هندسة الأعماق!
"كيف تصنع البحار الهادئة أعاصير الروح؟"
في البداية، كان مجرد بركةٍ صافيةٍ.
ثم فجأةً، انفتح القاعُ، وابتلعتك هاويةٌ مائيةٌ لا تُرى نهايتها.
هذه هي المفارقةُ المخيفةُ للعلاقاتِ العميقةِ:
كلما نزلتَ إلى الأعماقِ،
ازدادَ جمالُ المرجانِ،
وازدادَ ضغطُ الماءِ على عظامِ روحِك.
العمقُ هنا ليس اختيارًا،
بل هو ديناميكيةٌ طبيعيةٌ لحبٍ حقيقيٍّ:
أنت لا تُحبُّ سطحَ الآخر،
بل تغوصُ نحوَ أعماقهِ المجهولةِ...
وحينَ تصلُ،
تكتشفُ أنَّ الأعماقَ مليئةٌ بالتياراتِ الباردةِ والكهوفِ المظلمةِ.
هل رأيتَ المدَّ والجزرَ؟
كيف يُولد الجمالُ الألمَ؟
عبرَ معادلةٍ كونيةٍ:
"ما يلمسُ أعمقَ مكانٍ فيك...
يلمسُ أيضًا أعمقَ جرحٍ فيك".
العلاقةُ السطحيةُ لا تكشفُ إلا الظواهرَ،
أما العلاقةُ العميقةُ فتُجري حفرياتٍ في طبقاتِ اللاوعي.
كلُّ اكتشافٍ جميلٍ يقابلهُ اكتشافٌ موجعٌ:
هذا التناقضُ الذي تخبئهُ في صدرِك،
ذلكَ الطفلُ الجريحُ الذي يختبئُ وراءَ قوةِ شخصيتِه،
تلكَ الشكوكُ التي تنمو في الظلِّ كالمرجانِ الأسودِ.
أصغِ إلى هديرِ الأعماق...
كلما ازدادَ العمقُ،
ازدادَ احتكاكُ الأرواحِ بجروحِ بعضها.
والأقسى:
أنت تختارُ هذا الألمَ.
كما يُغلقُ الغوّاصُ بابَ غوّاصتِه طواعيةً وهو يعلمُ أنَّ النوافذَ قد تتحطّم.
نعم...
العلاقاتُ العميقةُ هي "سجونٌ نختارُ أبوابَها الذهبيةَ".
نرفضُ الهربَ من العاصفةِ لأننا نعرفُ سرًّا وجوديًا:
"الهدوءُ السطحيُّ أخطرُ ألفَ مرةٍ من العاصفةِ العميقةِ".
نفضّلُ ألمَ الحقيقةِ على سعادةِ الوهمِ،
ونرتضي ضغطَ الأعماقِ على سهولةِ الطفوِ على السطحِ.
في هذهِ الأعماقِ فقط،
نشعرُ أننا أحياءٌ رغمَ أنفاسنا المتقطعةِ،
أننا حقيقيون رغمَ تشقّقاتِنا.
انظرْ إلى الفيزياءِ العاطفيةِ:
العلاقةُ العميقةُ كـ "غوّاصةٍ" تتحطّمُ نوافذُها تحتَ الضغطِ.
كلُّ مشكلةٍ تُصبحُ اختبارًا لتماسكِ الهيكلِ،
كلُّ خلافٍ يتحوّلُ إلى تمرينِ إنقاذٍ من الغرقِ،
كلُّ صمتٍ يُشبهُ فقدانَ الإشارةِ في قاعِ المحيطِ.
لماذا لا نهربُ؟
لأننا اكتشفنا أنَّ الألمَ هو اللغةُ السريةُ التي تتحدثُ بها الأرواحُ المتشابهةُ.
ولأننا نعرفُ أنَّ الزلازلَ تُظهرُ معادنَ الأرضِ الخفيةَ.
في عينِ العاصفةِ،
حيثُ تنكسرُ الأشرعةُ وتتلاطمُ الأمواجُ،
يحدثُ السحرُ:
تتحوّلُ الذاتُ إلى "كائنٍ برمائيٍّ".
تتعلمُ أن تتنفس تحتَ الماءِ،
أن ترى في الظلامِ،
أن تصنعَ من دموعِك ملحًا يحفظُ طعامَ روحِك.
العلاقاتُ العاصفةُ تُخرّبُ مساحاتِ الراحةِ،
لكنها تبنيك قصرًا من المرونةِ في مكانٍ لم تكن تعرفه.
لذلك،
إذا سألني أحدٌ:
"لماذا تتحمّل أعاصيرَ الحبِّ؟"
سأريه صدفةَ اللؤلؤِ التي خرجتْ من محارتي المكسورةِ:
"انظرْ..
هذهِ التشققاتُ فيّ ليست جروحًا،
بل مداخلُ لنورٍ جديدٍ.
هذا الألمُ ليسَ ثمنَ الحبِّ،
بل هو رسمُ الجمرةِ التي تدفئُنا حينَ ينطفئُ كلُّ شيءٍ.
نعم... تؤلمني أكثرَ مما تسعدني،
لكنّي لو خُيّرتُ ألفَ مرةٍ
بينَ بحيرةٍ هادئةٍ
ومحيطٍ يهدّدُ بابتلاعي...
لاخترتُ الغرقَ في أعماقهِ
لأنّي أعرفُ يقينًا:
بعضُ الأرواحِ وُلدَتْ لتغوصَ،
لا لتطفو".
فلا تَلُم العواصفَ...
بل الْهِمْ بالغوّاصينَ:
"كم من لؤلؤةٍ وُلدتْ
من رحمِ الاحتكاكِ بينَ القلبِ
وأصدافِ الجروحِ في قاعِ المحيطِ؟"
أتعلمُ؟
البحرُ الحقيقيُّ لا يعرفُ أمواجًا بلا فسحاتٍ —
تلكَ اللحظاتُ حيثُ يلتقطُ الغواصُ أنفاسَهُ
ليغوصَ أعمقَ في ممالكِ الأعماقِ.
السعادةُ هنا ليست غيابَ الألمِ،
بل هي لحظةُ الصمتِ بينَ موجةٍ وأخرى،
حينَ تكتشفُ أنَّ قلبَكَ
صارَ سفينةً وحيدةً قادرةً على عبورِ أيّ إعصارٍ
بشراعٍ اسمُه "العمق".
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق