفَّسُ بين الضلوعِ حين نتعلَّمُ فنَّ الإصغاء.


فهم الأصوات: سيمفونية الوجود الداخلي! 

دعونا نُصغِ بلا خوف. هل تسمعونَ ذلك الصوتَ الجاثمَ في الظل؟ إنه الناقدُ الداخليُّ، صوتهُ كصوتِ حصىً خشِنٍ يُدحرَجُ فوقَ زجاجِ الثقة. يهمسُ، لا، يزمجرُ أحيانًا: لستَ كافيًا.. ستُخفقُ.. انظرْ كيف يتفوقُ عليك الآخرون! كلماتهُ تُثقِلُ الكتفينِ كعباءةٍ رطبةٍ من شتاءٍ طويل. إنه ليس شريرًا، بل حارسٌ قلقٌ تَشوَّهتْ بوصلةُ قلبه، يحاولُ – بجهلٍ – حمايتنا بالفشلِ المتوقَّع.

وبين الحين والآخر، يعلو صوتٌ آخر، كالمُدرِّبِ الحاني، دافئٌ كشمسِ الصباحِ الأولى على القلبِ المتعب. يهمسُ: تذكَّرْ.. لقد تجاوزْتَ أصعبَ من هذا.. فيك كنوزٌ لم تكتشفها بعدُ. كلماتهُ مثل دفقةِ ماءٍ عذبٍ في ظمأ، تُذكِّرنا بنقاطِ قوتنا المنسية، تُشعلُ في الأعماقِ شمعةً صغيرةً لكنها عنيدة.

ثم هناك الصوتُ الذي يُحلِّقُ نحو الأفقِ البعيد، صانعُ الخططِ ومستشرفُ الغد. تراهُ ينسجُ خيوطَ مستقبلٍ برّاقٍ، لكن خيوطَهُ قد تتشابكُ فجأةً، وتتحوَّلُ إلى شبكةِ قلقٍ خانقةٍ تُقيِّدُ الحاضر. "ماذا لو..؟" سؤالُهُ المتكررُ يَثقبُ السكينةَ مثل مطرقةٍ على رأسِ مسمارٍ في غرفةٍ هادئة. إنه يحلمُ لنا، لكن أحلامهُ أحيانًا تُنسينا أن نعيشَ اللحظةَ التي بين أيدينا.

وأخيرًا، يأتي الصوتُ كالمُراجِعِ الوفي أو الغليظِ أحيانًا، يعيدُ فتحَ دفاترِ الماضي. يقلِّبُ صفحاتِ الذكرياتِ تارةً بحنوٍّ، وتارةً بقسوةٍ. رائحةُ زهرةٍ قديمة، أو صوتُ لحنٍ قديم، قد توقظُهُ فجأةً فيُعيدُ عرضَ مشهدٍ سعيدٍ يذوبُ القلبُ حنينًا، أو جرحًا نازفًا نتمنى لو بقيَ مدفونًا. إنه يحفظُ قصتنا، لكن تمسُّكَهُ ببعضِ الصفحاتِ قد يمنعنا من كتابةِ الفصلِ الحالي.


اليقظة: فنُّ استقبال الأفكار دون تملك! 

هنا، في خضمِّ هذه السيمفونيةِ أحيانًا، والضجيجِ أحيانًا أخرى، يأتي دورُ الانتباهِ الواعي. ليس سيفًا لنَهرِ الأفكارِ عنَّا، ولا سدًّا لمنعِ تدفقها. إنه أشبهُ بجلوسنا على ضفةِ نهرٍ هادئ، نراقبُ المياهَ وهي تمرُّ – أوراقٌ يابسةٌ، أغصانٌ مكسورةٌ، زهورٌ متفتحةٌ، قواربُ صغيرةٌ – دون أن نُقحمَ أنفسَنا في التيار. 

نرى الفكرةَ قادمةً: "أنا فاشل". نلاحظُ حضورَها – مجردَ سحابةٍ عابرةٍ في سماءِ وعينا – دون أن نُطلقَ عليها حكمًا "جيدة" أو "سيئة". نُدركُ حضورَ الناقدِ الجاثم، نعرفُ صوتَه، لكنَّنا لا نُصبحُ هو. هذه هي القفزةُ النوعية: أن نفصلَ ذاتَنا عنْ أفكارِنا. 

نحن لسنا السحابةَ العابرةَ، نحن السماءُ الواسعةُ الثابتةُ التي تستقبلُها جميعًا. الفكرةُ مجردُ زائرٍ مؤقتٍ يطرقُ الباب، أما نحن فـ "المضيفُ الدائمُ" الذي يختارُ كيف يستقبلُ، وكمْ يدعو الزائرَ للبقاء. تمرينٌ بسيطٌ: في خِضَمِّ الصخب، نأخذُ نفسًا عميقًا، نُسمِّيهِ (نحن نعرفُ اسمه الآن)، ونقولُ في هدوء: أهلًا بكَ.. أرى أنكَ هنا اليوم. هذه الملاحظةُ البسيطةُ، غيرُ المحكمةِ، هي البدايةُ لفقدانِ الفكرةِ سلطانَها القديم.


