عاصفة الأحرف: كيف يُولد الإعصارُ جواهرَ الكلام؟
كان هدوءٌ ما يسبق العاصفة. ليس الهدوء الذي يُخدِّر، بل ذلك الذي يترصَّد، كأرضٍ جافةٍ تختزن في صمتها قابليَّةً للاشتعال. ثم يأتي الحبُّ كصاعقةٍ في ليلٍ مُظلم. لا يضيء فحسب، بل يُفجِّر في أعماق الروح مناجمَ من الكلمات المُكبلة، والصور المُختنقة، والأسئلة التي لم تجد فمًا.
هنا، في قلب الزلزال العاطفي، تُكتشف لغاتٌ بشريةٌ لم تُسجَّل في معجمٍ بعد. هل رأيتَ كيف تُولَد النجوم من اصطدام عنيف؟ هكذا يُولَد الإبداعُ الحقيقيُّ: من ارتطامٍ كونيٍّ بين روحين تبحث كلٌّ منهما عن مرآةٍ في الأخرى، حتّى لو انتهى الأمرُ إلى شظايا.
لكن هنا تتغير القواعد...
العلاقة العاصفة ليست حدثًا عابرًا؛ إنها مُعجَزِن كيميائيٌّ. تختلط فيها دموع الغضب مع أنفاس الشوق، وصُوَر الوداع مع شظايا الذكريات، فتحدثُ "تفاعلاتٌ نوويّةٌ" داخل كهوف اللاوعي.
الألم هنا ليس نهاية، بل مادةٌ خامٌ خامدةٌ تنتظر من يلمسها بعصا سحرية. هذا الألم العالي النقاوة، المكثَّف كحممٍ بركانية، لا يحرق الروح وحدها؛ إنه يُذيب حواجز التعبير التقليدي.
يصير الصراخ قصيدةً، والوجع لوحةً، والحيرة روايةً، والغضب سيمفونيةً. ليس لأن الفنّ علاجٌ فحسب، بل لأنّ العاطفة الجارفة تخلق ضغطًا وجوديًّا يتحوّل تحت وطأته الرمل العادي إلى ألماسِ كلام.
انظر إلى الكلمات التي تُكتب في لهيب الفراق، أو في سُكر اللقاء الأول: إنها لغةٌ أخرى. لغةٌ تختلس مفرداتها من نبضات القلب المرتعش، ومن ظلّ يدٍ اختفت، ومن رائحة عطرٍ علقت في الفراغ. لغةٌ تخترق القشرة السميكة للعادات اللغوية لتصل إلى "نقاء الصرخة الأولى".
كيف يُعبَّر عن ألمٍ لم يسبق له مثيل؟ بكلماتٍ لم تُخلَق بعد. لهذا يخترع العاشقُ المبدعُ مفرداتٍ من دمه: استعاراتٍ مجنونةً، تراكيبَ متمردةً، إيقاعاتٍ تشبه دقات قلبٍ على شفا الانكسار. الإبداع هنا ليس ترفًا؛ إنه ضرورةٌ بيولوجيةٌ كالتنفس، محاولةٌ يائسة لترجمة اللامترجَم، لصيد السراب بيد الكلمات.
لذلك، في هذه المفارقة القاسية تكمن العبقرية: أعظم الكلمات تُولد من أقسى الصراعات. العلاقة التي تهدد بتدميرك تصبح، رغمًا عنك، معملك الأكثر خصوبةً. كل خلاف عنيف يدفع طبقاتٍ جديدةً من الحقيقة إلى السطح، كل فراقٍ مؤلمٍ يمنحك "عدسةً مكبِّرةً" ترى بها تفاصيل نفسك ونفس الآخر لم تكن تراها في زمن القرب.
العاصفة تُقلع الأشجار، لكنها تكشف أيضًا عن جذورٍ كانت مختبئة.
تخيّل هنا شخصًا، بعد أن تهدأ الرياح، يجلس أمام طاولة صغيرة في غرفة معتمة، وبين يديه دفتر مفتوح وقلم مرتجف... يبدأ ببطء في تحويل الجذور المكشوفة إلى حكاية.
هذا الكشف المؤلم هو الوقود. إنه يمنح الفنَّ عمقه المأساوي، وصدقه الذي يهزّ المتلقي من الأعماق. الفن الناتج ليس مجرد تسجيلٍ للأحداث؛ إنه "تخليدٌ كيميائيٌّ" للّحظة العابرة، تحويل المرارة إلى نبيذٍ فنيٍّ يُسكَر به عبر العصور.
لذلك، عندما تسقط علاقةٌ عظيمةٌ كشجرةٍ عملاقة، لا تنظر إلى الخراب فقط. انظر إلى "منشار الكاتب" الذي يبدأ في تقطيع جذعها الضخم، ليحوله إلى ألواح رواية.
استمع إلى "إزميل النحات" وهو ينحت من صخر الذكريات تمثالًا يخلد الجمال الذي كان. تذوّق "ريشة الرسام" وهي تحوّل دموع المساء إلى ألوانٍ على قماش الخلود.
الحب العاصف يعطينا جرحًا، لكنه يعطينا - في اللحظة ذاتها - الإبرة والخيط الذهبي لخياطة ذلك الجرح وتحويله إلى نقشٍ فنيٍّ مبهر. الألم العاطفي هو الثمن، والفن الخالد هو العملة التي نستعيد بها جزءًا من استثمارنا المهدر في متحف الوجود.
لكن احذر... ففي كلّ كلمةٍ تُخلَّد، في كلّ لوحةٍ تُرسم، في كلّ نوتةٍ تُكتب من دم القلب، يُدفع "قسطٌ من الروح". هل الإبداع المُشتقّ من العواصف العاطفية انتصارٌ أم هزيمةٌ مُؤجّلة؟ هل نحن نخلّد اللحظة أم ندفنها في قبرٍ من جمالٍ وهمي؟
ثم، يأتي ذلك الصمت العميق بعد انتهاء الكتابة... كهدنةٍ قصيرة بينك وبين قلبك، قبل أن تكتشف أن النزيف لم يتوقف حقًا.
ربما يكون أعظم ما يمنحنا إياه الحبُّ المؤلم ليس الفنَّ نفسه، بل تلك المفارقة الصاعقة: أن تتحوّل نارُ احتراقنا إلى نورٍ يضيء ظلام الآخرين، وأن تصير قصيدتك التي كتبتها من دموعك مركبًا يعبر به غرباءُ لم تعرفهم أبدًا بحارَ أحزانهم. هل هذه نهاية المأساة؟ أم بداية الخلود؟
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق