مهد النور: في حضن البدايات الأولى!
لم يكن مجرد وعيٍ يولد، بل كان انفجارًا كونيًا صامتًا. في ذلك الحيز الدافئ، حيث الظلمة دافئة وليست مخيفة، حيث الصمت مكتنز وليس فارغًا، بدأ التشكّل. لم تكن هناك عيون بعدُ لترى، لكن كان هناك "بصر" آخر، أعمق، يستشعر النور قبل أن يلمسه الضياء. كانت تلك هي الحاضنة الأولى للنور؛ رحمٌ ماديٌ وميتافيزيقيٌّ في آنٍ واحد، يُغذّي الجسد بالحياة والروح بالسؤال الأولي، السابق حتى على اللغة.
كانت أولى دروس النور هي الحرارة. الدفء الذي يلفّك من كل جانب، غير منقوص، لا شرط فيه ولا قيد. كان ذلك أول تشبيهٍ مباشرٍ للحب المطلق، للحماية التي لا تحتاج إلى برهان. ثم كان الإيقاع: نبضٌ ثابتٌ، رتيب، كطبولٍ بدائيةٍ تُعلن عن قدوم ملك. ذلك الإيقاع كان أول موسيقى، كان الترنيمة الأولى للنور. لم تكن كلماتها مفهومة، لكن روحًا بكاملها فهمت معناها: "أنت آتٍ إلى عالمٍ ينتظرك، وأنت مُنتَظَر". كانت تلك الترانيم غيرِ اللفظية هي أول لبنة في بناء الوعي، لغةٌ رفيعةٌ تترجمها المشاعر مباشرةً إلى شعورٍ بالأمان، إلى يقينٍ غريزيٍّ بالانتماء.
مع كل نبضة، كان النور يتسرّب كفيضٍ تدريجي. ينساب مع الدم، ليس كنور الشمس، بل كلون الفجر الأول الذي يسبق ظهور القرص نفسه. نورٌ لا يُضاء من الخارج، بل ينبثق من الداخل، كأنما الروح تحمل بذرةَ شمسها الخاصة. في تلك الحاضنة، لم يكن هناك فرق بين الداخل والخارج، بين الذات والآخر. كان الاثنان كيانًا واحدًا، نغمةً واحدةً في ترنيمة الوجود.
ثم تأتي اللحظة الحاسمة، لحظة الانزياح الكبير من عالم الظلمة الدافئة إلى عالم الضوء الصاخب. إنها الصدمة الأولى، الولادة الثانية. إنها اللحظة التي ينفصل فيها النور عن مصدره المادي الأول، ليبحث عن مصادره الجديدة في العالم الواسع. ها هو النور الآن يلمع من فوق، من مصباحٍ في السقف، من شمسٍ من وراء نافذة. لكنه ليس النور ذاته. أكثر قسوة، أقل حماية. نورٌ يُرى، لا نورٌ يُحَسّ.
هنا، في هذا العالم الجديد، تبدأ الحواس في نسج شبكتها المعقدة لالتقاط أشكال النور الجديدة. الترنيمة الأولى لم تعد نبضًا داخليًا، بل تحولت إلى صوت. صوت هدهدةٍ تغسل الروح قبل الجسد. صوت كلماتٍ غامضة المعنى، واضحة المشاعر، تُقال همسًا كصلواتٍ سرية. هذا الصوت امتدادٌ لذلك النبض الأول، جسرٌ من الحنين يُلقى بين عالمين. هو الترجمة اللفظية لذلك النور الداخلي الأول. تشمُّ الروح رائحة الحليب والدفء، وهي روائح القداسة في هذا المهد. تلمس الأصابع الصغيرة وجهًا يعلوه نور الحب، فيتعلم اللمس معنى التقديس.
تُمنح الجماداتُ صفاتٍ إنسانيةً فتُصبح شريكاتٍ في الطقوس. السرير ليس خشبًا ووسائد، بل حارسٌ أمين. اللعبة ليست قماشًا وحشوًا، بل رفيقةُ أسرارٍ أولى. الغرفة تتنفس مع تنفس الرضيع، جدرانها تسمع، وظلالها على الجدار ترقص لتسليته. العالم كله كائنٌ حيٌ، نابض، مشاركٌ في تشكيل تلك الروح الحديثة العهد بالوجود.
لكن النور لا يأتي فقط من الخارج. تأتي اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان، وهو لا يزال طفلًا، أن النور ينبعث منه هو أيضًا. في أول ابتسامةٍ غيرِ مُقتَضَبة، في أول نظرة فضولٍ تكتشف العالم، في أول دموعٍ تُذرف كإعلانٍ عن ألمٍ أو اعتراض. هذه كلها ومضاتٌ تنبع من داخله. إنه يبدأ في إضاءة عالمه الصغير بنوره الخاص، النور الذي تراكم في تلك الحاضنة الأولى. لقد أصبح هو الآن حامل النور، وليس مجرد متلقٍّ له.
كيف لهذه البدايات الأولى أن تشكل مساراتنا؟ كيف لتلك الذاكرة الجسدية للدفء الأول، والصوت الأول، والنور الأول، أن تظل تلاحقنا كشوقٍ أبديٍ إلى حالةٍ من الكمال الضائع؟ نحن، طوال حياتنا، نبحث عن إعادة تشكيل تلك الحاضنة الأولى بطرقٍ شتى. في حبٍّ نطلب فيه أن نذوب في الآخر، في عملٍ نبني فيه عالمًا خاصًا بنا، في إيمانٍ نبحث فيه عن انتماءٍ إلى كلٍّ أعظم. كل بحثنا عن النور – في المعرفة، في الفن، في المحبة – هو في جوهره بحثٌ عن ذلك النور الأول، عن ذلك الإيقاع المطمئن، عن ذلك الدفء غير المشروط.
هل النور، إذن، هو ذاكرةٌ نحملها؟ أم هو وعدٌ نتحرّك نحوه؟ هل نحن نستذكر النور، أم نبتكره؟
تلك أسئلة تتركها البداياتُ تتأرجح في دهاليز الروح، بلا إجابةٍ حاسمة. ربما لأن النور الحقيقي لا يُعرِّف نفسه، بل يُعرِّفنا به. لا يُقال، بل يُحس. ليس إجابة، بل هو السؤال الأول والأخير.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق