الاثنين، 18 أغسطس 2025

نحتٌ في وجه الفناء!

 
نحتٌ في وجه الفناء! 

شعاعُ ضوءٍ يتكسر على مرآةٍ مشروخة. ليس نورًا خالصًا ولا ظلامًا كاملًا، بل ارتعاشةٌ بين حدّين، كأن الكون يفتح فجوةً صغيرةً لعينٍ تبحث ولا تجد.  
وأنا… أطلّ من هذه الفجوة، ألمس شظايا صورتي المبعثرة على الحائط، كأن جسدي صار مرآةً ثانيةً تنكسر مع كل ومضة ضوء. لا بصفتي شاهدًا ولا ناجيًا، بل كمن وجد نفسه محاصرًا في نصف الحقيقة. هل أملك أن أصف الوجود، وأنا لا أرى سوى شظايا؟

يهمس صوتٌ خفيٌّ في الداخل: اكتب… الكلمة هي طوق النجاة. لكن صوتًا آخر، بعيدًا وقاسيًا، يتسلل من الخارج: ومَن يُنقذ الشاعر؟ ثم تتعالى أصواتٌ متقطعة، كأنها صدى الجموع: الكلمات لا تُطعم، الشعر لا يُنقذ، الصمت أوفى.

وأقف بين هذه الأصوات كمن يمشي على جسرٍ مهتزّ. كل خطوةٍ قد تكون الأخيرة، لكنني أواصل العبور، لأنني أعلم أن ما في الضفة الأخرى ليس خلاصًا، بل وضوحًا. الشعر لا يهب الحياة، لكنه يفضح وهمها. إنه الضوء الذي يلمع لحظةً ثم يختفي، تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى في العتمة.

هنا يبدأ الشعر كبوابةٍ للوجود. ليس مجرد لغةٍ للتزيين، بل عينٌ ثالثة ترى ما لا يُرى. كل بيتٍ يُكتَب، هو محاولةٌ لاستنطاق الصمت، لا لملء الفراغ بل للكشف عنه. لا يدّعي الشاعر أنه يحيط بالكون، لكنه يعرف أن الضوء لا يكون بلا ظلّ، وأن الظل لا يُرى بلا أثرٍ من نور. وفي هذه المسافة بين الضدين، يتشكل الشعر كجسرٍ هشّ بين الإنسان والعالم.

وأتذكّر نفسي طفلًا هزيلاً أمام نافذة الغرفة القديمة، يتسلل ضوء الظهيرة عبر شقوق الستارة البالية، فيرقب ذرات الغبار وهي ترقص في خطوط الذهب السائلة. صمت البيت يطنُّ في أذنيَّ: صرير الباب، تنهد الجدران، غليان القدور البعيدة. لم أكن أفهم حينها معنى الوجود، لكنني كنت أشعر أن كل ذرة غبارٍ تحاول أن تكتب قصيدتها الخاصة في الفراغ. كنت أصغي لذلك الصمت، الصمت الذي لم يتوقف عن ملاحقتي حتى الآن. 

لكن من يعبر هذا الجسر؟ الشاعر أولًا. إنه الضحية الأولى، والمنتشي الأول بجراحه. كلماته تلسعه قبل أن تمسّ الآخرين، تحرقه قبل أن تنير لهم. ومع ذلك، يظل هو المخلّص أيضًا، يطلق قصائده كمن يلقي قناديل في بحر الصمت، قناديل لا تُنقذ الجميع، لكنها تكفي لتنقذ واحدًا من الغرق، لتخرج دمعةً من عينٍ ظنّت نفسها جافة، لتوقظ عاشقًا نسي دموعه في ركام الأيام. 

إنه أول الضحايا، وأول من ينهض ليحمل جرحه كراية، يُلقي الكلمات كما يُلقي الغريق يديه في الماء، لعلّ واحدةً منها تصل، في لحظةٍ عابرة، إلى قلبٍ لم يعرف أنه ينتظر.

أتذكر قصائدي الأولى، كيف كانت حبرًا مرتعشًا على ورقٍ أصفر، وكيف كنت أظن أنني أكتب لنجاةٍ ما، فإذا بي أكتشف أنني أكتب لأغرق أعمق. لقد فهمت متأخرًا أن النجاة لم تكن في المعنى، بل في القدرة على مواجهة اللامعنى، في أن تستمر بالكتابة رغم الخواء.

أما الكلمات، فهي ليست أدواتٍ طيّعة. إنها طاقةٌ قابلةٌ للانفجار، ومجرّد ومضةٍ منها كفيلةٌ بأن تُعيد تشكيل الغرف المظلمة في داخلك. أتذكر يومًا كتبتُ كلمة "شوق" على زجاجٍ متسخ، فتحركت ظلال الكرسي الفارغ في الغرفة وكأن المقعد الخشبيَّ يئنُّ تحت وطأة غياب. 

الكلمة التي تُضاء لا تكشف الطريق كاملًا، بل تخلق في العتمة متاهاتٍ تدفع المتلقي أن يضرمَ شمعةً من أعصابه. الشعر ليس حلاً، إنه إشعال سؤالٍ آخر في قلبٍ لم يعد يطيق الصمت. 

وأعود بالذاكرة إلى لحظةٍ أقف فيها على درجٍ حجري قديم، والليل يبتلع الحيّ من حولي. كنت أسمع وقع خطواتي يتردّد، كأنما يسير خلفي جيشٌ من الأطياف: امرأةٌ لم تقُل "لا"، رجلٌ أخفى دموعه في قبضته، طفلٌ مزّق رسالته قبل إلقائها. تعلمت يومها أن الكلمة ليست لي وحدي، بل للذين لم يجرؤوا على قولها: هي صرخةٌ تختزن في حناجر ألف صامت.

وفي النهاية، لا شيء يوازي مواجهة الألم. الألم ليس عابرًا ولا طارئًا؛ إنه العظام التي تُبنى منها هويتنا. أن نواجهه لا يعني أن نطلب الشفاء، بل أن نرفع رؤوسنا في وجه الفناء. 

لا تبحث عن عزاءٍ هنا. فالأمل الهادئ خيانةٌ للجرح، ووعدُ النجاة سرابٌ في صحراء الوجود. ما يبقى هو صلابةُ التحدي: أن تصرخ في قلب العتمة بلا ارتجاف، أن تُلقيَ بكلماتك في بركة الزمن الآسن، ثم تصغي لصدى سقوطها وهي تتشظى في القاع. أن تواصل الكتابة رغم يقينك أن الصمت سَيبتلع كل شيء، وحتى بعد أن يصير الوجودُ مقبرةً لا يعرف سوى اسم الريح.  

لقد بدأت الكتابةَ كنحتٍ للضوء، لكنها صارت معركةً ضدّ الفناء: لا انتصار فيها إلا استمرارُ النحت، ولا خلاص إلا بقاءُ الكلمة واقفةً كشاهدٍ أعمى. هذا هو الانتصارُ الأخير: أن تظل حروفك تخترق الظلام، مُحطِّمةً مرايا الصمت، حتى لو لم يبقَ أحدٌ ليسمعَ صدى تشظِّيها.  


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...