ظلال لا تطير!
"هذا النص ليس عن الأمنيات وحدها، بل عنّا حين نتغير ونحن ننتظرها… عن ظلالٍ تثقل أرواحنا، ثم تُعلّمنا في النهاية معنى الطيران"
كل الأمنيات تطرق أبواب القلب، لكن، لا شيء منها يدخل دون أن يدفع ضريبة الزمن الضائع، ووجع السكنى في أرائك الروح القديمة، حيث يُخلّف كلُّ منتظَرٍ غائبٍ بصمته على القماش الباهت، وكل أمنية لم تَعُد تُغري أحداً بالجلوس مكانها. تتحقق الأمنيات أحيانًا، نعم... لكنها تصل متأخرةً، منهكةً، أو غريبةً لأننا كنّا قد تغيّرنا لدرجة لا نعود نعرف كيف نحتضنها.
أما العوائق، فليست أحجارًا في الطريق، بل فصولًا تتكرر كخريفٍ مثقلٍ بالخذلان. خريفٌ يأتي دون موعد، حاملاً في جعبته نفحاتًا باردة تعزف نغمةَ الفراغ على زجاج النوافذ، وأوراقًا صفراء ليست ذهبيةً كما روّج لها الشعراء، بل بلون الشحوب والوداع.
يحلّ الخريف ضيفًا ثقيلًا على الحنين، يأمرنا بأن نُضيء له موقد الذكريات ليسخن يديه، ثمّ يجلس في صمتٍ عميقٍ، لا يروي حكايات، بل يكتفي بسماع أنفاسنا المتقطعة بين خيبة وأخرى. ثم يرحل مع أسراب الطيور… غير أن ما يخلّفه فينا يشبه ظلالًا عالقة، كأنها تنسى كيف تطير.
والأقسى من ألم الخذلان ذاته، هو ذلك الصدى الغريب الذي يتردد عندما تتحقق الأمنية أخيرًا. إنه صوت لا يشبه أي لحنٍ حلمنا به. إنه صوت تشقُّق المرآة التي نرى فيها أنفسنا، لنرى انعكاسًا لشخص لم نعد نعرفه، يحمل أمنيتنا بيدين مرتعشتين، وكأنه يمسك بقطعة من جليد، تذوب من دفء لا يمتلكه.
وربما ندفع لها لاحقًا، فاتورةَ الحنين إلى زمن كنا فيه أكثر بساطة، حين كانت الأمنية مجرد حلم جميل وليس عبئًا من الواقع علينا حمله.
فبعض الخسارات لا تُعالج بالمغفرة، بل بالتعايش. هذا التعايش ليس استسلامًا، بل هو هندسة معمارية دقيقة لسلامٍ داخليّ، نبنيه، حجرًا حجرًا، فوق أنقاض ما كنا نعتقد أنه لن ينهار أبدًا. إنه فن تحويل الندوب إلى حدود شخصية مقدسة، لا يدخلها إلا من يفهم لغة الصمت التي نتحدثها.
وبعض الأمنيات لا تموت... لكنها تصمت، كما يفعل الذين تعبوا من الانتظار. وهذا الصمت ليس قبرًا، بل بذرةً تختار النوم في أعماق التربة القاسية، تترقب بصبرٍ من نوعٍ آخر، ليس لمناسبةٍ تحققها، بل لمعنى جديد قد يولد من رحم هذا الصمت نفسه. فربما، وفي صباحٍ غير متوقع، نكتشف أن أعظم أمنياتنا لم تكن ذلك الشيء الذي انتظرناه، بل القوة الغريبة التي اكتسبناها أثناء انتظار تحققها.
وهكذا، نتعلم أن الحياة لا تسرق منا أحلامنا، بل تفككها ثم تعيد تركيبنا نحن حولها. في النهاية، لا ننتظر تحقق الأمنيات، بل ننتظر أن نكبر بِقدرٍ كافٍ لنجعل من صمتنا حديقة، ومن ظلالنا التي لا تطير أشجارًا ترويها ببطء، حتى تأتي رياحٌ جديدة، تُعلّم تلك الظلال التي لا تطير، كيف تُحلّق، ويأتي الربيع الذي نستحقه، وليس الذي ننتظره.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق