ولادة من رماد: حين يتكلّم الدخان!
ليست النار مجرد لهبٍ يتّقد ثم ينطفئ، بل هي لغة قديمة، لغة العناصر حين تدخل في حوار عنيف مع وجودها. في كل شعلة، يسكن سؤال: هل هذه النهاية الحتمية لكل ما تلتهمه؟ أم أن وراء الاحتراق حكاية أعمق، وميلادٌ آخر لا تراه العين في اللحظة الأولى؟
حين تتوهج، يظنّ المرء أنّها لا تترك خلفها سوى فناء، لكنها في جوهرها تعيد صياغة المادة، وتحوّل الكائنات إلى ما يشبه كتابة جديدة بلغة الرماد. فالرماد ليس مجرد بقايا خامدة، بل هو ذاكرة الاحتراق، وشاهد على ولادة صامتة من قلب الدمار.
فهذه النار لا تكتفي بالالتهام، إنّها تحوّل. كل جذع يحترق، كل ورقة تتفتّت، يصبح سطرًا جديدًا في كتاب الوجود. والرماد الذي يتناثر فوق الأرض يشبه الحبر الذي يُعاد توزيعه على صفحة أخرى. كأن النار، بعد أن تلتهم، تعيد ما أكلته في صورة أكثر هدوءًا وأكثر صفاءً.
غير أنّ هذا الرماد ليس محايدًا: إنه جرح بارد، يحمل آثار الحرارة الماضية، ويختزن في لونه الرمادي ألف حكاية عن العبور. لذلك، حين نلمسه، نشعر بأننا نلمس ذاكرة الألم نفسها وقد تحولت إلى مادة ملموسة، دليلًا حسيًّا على أنّ كل احتراق كان له معنى أبعد من الموت.
لكن رسالة النار الأخيرة لا تكتمل إلا بالدخان، ذلك الكائن الهشّ الراقص في الفضاء، إنه يترك أثره في الهواء والعيون والرائحة، رغم أنه لا يمسك ولا يحاصر.
إنه ليس امتدادًا للنار فحسب، بل هو صوتها المتقطع وهي تلفظ آخر حروفها، أنفاسها الخارجة من الهاوية لتقول: "ما زلتُ هنا، وإن كنتُ قد احترقت". وهو في الوقت نفسه بداية لغة أخرى: لغة التيه والتبعثر.
يتلوّى الدخان، يتصاعد، يتبدّد، لكنه في لحظاته العابرة يكتب شكلًا جديدًا، يخلق لوحة في السماء، يذكّرنا بأنّ كل ما انتهى قد يتكلّم من جديد بطرق لا نتوقعها. إنه استعارة للصوت الإنساني حين يخرج من عمق التجربة، عودة من الهاوية ليس بكمال الجسد، بل برائحة الروح وقد تغيّرت. وكأنّ المعاناة نفسها تمتلك القدرة على أن تتحول إلى نَفَس جديد، وإن كان هشًّا وعابرًا.
هذه الدورة من النار إلى الرماد فالدخان ليست مجرد سلسلة كيميائية، بل هي دورة وجودية، معادلة الحياة التي تقضي بأنه لا نموَّ بلا احتراق، ولا صوتَ بلا ألم، ولا ولادةَ بلا موتٍ سابق. كل إنسان يمرّ في حياته بلحظة نار؛ تجربة تحرق اليقينيات، تفتّت الصور القديمة، وتتركه واقفًا أمام نفسه عاريًا.
ثم تأتي مرحلة الرماد، حيث يظن أنّ كل شيء انتهى، وأنه صار أطلالًا. لكن المفاجأة أنّ هذا الرماد هو الأرض التي تستعد لولادة جديدة، ومنه يصعد الدخان: ذلك الصوت المختلف، الرؤية المتحوّلة، الحكمة التي لم تكن لتولد لولا مرارة الاحتراق. بهذا المعنى، لا يكون التحوّلُ خيارًا، بل ضرورةً وقانونًا خفيًا يحكم كل كائن يطلب النمو.
وفي النهاية، يبقى الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يجعل النار مولّدًا لا قاتلًا. فمن بين كل الكائنات، وحده من يفكّر فيما بعد النار: يحوّل الرماد إلى معنى، والدخان إلى نَفَس جديد.
وهكذا، يغدو الاحتراقُ بدايةَ لغةٍ أخرى، لا موتًا. فتتحول النار إلى معلمة قاسية تكتب دروسها فينا، ويصبح الرماد ذاكرة خصبة، ولا يبقى الدخان مجرد دخان، بل هو الصوت الذي عاد من الهاوية ليقول: "لقد احترقتُ… لكنني لم أنتهِ".
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق