الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

نزيف الألوان: قلبٌ يجرؤ على النَّظر إلى جِراحِه!

 
نزيف الألوان: قلبٌ يجرؤ على النَّظر إلى جِراحِه!

"كل ندبة نافذة، وكل نزيف لون جديد للحياة"


لم يكُن قلبي سوى كائنٍ غريبٍ يسكن جوفي، يطلّ على العالم من شُبّاك الضلوع. كان يسمع صفير الرصاص، يرى السكاكين تنغرس في جسدي، ويشعر بزئير الحياة يهزّ أعماقي، لكنَّه ظلّ محصَّنًا خلف جدارٍ أسطوريّ، كأنما يعيش بديلاً عنّي لا بي. إلى أن جاء يومٌ لم يعد فيه الرصاص يصفِّر في الخارج، بل انطلق من داخلي. عندها لم يعُد بمقدور القلب أن يظلّ في الغياب. خرج.

نظر إليّ من الخارج لأول مرّة. لم تكن نظرة حكمٍ أو رثاء، بل فضولًا وجوديًّا عميقًا. ها هو ذا: قلبي الشجاع، يجرؤ على مواجهة مرآة الذات، لا ليرى انعكاس الجمال، بل لِيُطِلَّ على كَشْفِ الجراح. في تلك اللحظة انقسم العالم إلى نصفين: ذاتٌ تنزف، ووعيٌ يراقب. 

أدركت أن الشجاعة ليست غياب الخوف من الألم، بل الجرأة على وضعه تحت المجهر، وفهم سياق النزيف وألوانه. هذه هي البطولة الحقيقية: أن ينتصر وعيك على صمتك، قبل أن تنتصر على أي معركة خارجك.

ثم ابتدأ التحوّل. أعادتني الجراح، لكنّي لم أعُد كما كنت. مَن يعبر حرب الوجود يكسر ختم البراءة إلى الأبد. كل طعنة كانت إبرةً أعادت خياطة ملامح كياني، وكل ندبة صارت واديًا في جغرافية روحي. 

لقد صرنا مثل آنية "الكِنتسوغي" اليابانية: فنُّ ترميم الخزف بالذهب؛ لا يُخفي الحرفي شقوقها، بل يملؤها بالذهب، فتغدو أغلى مما كانت عليه قبل أن تتحطم. الجراح ليست عطبًا ننتظر إصلاحه، بل سيرةٌ ذاتيةٌ للروح، محفورة على جلد الزمن.

وفي هذا التحوّل تكمن المعجزة. فجراحنا، وإن نزفت، لا تُخلِّف رماد الأسى وحده، بل تفيض بألوانٍ لم نكن لنعرفها لولا أن اخترقنا الألم. نزف الأزرق فصار حكمةً وصبرًا عميقًا، نرى به العالم بهدوءٍ بعيد عن ضجيج السطح. 

تسرب الأحمر فصار شغفًا جديدًا، نارًا داخليةً لا تحرق، بل تُدفئ عزيمتنا وتُذكِّرنا بأننا ما زلنا أحياء. أمّا الأصفر فيسري منه ضوءٌ نُضيء به دهاليز ذاكرتنا، ونمدّه للآخرين العالقين في عتمةٍ شبيهة. هنا يظهر الآخر: نزيفنا الملون لا يبقى حبيس الذات، بل يتحوّل إلى رسالة صامتة، لغة عالمية يفهمها كلُّ من مرَّ بمِحنة الألم.

فها أنا ذا، لم أعُد ذلك الطين الطريّ الذي يشكّله كل مارّ، بل صرت فخّارًا مذهّب الشقوق. وقلبي، ذلك الشجاع، لم يعُد يختبئ؛ لقد تحرر من قفص الضلوع، وصار يشرف على جراحي لا كطبيبٍ يضمدها، بل كفنانٍ يقرأ لوحةً رُسمت بدمه ثم يعرضها على الوجود.

الشجاعة، في نهاية المطاف، أن تتحوّل جراحك إلى نافذة، وأن تسمح لنزيف ألوانك أن يلوّن عالمًا ظنّ أن الرماد هو قدره الوحيد. فلتُخرج قلبك لينظر، فالنظر أوّل خطوات الولادة.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إرْثُنا… إلى أين؟

  إرْثُنا… إلى أين؟ هذا سؤال يلامس عمق وجودنا كشعب. ففلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل هي هوية محفورة في جذع الزيتون العتيق، وطن يتجاوز حدود غز...