السبت، 16 أغسطس 2025

سجينُ الانتظار: بين شرف الصبر وجريمة الوهم!

 
سجينُ الانتظار: بين شرف الصبر وجريمة الوهم! 

يأتي الانتظار، في بدايته، كضيف ثقيل الوطأة، ثم يتحوَّل سريعًا إلى سجان لا يرحم. يُدخلنا قسرًا إلى غرفة منفردة داخل ذواتنا، حيث تُقاس الدقائق بنبضات القلق، وتُسكب الساعات كالرصاص الذائب فوق صدر الأمل. إنه ذلك الحيز الغامض بين اليقين والعدم، حيث تُعلَّق الحياة على مشجب "ربما". 

لكن جوهر المأساة ليس في الانتظار نفسه، بل في السكين الخفية التي تقطع الحد الفاصل بين الصبر الشريف والوهم المُتدثر برداء الفضيلة. متى يكون انتظارنا شجاعة تُكلّل إيمانًا بحقٍّ واضحٍ، ومتى يصبح هروبًا واهيًا من مواجهة الفراغ الذي يختبئ خلف صورةٍ نحبس أنفاسنا لأجلها؟

الانتظار الحقيقي ليس سلبيةً خانقة، بل هو فعل مقاومة صامت. هو ذلك الجذر الذي يخترق الصخر في الظلام، مؤمنًا بالشمس التي لم يرها بعد. هو صمود البحّار في قارب مهتزٍّ، وهو يحدّق في الأفق الضبابي، ليس لأنه يجهل قسوة الأمواج، بل لأنه يعرف يقينًا أنَّ شاطئًا يستحق العناء ينتظره. 

هنا، يكون الانتظار زهرةً تنبت في تربة الإرادة، تُروى بدم القلب الواعي، وتُثمر يومًا يقينًا لا شك فيه. تنتظر الأم ابنها الغائب لأن حبها حقيقة ثابتة كالنجوم. 

وكما تحمل النهايات بذورَ بداياتٍ جديدة، تنتظر الشجرة المقطوعة أن تتحوَّل إلى قيثارةٍ تُغني، لأن فناءها مَمرٌّ إلى دورةِ خلقٍ لا تنتهي. وحيثما تذروها الريحُ بحكمةٍ كونية، تنتظر البذرة الفصل، لأن دورتها قانونٌ كونيٌ لا يرتهن للأوهام. هذا الانتظار نبيل، شجاع، اختيارٌ وليس مصادرةً للروح.

لكنّ هناك انتظارًا آخر... انتظارًا مسمومًا، يتسلل كالضباب البارد إلى عظام الروح. هو أن ترفع تمثالًا من طين الأماني على قمةٍ منعزلةٍ في قلبك، وتسجد له كل صباح، وتنتظر منه أن ينبض بالحياة، أو أن يهطل عليك بالمعجزات. أن تحبس أنفاسك على شرفة الماضي، تحدّق في طريقٍ خَلّوه، وتصرخ في صمت: "سيعود!" بينما كل الرياح تُحدّثك عن الرحيل الأبدي. 

هنا يتحول الصبر إلى جبن متلثّم، والوفاء إلى نكرانٍ للذات، والإصرار إلى حماقة عمياء. تنتظر ليس "شخصًا" له ملامح ووعود، بل تنتظر "معجزةً" تخرق نواميس الوجود والقلوب، معجزةً تُبرّر لك الجمود وتغسل عنك مسؤولية المضي قدمًا. 

هذا الانتظار ليس سوى هروب مُزيّف إلى قفص الأوهام، حيث تُقدّم روحك قربانًا على مذبح "ماذا لو؟". وقد ننزلق جميعًا إلى هذا الوهم، لا ضعفًا، بل لأن الانتظار يتحوَّل أحيانًا إلى ملاذٍ مؤقتٍ من جرحٍ لم نُعالجه.

والفرق بين الاثنين كالفرق بين النور والظل، بين الجذر الحيّ والغصن المقطوع. يكمُن في السؤال الجوهري: هل تنتظر واقعًا ممكنًا، أم تخلق من سرابك سجنًا؟ هل يبنى انتظارك على حوار صادق مع الحياة، أم على حوار مهووس مع أصوات في رأسك؟ 

انظر إلى آثار قدميك في رمال هذا الانتظار الطويل: هل هي متجهة نحو أفق ممكن، أم تدور في حلقة مفرغة حول نفسها؟ الاستمرار في انتظار ما أثبتت الحياة فشله ليس وفاءً، بل هو إهدارٌ فادح لبهاء عمرك، لجمرةِ حياةٍ لن تعود. هو أن تدفن كنزك الحي – قلبك، وقتك، أحلامك الأخرى – في قبر وهمٍ لا يتحلل.

احذر أن يكون صبرك الجميل مجرد ستارٍ للخوف من فراغ لا تعرف كيف تملؤه بشيء جديد، أو جرحٍ تتهرب من مداواته. الحياة ليست محكمةً تنتظر فيها حكمًا خارجيًا بالخلاص؛ الحياة نهر جارف. 

الانتظار النبيل هو أن تبني سفينتك وسط التيار، واثقًا من وصولك. أما الانتظار المريض فهو أن تبقى غارقًا على الشاطئ، تحدّق في أمواج عاتية تأكل جزءًا منك كل يوم، منتظرًا أن تتحول فجأة إلى جسر. لا تدع "الصبر" المزيف يسرق رنين سنواتك. 

اكسر قيود السجن الوهمي. امشِ. فإمّا أن يتحول الانتظار إلى لقاءٍ يضيء وجه الزمن، وإلا فليكن رحيلك عن شرفة الوهم نفسها لقاءً مع الحياة التي ما زالت تنتظرك، بعيدًا عن ظل ذلك السجان الذي اخترعته من دموعك وأوهامك. الحياة أقصر من أن تكون سجين انتظارٍ لمعجزةٍ لن تأتي.


جهاد غريب 
أغسطس 2025
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

متلازمة البناء المتهالك

  متلازمة البناء المتهالك   "كيف نُهدر الجودة باسم الإنجاز، ونقتل المستقبل بالسرعة المُقنّعة بالغش المؤسسي؟"   هذه الوثي...