الجمعة، 15 أغسطس 2025

طقوس الجرح المذهّب: حين يصير الحبُّ معبدًا لتعذيب الذات!


طقوس الجرح المذهّب: حين يصير الحبُّ معبدًا لتعذيب الذات! 


في السراديب المظلمة للروح، يُقام أحيانًا معبدٌ سريٌّ. ليس للعبادة، بل لجلّادٍ نعشقه. ننحني أمامه طوعًا، ونقدّم على مذبحه أغلى قرابيننا: كرامتنا، سلامنا، حدودنا. نسمّي هذا الطقس "حبًّا"، لكنّ حباله الحريرية تخفي ندوبًا عميقة. 


هذه هي المفارقة القاتلة: أن نُعلن الحرب على أنفسنا باسم أقدس المشاعر، أن نرتدي ثوب الضحية طالبين المزيد من السُّمِّ العاطفي، كأنما الجرح وسامٌ نتباهى به في حفلات الشفقة الذاتية.


كيف يحدث هذا التحوّل الخبيث؟  
تبدأ اللعبة بـ "خدعة الوفاء". نخلط بين تحمّل الأذى والإخلاص، بين التمزّق اليومي والبطولة الرومانسية. وهكذا، ما بدأ كخدعة يتحول سريعًا إلى نمط يسيطر على شعورنا بالحب، فنُدمن على الألم كدليلٍ على صدق المشاعر: "لو لم أتألم، فهل كنتُ أحب حقًّا؟". 


كل إهانةٍ نتخطّاها، كل حدٍّ نكسره، كل دمعةٍ نخنقها – نراها ميداليّاتٍ نُعلّقها على صدر هويتنا الجديدة: "المنتحر العاطفي البطَل". وهكذا يُصبح الحبُّ ساحةً لـ "انتقام الذات من الذات"، حيث نعاقب ذلك الطفل الجريح فينا بإعادة تمثيل جروحه بأدواتٍ أكثر حدّة.


والأعمق من ذلك: الحب المؤذي قد يكون أقنعةً فاخرةً نختبئ وراءها من مواجهة الفراغ. أليست علاقةً مدمرةً أفضل من مواجهة ذلك الصمت الرهيب في المرآة؟ أليس استنزافُنا في معارك غيرنا أسهل من خوض معركة وجودنا الخاص؟ 


وفي خضم هذا الصراع، يتحول "الحبيب" إلى كبش فداءٍ كوني نُلقي عليه بكلّ مخاوفنا: خوفنا من الحرية، من المسؤولية، من اكتشاف أننا – دون دراما الألم – أشخاصٌ عاديون لم يجدوا بعدَ بصمتهم في الكون. نختار علاقةً تقتلنا كي لا نواجه السؤال المرعب: "من أنا حين لا أُجرح؟".


ومع ذلك، انظر إلى عبقرية هذه الآلية الشيطانية:  
نُذهّب سلاسلنا، ونسمّي الخضوع "تضحيةً"، والذل "عطاءً"، والاحتلال العاطفي "امتلاكًا". 


نُزيّن قفصنا بزهور الشهادة: "أنا أتحمّله لأنّي قويّ"، "أحبّه رغم كل شيء". لكنّ زهور الأوهام لا تنبت في تربة الحقيقة، فالقوة الحقيقية تكمن في جرأة النظر إلى المرآة وسؤالها:  
هل هذا حبٌّ أم طقوسُ إحراقٍ ذاتيٍّ؟  
هل تمسكُ بيدٍ تؤذيك لأنك تُحبها، أم لأنّ الألمَ مألوفٌ والشفاءَ مجهولٌ مرعب؟  


في نهاية المطاف، تُدرك أنَّ هذا "الجنون المقدس" ليس حبًّا، بل هو هروبٌ من مواجهة معجزة وجودك. التمسك بالعلاقة المؤذية يشبه بقاءَ بحّارٍ في سفينةٍ غارقةٍ يرفض النجاةَ كي لا يواجهَ رعبَ المحيط الواسع. 


في الواقع، الخلاص يبدأ بلحظةٍ وحيدة:  
أن تسحب يديك من النار المُقدسة التي تُحرقك،  
وتكتشف أنّ الجرأةَ الحقيقيةَ ليست في تحمّل الأذى، بل في مواجهة الفراغ الرهيب الذي خفّيتَ منه وراء لهيب العلاقة.  


لكن هنا يكمن الفرق: لا تخلط بين الألم والحبّ.  
الحبّ لا يطلب منك أن تُصلب نفسك على مشنقته.  
الحبّ الحقيقيّ هو الذي يجعلك تقف أمام المرآة فجأةً فترى – 
لأول مرةٍ – وجهَ إنسانٍ كاملٍ يستحقّ السلام.  


فإذا كان "حبّك" يُذيب هذا الوجه في بوتقة الألم،  
فاعلم أنك لستَ في معبد الحب،  
بل في سجنٍ رائعٍ بنيتهُ من أوهامك،  
ومفتاحُه ليس في يد الآخر،  
بل في جرأةِ صرخةٍ واحدةٍ:  
"كفى..  
لن أقدّم ذاتي قربانًا على مذبح أوهامي بعد اليوم". 



جهاد غريب 
أغسطس 2025 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...