الأحد، 31 أغسطس 2025

أرواح عبر الشاشات!

 

أرواح عبر الشاشات! 

"جسورٌ من ضوءٍ... تُفضي إلى عوالمَ من زجاج" 

في هذا العصر الرقمي، قد ننسى أحيانًا حقيقةً جوهرية: إنَّ العالم الافتراضي، بكل ما يقدمه من جسورٍ للتواصل، يبقى ظلًّا واهنًا، كصورةٍ لمنظرٍ خلاب علقت خلف زجاج، تُرى بالعين، لكن الريح لا تعبث بأغصانها، ولا تدفئ الشمسُ بشرتك. لا يضاهي دفء الواقع وحضوره.

نعم، نتعرف عبر الشاشات إلى أرواحٍ شتى، ونبني جسورًا من الكلمات، ولكن هل تُغني هذه اللقاءات الافتراضية عن نظرة عين تلمع، أو عن مصافحة يد، أو عن حضورٍ يملأ المكان بهجةً وصدقًا؟ 

ذلك الدفء الذي ينبعث من الوجود المشترك، كأنه بُسُطٌ مُطرَّزة من همسات النفوس وصمتٍ يفهمه القلب دون كلمات. هل يضاهي ما على الشاشة دفءَ قهوةٍ تتشاركها، أو رعشةُ صوتٍ تسمعها أذنك مباشرةً فترتجف معها مشاعرك قبل أفكارك؟

وذاك الدفء بالذات، هو الذي يجعلنا ندرك أن الواقع عالَمٌ قائم بذاته، لا يُستبدَل ولا يُعوَّض. فلو تحدثنا عن بناء العلاقات وتنميتها، وعن تلك الخيوط الغامضة التي تنسج أواصر المحبة والثقة بين البشر؛ خيوطًا من حريرٍ خفي، تُحاك بلغة الجسد والإحساس المشترك بلحظة واحدة. 

هذه الخيوط لا تنسجها أصفارٌ وآحادٌ صماء، ولا ومضاتُ اتصالٍ عابرة، بل تنسجها الأوقات المشتركة في صمتٍ وفي ضجيج، في أفراحٍ تُقام وفي أحزانٍ تُحتمَل سويةً. إنها نسيجٌ معقّد لا يفهمه إلا من عاش تفاصيله، كشجرةٍ تستظل بها العصافير وتُثمر في مواسمها، لا كزهرةٍ صناعية لا تعبق ولا تذبل.

فحقيقة الأمر، ليس للفضاء الافتراضي أن يكون بديلًا عن عالمنا الواقعي؛ فهو في أفضل أحواله جسرٌ للوصول، جسرٌ من وميضٍ افتراضي يصل بين ضفتين، لكنه ليس أبدًا موئلَ الأرواح وملاذَها. 

ليس ترابَ الأرض الذي تمشي عليه حافي القدمين، وليس السقفَ الذي يحتمي به الحبيب، وليس المطبخَ الذي تفوح منه رائحة طعام الأم. الوطن الحقيقي هو ذلك اللقاء الذي لا يُختزل إلى ومضاتٍ ورسائل؛ هو حيث تسكن الروحُ إلى روح، فتجد فيه الطمأنينةَ والحنين. هو الحضور الذي يخلده الوجدانُ في ذاكرة الروح، لا خادمُ الشبكة في سحابةٍ باردة عابرة. 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إرْثُنا… إلى أين؟

  إرْثُنا… إلى أين؟ هذا سؤال يلامس عمق وجودنا كشعب. ففلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل هي هوية محفورة في جذع الزيتون العتيق، وطن يتجاوز حدود غز...