الخميس، 21 أغسطس 2025

البوصلة التي يرسمها التيه!

 
البوصلة التي يرسمها التيه! 

لا جدوى من شيء... سوى أن نصبر كما يصبر الحجر تحت المطر، لا لينجو، بل لأنه لا يعرف كيف يذوب. تُشحذ همة النفس لا طمعًا في نجاة، بل لتبقى الروح محلّقة، ولو بأجنحةٍ من خيبة. 

يتراءى الصمود هناك، بعيدًا، كظلٍ يمشي فوق سحبٍ تائهة، تركض في الأفق بلا اتجاه، ترسم خرائطها على اتساع السماء، لا لتصل، بل لتثبت أن الضياع نفسه قد يصير بوصلة. فكم من خريطة صيغت من وجع، وكم من روحٍ صمدت فقط... لأنها لا تملك ترف السقوط.

المطر يتساقط بلا توقف، كثوبٍ كثيفٍ يلفّ العالم ويذيب معالمه في غموضٍ سائل. والريح ليست هواءً عابرًا، بل يدٌ خفية تدفع الجسد رغمًا عنه، تجرّه إلى طرق لم يخترها، وتكشف ضعفًا حاول إخفاءه. تصفر في الأذن كصوتٍ ساخر، ثم تسكت فجأة كأنها تخفي سرًّا أكبر من قدرتنا على الفهم.

في قلب هذا التيه، يسمع الإنسان وقع أقدامه يتردد كنبضٍ خافت، يؤكد له وجوده في عالمٍ يبدو فيه الأفق بلا علامات. خطواته تثقل على الطين، وتترك أثرًا سرعان ما يمحوه المطر، كأن الأرض نفسها تأبى أن تعترف بمروره. 

ومع ذلك، يعود الصدى إلى الداخل كإيقاع خفي يذكّره أنه لم يندثر بعد. السير في الضياع لا يثبت الوصول، لكنه يبرهن أن الجسد ما زال يجرؤ على الحركة.

كل قطرة مطر، وكل صفير ريح، وكل أثرٍ زائلٍ على الطين، يصبح جزءًا من ملحمة صغيرة لم يقرأها أحد؛ ملحمة تُكتب في صبر الجسد وصمته، وتُختزل في نبض الأقدام التي تواصل السير في طقسها القديم، حتى وإن بدا الأفق بلا إشارات.

ثم يحلّ الليل، لا كراحة، بل كستارٍ أسود يبتلع الطريق كله. الظلام ليس غيابًا للضوء فحسب، بل حضورٌ كثيف لغياب المعنى. في الليل تتشابه الوجوه، وتذوب المعالم، ويصير المطر والريح والخطى مجرد أصواتٍ متقطعة، كما لو أن العالم كله ينصت لانكسارك. الليل لا يهبُ اتجاهًا، لكنه يضاعف التيه على هيئة مرآة سوداء تعكس القلق ولا ترده.

لكنّ هذا الضياع المفروض يغني الروح بتجربة لا تشبه أي خريطة أخرى: أن تمشي تحت مطرٍ يحجب الطريق، وفي ريحٍ تدفعك حيث لا تريد، ثم تكتشف في أعماقك نبعًا صغيرًا لا يُطفأ. هنا فقط يصبح العبور فعل كشف، لا مجرد احتمال.

وأيُّ صبرٍ هذا الذي يشبه الحجر؟ الحجر لا يملك إرادة، أما نحن فنصبر لأننا نعي ثقل اللحظة ونختار أن نحملها. إنّ في كل خيبة نواة ضوء. الصمود ليس ادعاء بطولة، بل هو شكل من أشكال العناد ضد الانكسار؛ أن نُمسك بخيوطنا المتناثرة، حتى وإن لم نستطع أن نرتبها في عقدٍ متماسك.

الحجر صامت، لكن الإنسان يعي صمته ويختار أن يحمله. هنا يكمن الفارق: أن الإرادة ليست مجرد مقاومة، بل حوار مع ما لا يُحتمل. أن تختار الصمود يعني أن تمنح الألم شكلًا جديدًا، كما تمنح الريحُ السُّحُبَ المتناثرة وجهًا متجدِّدًا كل لحظة.

الصبر الذي نحمله ليس سكونًا، بل حركة خفية، كالجذور وهي تشقّ الصخر لتبلغ قطرة ماء. وفي ذلك التناقض الجميل: يولد الألم إرادةً، وتتحول الخيبة نفسها إلى جناح غير مرئي يدفعنا إلى أبعد مما كنا نظن.

الخرائط المرسومة بالوجع لا تقود إلى الغايات، لكنها تشهد أن الخطى وُجدت وعبرت المسافة بكل ما فيها من وحشة. الضياع ليس نهاية، بل بداية جديدة للرسم؛ فسحة قاسية تكشف للروح ذاتها في مرآة غريبة، وتتيح لها أن تعيد ترتيب حدودها.

الصمود ليس تعريفًا جاهزًا، بل أثرٌ يتركه العابرون: خطى في الطين، ظل فوق الغيم، وجسد يحمل نفسه رغم ثقله. وما الضياع إلا استراحة قصيرة في طريق طويل، لحظة يتذكر فيها الوجود أنه لم يكن صدفة، وأن فقدان البوصلة لا يعني فقدان سرّ البقاء.

لا يعود الصمود مجرد صرخة في وجه اليأس، بل نشيدًا يُولد من المرثية، خيبةً تُبعث كأجنحة، وضياعًا يُرسم كخريطة. لأننا، ببساطة، لم نُخلق لنذوب… بل لنثبت أننا أقوى من الذوبان.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إرْثُنا… إلى أين؟

  إرْثُنا… إلى أين؟ هذا سؤال يلامس عمق وجودنا كشعب. ففلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل هي هوية محفورة في جذع الزيتون العتيق، وطن يتجاوز حدود غز...