ومضة لا تعرف الاستسلام!
نحن لسنا دمى تتحرك بخيوط خفية على مسرح الواقع، ولا وجوهًا مدهونة بالوهج الزائف كي نرضي جمهورًا لا نعرفه. فنحن نعلم أن الخيوط قد تُقيّد الجسد لكنها لا تستطيع أن تسجنَ نبضَ الروح الذي يرفض أن يكون ظلًا لغيرها.
نحن صوانٌ قديم، نُبنى من الطموح لا من التصفيق، ومن ركام الأحلام القديمة التي لم تمت، بل نمت تحت الرماد كالجمر الخفي، ومن الحلم الذي لا يغيب حتى وإن غابت الطرق والوسائل، وابتلعت العتمة مفاتيح الأبواب.
وكثيرًا ما وقفنا على حافة الهاوية، نحدق في القاع الذي يدعونا بلغته الصامتة، لكننا لم نقفز. لأن في القاع لا توجد نهايات، بل بدائل أخرى للضياع.
هكذا نسير...
نحمل في أعماقنا خرائطًا لمُدنٍ لم تُرسم بعد، وأغاني لم تُغنَّ. ونحمل جراحًا لم تندمل تمامًا، لكنها لم تعُدْ تنزف ألمًا، بل تَحكي حكاياتٍ ترويها الأجيال القادمة عن معنى المقاومة.
نحن لسنا أبطالًا، بل نحن الناجون الوحيدون من معركة لم نخترها، لكننا اخترنا كيف نخرج منها.
قد تتلاشى الأشياء... نعم، تنهار الأبنية، وتتحول العروش إلى ترابٍ يتطاير في مهب الريح، وتُنسى الأسماء، وتبهت الملامح، ويُدفن المجد في مقابر النسيان. لكنّ في أعماقنا ومضةً لا تعرف الاستسلام؛ تشبه نجمًا قادمًا من أعماق الكون، يضيء لنا، رغم موته قبل ملايين السنين.
هي التي ترسمُ بصمتها على الجدران المهجورة، وكأنها توقيعُ الخلود على ورقةِ زمنٍ مؤقّت، وتردد همسًا لا يسمعه سوى من عاش مرارة الانطفاء: لأنهم عرفوا أن الظلام ليس غيابًا للنور، بل هو اختباءٌ مؤقتٌ خلف سحابةٍ من اليأس... وما دام الحلم يتنفس، فإن الهزيمة مؤقتة.
وهنا، في هذه اللحظة، حيث يصمت كل شيء، نسمع صوتنا الحقيقي للمرة الأولى. صوتٌ ليس فيه تردد، ولا خوف، ولا انتظار لتصفيق.
فمنّا من يوقظ الحجر من سباته، ويحول الصمت إلى سيمفونية من الإرادة، وينحت من الريح ملجأً. ومنا من يزرع في الصحراء وينتظر المطر، ليس لأنه يوقنُ بنزوله، بل لأنه يؤمن بأن الجفاف ليس نهاية للحياة، بل اختبارًا للإيمان بها.
هناك، حيث يتكئ الظل على جدار متصدع، ويحاور النجوم عن معنى البقاء، يقف أحدنا يتذكر كيف مر من هنا ذات يوم، حاملاً حلمًا ثقيلًا كالجبال، ومرنًا كغصن الصفصاف الذي ينحني لكنه لا ينكسر، خفيفًا كنسيم الفجر. كان يعلم أن الوزن الحقيقي للأحلام ليس في ثقلها، بل في قدرتها على حملنا عندما نعجز عن حمل أنفسنا.
وفي طريق عودته، مرَّ ببحرٍ من الدموع، لكنه لم يَغرقْ. لأن دموع المقاومين لا تغرقهم، بل تروي سفن نجاتهم.
لقد رأى الأبواب تُغلق واحدةً تلو الأخرى، وكأنها عيونٌ ترفض أن ترى النور، وسمع قهقهة اليأس تعوي كالريح في الليلة الطويلة... ورأى كيف يبني الخوف قصوره من أوهامنا، وكيف ينسج اليأس خيوطه من أحلامنا الممزقة... لكن يده، التي اعتادت رسم الخطوط الأولى للضوء على جبين الظلام، والتي عرفت دائمًا أن الليل يلد النهار كما تلدُ الآلامُ أجنحةً للحلم، لم ترتعش.
لأن الومضة في الأعماق كانت ترسمُ، وتهمسُ، وتناديه: الطريق لا ينتهي عند الباب المغلق، بل يبدأ من هناك. من الشق الذي يتركه الباب في جدار اليقين.
وفي الصباح، عندما حطت طيور الفجر على كتفيه، فهم أن الحياة لم تنقطع عنه، بل كانت تنتظر منه أن يتوقف عن التوقف.
وهكذا، يصبح الحلم واقعًا نلمسه، لا مجرد طيفٍ نراه. ليكونَ النهر الذي لا يجف، والشمس التي لا تغيب، واليد التي لا تتراجع. ليكونَ هو الهواء الذي نتنفسه، والدم الذي يجري في عروقنا، والقلب الذي ينبض في صدر الوجود.
وهكذا نعيش، ليس كمن ينتظر النهاية، بل كمن يزرع البدايات في حقل النهايات.
وحدنا مَن يحصدون القمر.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق