"كيف نُهدر
الجودة باسم الإنجاز، ونقتل المستقبل بالسرعة المُقنّعة بالغش المؤسسي؟"
هذه الوثيقة تُقدّم رؤية إصلاحية لمواجهة ثقافة الاستعجال في
المؤسسات التعليمية والإعلامية، وتُقترح كميثاق مهني قابل للتبني.
رسالة إلى صناع القرار في التعليم والإعلام:
"السادة
صناع القرار،
هذا النص ليس مجرد مقال، بل هو مرآة تكشف صورة المستقبل الذي
تُشيّدون أسسه اليوم. كل قرار تستعجلون فيه الجودة، كل مشروع تهملون فيه الإتقان -
هو لبنة في صرح الأزمة القادمة.
الاختيار
بين السرعة والجودة هو في الحقيقة اختيار بين الوهم والحقيقة".
وهم السرعة
في سباقِ هذا العصر المُحموم، حيث تتصادمُ إبرةُ الزمن مع
مطرقةِ الإنجاز، يولدُ الوهمُ الكبير: أن العدو وراء الزمن هو الوجهُ الأوحدُ
للتقدّم. نلهثُ وراء أرقامٍ تتبارى في سجلات الإنتاج، ونحن ننسى في غمرة هذا العطش
أن البناءَ الذي يُشادُ في أيامٍ، قد يحتاجُ إلى أشهرٍ من الترميم. إنه وهمٌ ينتجُ
عنه مجتمعاتٌ متهالكة، تُعاني من "متلازمة البناء المتهالك" في تعليمها
وثقافتها وقيمها الإنسانية. إنها المتلازمةُ التي تجعلُ من منجزاتنا قصورًا من
رمالٍ باهتة، تتهاوى على ركبتيها عند أولِّ اصطدامٍ بموجةِ الواقع الصادمة.
فالجودةُ المُتأنيةُ ليست ترفًا، بل هي الطريقُ الأقصرُ حقًا؛ أما الهرولة المجنونةُ
فهي طريقُ الإهدار الطويل.
[إضاءة
ثقافية]
في الحضارة اليابانية، يمثل مفهوم "التحسين المستمر"
الفلسفة الأصيلة للارتقاء الدائم، حيث لا وجود للكمال النهائي في طريق الإتقان.
بينما في التراث الألماني، تشكل "القيمة الحرفية" العقد غير المكتوب بين
الصانع والمستهلك - عهدًا بالجودة يتجاوز الزمن".
الجزء الأول: صدمة الجهد
ثمّةَ صمتٌ يعلو فوق ركام الأوراق.
تقريرٌ مُفصّل.. ليست مجرد حروفٍ منثورة، بل هي نبضٌ متواصل
لضميرٍ مهني، وخريطةٌ مرسومةٌ بإتقان لتجنب الهوى. لقد حفرت فيها بتؤدةٍ روحَ
المسؤولية، ونسجت فيها بيانًا كاملًا يضع النقاط على الحروف، قبل أن تتحول إلى
غيومٍ من الالتباس.
لكن يبدو أن الزمنَ الآنَ لا يتحمل ثقلَ القراءة.
فالوثيقة التي استنزفت الفكر والوقت، تستقر الآن في قبرٍ رقمي،
لم تصل إلى عينٍ ترى، أو قلبٍ يفتح نوافذه للفهم. إنها "صدمة التقرير
الصامت". وهي الصدمةُ ذاتها التي يعانيها الفنانُ عندما تُعلَّق لوحته في
الظلام، أو الكاتبُ عندما يُغلق كتابه دون قراءة. وفي التعليم، يتحول المنهج
الدراسي المتكامل إلى جثة في درج مكتب، يُنسى دون أن يرى النور. وفي الإعلام،
يُختزل التحقيق الاستقصائي الدقيق في سطر عاجل، يلهث وراء السرعة ويخون العمق. إنه
ذلك الجهد المُفصّل الذي يسدلُ ستارهُ ويموتُ في صمتٍ مطبقٍ على عتبة اللامبالاة.
إنه إحساسٌ مركبٌ بالغربة؛ أن تقدم عصارة خبرتك في صيغةٍ
منهجية، ثم تكتشف أن العالمَ من حولك يركض في سباقٍ آخر، لا مكان فيه للعمق، ولا
وقت للمراجعة. إنه إهدارٌ مزدوج: إهدارٌ للجهد المبذول، وإهدارٌ للفرصة التي كان
يمكن أن يقدمها هذا العمل المتقن.
ها هي الأوراقُ تئنّ تحت ثقل هذا الصمت، وتسأل: أيُّ قيمةٍ
للإخلاص إذا كان مصيره الإهمال؟
[إضاءة
ثقافية]
الحرفي في مدينة فلورنسا الإيطالية لا يوقّع على منحوتته حتى
يمر عليها ١٠٠ عين ناقدة. وفي سويسرا، قد يتوقف صانع الساعات عن الإنتاج لأيام
لأنه شعر "أن العجلات لا تتحدث بلغة واحدة". هذه ليست مثالية، بل هي
احترام للجهد".
الجزء الثاني: إدانة الاختزال
ها هو الجوهرُ يُختَزَل، فيتحوّل من كونٍ شاسعٍ إلى ظلٍّ باهت.
تلك المساحةُ الضئيلة التي خُصِّصَت للجانب الموضوعي الرئيسي،
ليست مجرد تقليصٍ كمي، بل هي جريمةٌ بحقِّ المعنى. إنها الانزياحُ الخطيرُ نحو
الهامش، بينما يقف العمقُ وحيدًا عند الباب، حاملًا بين يديه كلَّ الأسئلة التي لم
تُسأل، وكلَّ الإجابات التي ستُدفَن في مقابر "الاختصار".
ففي
الإعلام، يصير الاختزالُ تقزيمَ الخبر إلى عنوانٍ صاخب، يلهث وراء الجدل ويُهمل
التحليل. وفي التعليم، يتحوّل إلى اختزال العملية التربوية برمتها في شهادةٍ
شكلية، تهمّش بناء المهارة وتقتل روحَ السؤال.
أليست هذه هي الجريمةُ ذاتُها عندما تُختزل الأحلامُ الكبيرة
إلى أهدافٍ رقميةٍ ضيقة، وتُختزل العلاقاتُ الإنسانية إلى محادثاتٍ سريعة؟
أيُّ احترافيةٍ هذه، التي تظنُّ أن التوثيقَ مجردُ شكليّاتٍ
تكميلية، وليست العمودَ الفقريَّ للرؤية؟ أيُّ منهجٍ هذا، الذي يقدّم الزخرفةَ على
الأساس، ويظنُّ أن طلاءَ السطح يُغني عن متانةِ الهيكل؟
إنها ليست مجرد معركةٍ بين المساحة والمساحة، بل هي صراعٌ بين
رؤيتَين للعالم: إمّا أن نُوثِّقَ الفكرةَ بحجمها الطبيعي، فنمنحها حقَّها من
الشرح والتحليل، وإمّا أن نُقدّمَ لها مقصَّ التقطيع، فتُصبح جسدًا مقطّوعَ
الأوصال، لا يُعبّر إلا عن تشوّهِ المنهج.
إن "جريمة الاختزال" هذه، هي انزياحٌ عن جوهر
المهنية، واستسلامٌ لثقافة القشور، حيث يُختزل الفكرُ ليُقدَّم في أطباقٍ سريعة،
تُشبعُ الظمأَ الآني، لكنها تقتلُ الجوهرَ الإنسانيَّ للعملِ الرصين.
الجزء الثالث: الصراع الأخلاقي
ها هو الميثاقُ المهنيُّ يُنحّى جانبًا، لصالح رقصاتٍ مرتجلةٍ
على أنقاض الجوهر.
تلك المنهجيةُ المتقطعة، التي تتبنى "ثقافة الرقع
السريعة" وتتجاهل البناء المتقن، ليست مجرد أسلوب عملٍ مختل، بل هي انزياحٌ
أخلاقي يضع المصالحَ الضيقة فوق مذبحِ الإتقان. إنه النفورُ الذي يستقر في أعماق
المهني، حين يرى زملاءَ الأمس يتحولون إلى أطراف في دائرة الغشّ المرخص.
إنه الانكسارُ الداخليُّ ذاتهُ الذي يعبرهُ كلُّ ضميرٍ حيٍّ
يرفضُ أن يكونَ حارسًا لأطلالِ الجودة في زمنِ الاستعجال.