الصمت: موطنُ المعنى والبوصلة! 

وعندما نُتقنُ فنَّ الاستقبالِ هذا، دون صراعٍ أو خوف، يبدأُ الصمتُ الحقيقيُّ بالظهور. ليس صمتًا ميتًا خاليًا من الأصوات، بل هو صمتٌ حيٌّ، نابضٌ، كالفراغِ الموسيقيِّ بين النوتاتِ الذي يُعطي المعزوفةَ روحَها. 

في هذا الحيزِ المقدسِ بين الأمواجِ الفكرية، حيث تخفتُ أصواتُ الناقدِ والمستشرفِ والمراجعِ، يبرزُ صوتٌ آخرُ. هادئٌ، عميقٌ، ثابتٌ كنبضِ الأرض. هذا هو صوتُ البوصلةِ الداخلية، صوتُ الحدسِ والحكمةِ المتأصلة. في زحامِ الضوضاءِ كانَ غائبًا، أمّا في رحابةِ الصمتِ الواعي، يصبحُ واضحًا، يُرشدُنا إلى قراراتٍ تنبعُ من أعماقِ كينونتنا، لا من ردودِ أفعالِ الخوفِ أو الطموحِ الأعمى.

هنا، في هذا الصمتِ النشطِ، نجدُ الهدوءَ والسكينةَ. لا هدوءَ هروبٍ من العالمِ الخارجيِّ الصاخبِ، بل سلامٌ داخليٌّ لا يتزعزعُ بزعازعِ الظروف. كأنَّنا في عينِ إعصارٍ، كلُّ شيءٍ حولنا يثور، ونحن في مركزهِ هادئون. 

نَصِلُ، أخيرًا، إلى ذاتِنا الحقيقية، بعيدًا عن الأقنعةِ والأدوارِ التي نرتديها في مسرحِ الحياة. نرى أنفسنا في مرآةِ الصمتِ هذه كما نحن: كائناتٌ تحملُ تناقضاتٍ وجمالًا، قوةً وهشاشةً، أفراحًا وأتراحًا، دون حاجةٍ للتبريرِ أو الاختباء. الصمتُ هنا هو المساحةُ التي نُولدُ فيها لأنفسنا من جديد... كلَّ يوم.

وكأن هذه الأصواتَ، على اختلافِ نبراتِها، تبلغُ ذروتَها فجأةً في قاعةٍ واسعةٍ من الضوءِ والظلِّ، تتقاطعُ فيها النغماتُ كأمواجٍ متلاحقةٍ قبل أن تنكسرَ على شاطئِ الصمتِ. لحظةٌ مكثفةٌ، يتسعُ فيها الصدرُ لكلِّ التناقضاتِ دفعةً واحدةً؛ الفرحِ والحزنِ، الرجاءِ والخوفِ، الشكِّ واليقينِ... ثم، كما لو أن يدًا خفيةً أزاحتِ الستارَ، ينكشفُ المشهدُ الأخيرُ بهدوءٍ مهيبٍ، حيث يسكنُ كلُّ صوتٍ مكانَهُ، وتستعدُّ السيمفونيةُ لأن تُختتمَ بنبضةٍ من سلامٍ صافٍ.


المضيف لا السجين!

إذًا، دعونا نكفَّ عنْ مطاردةِ سرابِ إخمادِ الحواراتِ الداخليةِ إلى الأبد. إنها ليست نيرانًا تُطفأ، بل نغماتٌ في سيمفونيةِ الوجودِ الإنسانيِّ المعقَّد. المفتاحُ ليس في إسكاتِها، بل في تحويلِ علاقتِنا معها. من أن نكون أسرى خائفينَ في زنزانةِ أفكارِنا، ننتظرُ إعدامَ صوتٍ أو إطلاقَ سراحِ آخر، إلى أن نكون مضيفينَ واعينَ، نُصغي بفضولٍ ولطفٍ لكلِّ زائرٍ، نعرفُ أن حضورَهُ مؤقتٌ، وسلطانَهُ مشروطٌ بانتباهنا. نتعلمُ فنَّ قيادة السيمفونيةِ بدلَ أن نكون آلاتٍ تعزفُ بلا وعي.

عندما نُصغي، لا لنخضعَ بل لنفهمَ.. عندما نلاحظُ دون أن نحكمَ.. عندما نمنحُ الصمتَ مساحةً ليكشفَ عنْ كنوزِه... نكتشفُ أن الحربَ على الذاتِ كانت أكبرَ وهمٍ، وأن رحلةَ الاستكشافِ الهادئِ، بكلِّ ما تحويهِ من أصواتٍ متنافرةٍ أحيانًا، هي طريقُنا إلى السلامِ الأصيلِ، وإلى ذواتِنا التي تنتظرُ في عمقِ الصمتِ أن نعثرَ عليها، أخيرًا، لنُصغي إليها.. فقط. ولتستمرَّ السيمفونية، بألحانِها الشجيةِ وصخبِها المُربك، ونحن نرقصُ على إيقاعِ وعيٍ جديدٍ، مضيفونَ في دارِ أنفسنا، لا سجناءٌ في دهاليزِ أفكارِنا.


جهاد غريب 
أغسطس 2025
 

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...