الجمعة، 22 أغسطس 2025

ظلٌّ على مسودة الرصيف!

 
ظلٌّ على مسودة الرصيف!

كان الرصيف بارزًا تحت ضوء قمرٍ صناعي باهت، حُبيباته الخشنة تتشرب بقايا رطوبة لم تُميّزها العين بعد: هل هي ندى الصباح أم دمعة ليلية؟ فوق هذه المساحة من الإسمنت والحجر، استلقى ظلّ. لم يكن ظلًّا عاديًّا تحدده أجساد المارة أو أعمدة الإنارة؛ كان كتلةً مترهلة من عتمةٍ بلا ملامح، بلا تاريخ يُروى، كأنه فكرة وُلِدَت ناقصة فرفضها العقل فتساقطت هنا، منسية على طرف الطريق.

لكن هذا الظل لم يكن ساكنًا، كان مسافرًا في عُمقٍ لا يُرى. يسير لا في الشوارع، بل في الممرات بين اللحظة واللحظة، بين نبضةٍ وصمتٍ، يقتات على الوقت حين لا يلتفت. وهناك، في تلك الثغرات الهاربة من وعينا، تُخبأ أصدق الذكريات وأقساها. 

أهبط طبقاتٍ متراكمة في داخلي: صدى قديم من ضحكة نُسيت، ارتجاف أصابع كلما مرّ اسم غائب، رائحة قهوة باردة على طاولة لم يعد يجلس إليها أحد. كأنني أنزل درجات سلم لا ينتهي، وفي كل خطوة ينتظرني سؤال معلّق. 

بين نبضة وصمت، يتوقف كل شيء. القلب يخفق كحجر سقط في بئرٍ لا قرار له، ثم يسكن فجأة، تاركًا فراغًا يتثاءب في الصدر. إنها اللحظة التي يطلّ فيها الخوف برأسه، كظلٍّ آخر يزاحم الظل الأول.

وعلى الرصيف… يتكلم الوجع بهدوء. ليس بصوتٍ مسموع، بل كذبذبة تحت الجلد، كوشوشة خفية في الهواء تلمس الروح قبل الأذن. 

ثم يعلو صوتٌ ينبض من الأعماق، لا أعرف مصدره: هل هو صدى الذاكرة أم حيلة من حيل الفراغ؟ يقول لي بنبرةٍ متقطعة، وكأنه يخرج من فم الظل نفسه: "ما زلتَ هنا… ما زلتَ تنتظر شيئًا لم تُسمِّه". الصوت ليس غريبًا؛ فيه بقايا حنان يشبه لمسة يدٍ رحلت، وفيه قسوة تشبه الباب حين يُغلق إلى الأبد.

كان حديثه همسًا ممتدًا عن أبوابٍ أُغلقتْ بغير آخر مرة، عن كلمات بقيت معلقة في الحلق، عن نظرات كان ينبغي أن تلتقي لكنها ضاعت في الزحام. الرصيف نفسه صار شاهدًا أخرس، لكنه يروي كل شيء عبر شقوقه وحافته المتآكلة، عبر ملايين الأقدام التي وطأته وتركت جزءًا من أحمالها. إنه وعاء الوجع، وجرحه الصامت الذي يتنفس. 

هل الأشياء الصغيرة وحدها قادرة على كسر صمت المدن وعلى تذكيرنا بأن للعالم ألوانًا؟ ومع كل وجع يزداد الصمت سعةً، حتى صار الصمت نفسه صوتًا. ومن عمق الظل ينبعث صوتٌ خافت، صوتٌ يشبه دقات قلب في غرفة هادئة. لا يسمعه المرء إلا حين يريد أن يسمع، حين يختفي صخب العالم الخارجي. كان ذلك الصوت يروي قصة "مسودة صبرٍ لم تكتمل". 

لطالما حاولت أن أكتب المعنى، كل جملة تبدأ قوية، ثم تتعب، ثم تتركني وحيدًا في منتصف الطريق. أمد يدي إلى جيبي كأنني أبحث عن ورقة، عن مسودةٍ كُشطت كلماتها وكُتبت فوقها كلمات أخرى، حتى لم يعد يُعرف أصلها من آخر نسخها. كل خطوة على الرصيف كانت كإضافة كلمة جديدة أو شطب كلمة قديمة، كأن الصبر نفسه لا يكتمل أبدًا، بل يعيش في مسودات لا نهائية.

الزمن هنا غريب: راكد ومتحرك معًا. الوقت يعبر. لا يلتفت. يضع مسافة بيني وبينه، ولا يمنحني حتى فرصة أن ألوّح له. هو "الوقت"، حين يتوقف عن العدّ ويتفرج على المشهد. يمضي عابرًا لكنه يذوب في اللحظة نفسها، يخلط الماضي بالحاضر ليصنع لونًا جديدًا، لونًا كالحًا من الشوق والندم. رائحة عطر قديم تفاجئ الهواء فتتشابك مع رائحة مطر قادم، صورة وجه تُلمح في زجاج سيارة عابرة ثم تختفي قبل أن تكتمل.

والظلّ… يبدأ في التلاشي. لا يغيب فجأة، بل يتناثر رويدًا، كدخانٍ بلا رائحة. هل انتهت مسودة صبره أخيرًا؟ أم اكتشف أن الكمال ليس في اكتمال المسودة، بل في تقبّلها ناقصة؟ هل وجد ملامحه في صمت الرصيف، أم أن الملامح كانت عبئًا فخلعها ليمشي خفيفًا؟

لا أحد يعلم. يبقى الرصيف فقط، صامتًا ومتكلمًا، خشنًا وحنونًا، شاهدًا ومشهودًا عليه. ويبقى السؤال معلّقًا في الهواء الرطب: من منّا لم يكن يومًا، ولو لمرة واحدة، ظلًّا بلا ملامح على رصيف نفسه، يستمع إلى وجعه يتكلم بهدوء؟ 

أظل واقفًا عند حافة الرصيف، أراقب ظلي الذي يبتعد أكثر فأكثر، فيما داخلي يتساءل: من يتبع من؟ هل كان الظل يخصني فعلًا؟ أم أنني كنتُ أنا من تبع أثره طوال هذا العمر، وأنا الذي لم تكتمل ملامحي بعد؟ 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إرْثُنا… إلى أين؟

  إرْثُنا… إلى أين؟ هذا سؤال يلامس عمق وجودنا كشعب. ففلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل هي هوية محفورة في جذع الزيتون العتيق، وطن يتجاوز حدود غز...