أيُّ مهنيةٍ هذه التي تبارك "الوفاء الشكلي" بالوقت،
بينما تتنكر لجوهر العمل؟ أيُّ احترامٍ للذات يبقى لنا، ونحن نشارك في طقوس
"الاستعجال الممنهج" الذي يشبه إعداد وجبة فاخرة بمواد فاسدة؟
ها هي الذاكرةُ المهنيةُ تصرخ من داخلي: لستُ جزءًا من هذه
المسرحية. لستُ تاجرَ كلماتٍ يغلف الإهمالَ بلاغةً جوفاء. إنها المعركةُ الأخيرةُ
للضمير في زمنِ التكيّف المريح. إنه ذاك الانكسارُ الداخليّ الذي لا يُرى، حين
تكتشف أنك الوحيد الذي ما زال يعتبر "الجودة" قيمة،
و"الإتقان" فضيلة، في زمنٍ يقدّس "الكمَّ" ويتغنّى
بـ"الإنجاز السريع"، حتى لو كان إنجازًا وهميًا على جثثِ المبادئ.
ميثاق الإتقان
لذلك، نقفُ هنا على حافةِ القرار، لا كمن يتهرب من المسؤولية،
بل كمن يُصرّ على أن يكونَ الوفاءُ حقيقيًا، لا شكليًا. نعلنها بوضوح: العملُ
سيُنجز، لكنه لن يُنجزَ إلا بعد دراسةٍ متعمقةٍ وتعديلٍ جذري. لأننا نرفضُ أن
نكونَ جزءًا من دائرةِ الغشِّ الذاتي، ونرفضُ أن نقدّمَ للعالمِ منتجًا مشوّهًا.
إن الوقتَ الذي نطالبه ليس رفاهية، بل هو ضريبةُ الجودةِ في
زمنِ الاستعجال. إنه النداءُ الأخيرُ للاعتراف بالوقت كشرطٍ مقدسٍ للإتقان.
فلنعملْ إذن، ليس كمن يقاوم التيار وحسب، بل كمن يحفر مجرى
جديدًا للقيم. فلنُعيد بناء الزمن على مهل، لأن السرعة لا تُنتج أثرًا، بل تُخلّف
أنقاضًا. لأن مستقبلنا الإنساني لا يُبنى بسرعة، بل يُؤسس بإتقان. لأن قيمةَ
العملِ ليست في كمِّه، بل في كيفيّته.. وليس في سرعة إنجازه، بل في بقائه وأثره.
[نداء
إلى الضمير المهني الجماعي]
"أيها المهنيون في كل الميادين،
أنتم حراس الجودة الأخيرون. رفضكم للرداءة هو خط الدفاع الأول
عن كرامة المهنة. لا تسمحوا لأحد أن يجبركم على توقيع شهادة وفاة لإتقانكم".
____________________
ميثاق
الإتقان العملي - خارطة الخروج من متلازمة البناء المتهالك:
المبدأ
الأول: التروي في المراجعة (قاعدة التأجيل الإيجابي)
-
لا تعتمد أي عمل فور انتهائه.
-
اترك مسافة ٢٤ ساعة بين الانتهاء والمراجعة النهائية.
النتيجة:
اكتشاف ٤٠٪ من الأخطاء قبل فوات الأوان.
المبدأ
الثاني: معايير الجودة الثابتة:
-
حدد معايير جودة أساسية لا يمكن التغاضي عنها.
-
اجعلها واضحة كالشمس لكل الفريق.
النتيجة:
حماية العمل من المساومة على الجوهر.
المبدأ
الثالث: الاعتراف بالوقت كشريك
-
قدِّر الوقت كأغلى مورد، لا تهدره في إصلاح ما يمكن تجنب إصلاحه.
النتيجة:
توفير ٧٠٪ من الجهد المبذول في التصحيح.
شواهد
رقمية:
دراسة
لليونسكو:
٦٠٪
من المشاريع التنموية تفشل بسبب الاستعجال في التنفيذ على حساب الجودة.
تقرير
البنك الدولي:
كل
دولار يُوفَّر في البناء السريع، يكلف ٤ دولارات في الصيانة والترميم خلال ٥ سنوات.
بحث
في هارفارد:
الجودة
المتأنية تتفوق بنسبة ٣٠٠٪ على السرعة في تحقيق العائد على المدى المتوسط.
الأدوات
التطبيقية:
التعريفات:
الوفاء
الشكلي:
-
إنجاز العمل في وقته مع إهمال جوهره.
-
مثل: بناء مستشفى بكامل تجهيزاتها لكن بأساسات هشة.
النتيجة:
كارثة مؤجلة تنتظر ظرفًا طارئًا لتظهر.
الغش
المرخص:
-
هو تواطؤ مؤسسي على قبول العمل غير المتقن
-
يبدأ بقبول "الأعمال الناقصة" وينتهي بثقافة "الاستسهال".
-
يدمر المنظومة الأخلاقية قبل أن يدمر الجودة.
جهاد
غريب
نوفمبر
2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق