طقوسُ الحبر: كيف تستخرج الكلماتُ شظايا الروح؟
"ماذا لو صار الزجاجُ المكسورُ في روحك خريطةً للضوء؟ هذه معجزةُ الحبر"
كان هناك جرحٌ لا يُرى. شظايا خفيّةٌ من أحزانٍ منسيةٍ، خيباتٍ مكبوتةٍ، صرخاتٍ اختنقت في الحنجرة، علقت في نسيج القلب كرمالٍ ساخنةٍ. لا تظهر بالأشعة، لكنّها تُحدث ألمًا غامضًا حين تدقّ الساعةُ المناسبة في أعماق الليل.
هنا، حيث تعجز الدموع عن الوصول، تبدأ معجزة الأبجدية. ليست الكتابة تسجيلًا للأحداث، بل هي جراحةٌ روحيةٌ تُجريها لنفسك بنفسك: مبضعُك قلمٌ، ومخدّرك ورقةٌ، وتخديرك هو ذلك الشوق الجنونيّ لاستعادة نقاء روحك.
انظر إلى يدك وهي تتحرك فوق الصفحة البيضاء: إنها لا تكتب، بل تستخرج. كل كلمةٍ تسحب شظيةً من مكانها العميق. تلك الذكرى المؤلمة التي ظلّت لسنواتٍ كخنجرٍ في الخاصرة، تصير جملةً تنزعها بلطفٍ كملقطٍ جراحيّ. ذلك الغضب المسموم الذي كان يلتهم أحشاءك، يتحوّل إلى فقاعةِ حبرٍ تنفجر على الورق فتطلق سمومها في الهواء.
الكتابة هنا ليست نقلًا، بل ترحيلٌ وجوديٌّ للألم من جوفك إلى عالم المادة. هي نولٌ خفيٌّ ينسجُ خِرَقَ روحك المُتمزقةَ سجادًا ملوَّنًا، وبوصلةٌ تُعيدُ توازنَ اتّجاهك كلَّما ضعتَ. ألمٌ يتحوّل إلى كيانٍ ملموسٍ يمكنك طيّه، تمزيقه، أو حرقه في موقد التحرر.
والعجيب أنَّ هذه الشظايا حين تخرج منك، لا تترك فراغًا دامغًا. بل تترك مساحةً مضيئةً تنبت فيها كائناتٌ جديدة: بصيرةٌ لم تكن موجودة، قوةٌ غريبةٌ، حكمةٌ تشبه ضوء الفجر بعد ليلة عاصفة. وهنا بالضبط – في تلك المساحة المضيئة – تُولدُ مُتعٌ لم تكن تتوقعها: كأن تتحوَّل شظايا أحزانك إلى لوحةٍ فنيَّةٍ تُدهشك، أو قصيدةٍ تلمعُ في يديْك كفراشاتٍ من نارٍ.
فأنت حين تكتب جرحك، لا تكرره، بل تعيد تشكيل علاقتك به. تصير مؤرّخًا وحكّامًا في محكمة ذاتك. السرد هنا ليس استسلامًا، بل هو سيادةٌ على الفوضى. تحوّل الفجيعة إلى حبكةٍ، والعبث إلى معنى، والضعف إلى سيرةِ مقاومةٍ.
لا تندهشْ إن بدا التحوُّل عنيفًا أحيانًا؛ فما كان يختنقُ في الأعماق يحتاجُ زلزالًا صغيرًا لتحريره. لكن شاهدْ: الألم ينكسر على صخرة الجملة الفعلية، فيتحوّل من سيدٍ إلى مادةٍ خامٍ لبناء معبدك الجديد.
هذه المفارقة العميقة: الكلمات التي تخرج من الجرح تكون هي البلسم. كل حرفٍ تسكبه كالرصاص السائل فوق الورق، يتحوّل إلى درعٍ شفافٍ يحميك. لماذا؟ لأنَّ الكتابة فعلٌ تمرديٌّ على الصمت الداخليّ. هي تحويل "اللامرئيّ" إلى "مُشاهَدٍ"، والمسكوت عنه إلى مُعلَن.
حين تصير الكآبة فقرةً مقروءة، تفقد سلطانها الأسود. حين يتحوّل الخوف إلى سطرٍ، يصير غريمًا يمكنك مواجهته. إنها الخديعة العبقرية: أن تسحب الوحش من جحره إلى نور اللغة، فتنزع عنه قوته.
ولذلك ليست الكتابة مجرد أداة، بل هي طقسٌ مقدسٌ من طقوس التطهير. كأنك تدخل معبدًا ورقيًّا كل صباح، تضيء شمعةَ القلم، وتقدّم قرابينَ الحقيقة على مذبح الصفحة البيضاء. لا يحتاج هذا الطقس إلى كاهنٍ وسيط، فأنت الكاهن والمُصلّي والقربان.
الصمتُ الذي يسبق الكتابة هو تبريك المكان، والهمسُ الذي يصاحب السطور هو تراتيل التحرر، وذلك الارتعاش الخفيف في الأصابع حين تكتب أقسى الاعترافات هو لحظة اتحادٍ بين الروح والجسد. هنا، في هذا القدس الورقيّ، تُولد من جديد.
فإذا انتهيتَ من الصفحة الأخيرة، ورأيت كومة الأورق المليئة بالشظايا المستخرجة، ستسمع صوتًا خافتًا في أعماقك:
"انظر! هذا قلبي... كان ممزقًا،
والآن صار كتابًا مفتوحًا".
لا تبحث عن جواهرك في خزائن الآخرين.
أعظمُ اللآلئ تُستخرج من أعماق جراحنا،
بالحبر لا بالدموع،
بالكلمات التي تصير مناجمَ للضوء.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق