أجنحة تنمو قبل الأوان!
"تأملات في الحرية المبكرة وما تخلّفه من نعمة وعبء"
كل فكرة تولد فينا لا تأتي من فراغ، بل تحمل أثرَ صراعٍ قديم بين الممكن واللاممكن. إنها الصراع الأزليّ بين رغبة الروح في الانعتاق وحدود الواقع المتصلب، ذلك الصراع الذي يولد فينا السؤال: ما الذي يدفع الإنسان لتحدي الممكن والتطلّع إلى ما وراء حدوده؟ ومن بين هذه الرغبات يولد الطائر الصغير الذي يختبر السماء قبل أوانه.
في صباح بعيد، وبين أغصان شجرة يابسة، يحاول طائر صغير فرد جناحيه قبل أن يكتمل ريشه. ويهتز الهواء حوله وكأنه يبارك محاولته الأولى. تهبّ الريح كأنها أصابع خفية تختبر قوّة جناحه، وتهمس بين أغصان الشجرة، فتبعث خفقانًا خفيفًا في قلبه الصغير، وتداعب ريشه بحنوّ قاسٍ، فتخلط بين الوعد والتهديد.
في الخلفية، تظلّ الأم تحدّق فيه بقلقٍ خفي: هل سيصمد جناحه الهشّ أمام اتساع السماء؟ أم أنّ سقوطه المبكر سيكسر حلم التحليق إلى الأبد؟ في تلك اللحظة، تبدو الحرية أشبه بمغامرة وُلدت قبل موعدها، كأنها سؤال يطرق أبواب الحياة: هل الطيران المبكر نعمة تعجّل بالنمو، أم عبء يثقل الكتف الصغير؟
وهكذا، ليست محاولة هذا الطائر سوى فصل جديد في حكاية، بدأت منذ فجر الأساطير، فاتخذ الطائر رمزًا للروح التي لا تحتمل الأقفاص. كل رفرفة جناح هي إعلانٌ بأن الكائن خُلق ليكون حرًّا، لا ليُقيَّد.
وحين يعلو فوق الغيم، يشعر وكأنه يوقّع ميثاقًا مع السماء: أن يظل وفيًّا للريح أكثر من الأرض، أن يجعل الفضاء موطنه الأبدي، وأن يكتب سطرًا جديدًا في قصة الوجود مع كل رفّة. الغيم يتخذ أشكالًا متبدلة: قلاعًا بيضاء... وجوهًا عابرة، وسُفنًا من بخار تمضي بلا ميناء. وكل لحظة فيها هي درسٌ في اتساع السماء، وجولة في عالم الأسرار.
حين يطير الطائر مبكرًا، يخوض تجربة لم يتهيأ لها بالكامل. قد يسبق أقرانه في اكتشاف اتساع السماء، ويصغي إلى موسيقى الريح؛ ألحانها تتراوح بين الهمس والصفير، بين عزف منفرد ومهرجان سماوي، لتلقّنِ الريحُ الجناحَ الصغيرَ معنى الإيقاع قبل أن يتقن الطيران.
غير أنّ ثمن هذا السبق ليس سهلًا: أن يحمل جسدًا صغيرًا مسؤولية أكبر من احتماله، أن يذوق طعم المخاطر قبل أن يعرف حلاوة الأمان. فالمبكرون في التحليق يختصرون المسافة نحو النضج، لكنهم أيضًا يقتربون من حافة السقوط أكثر من غيرهم.
توازن غريب يعيشه الطائر: نشوة التحليق الأولى التي تمنحه لذّة لا تضاهى، كمن يشرب أول قطرة مطر بعد عطش طويل، فتتدفق قطراتها على ريشه وتنعش قلبه، لكنها تتركه يكتشف أن كنوز السماء لا تُفتح إلا بمفاتيح الجرأة. يقابلها شعور عميق بالوحدة، إذ لا أحد يشاركه السماء. الحرية هنا ليست فقط انعتاقًا، بل هي اختبارٌ لعزلة النفس ومواجهة الذات بلا وسطاء.
وفي لحظات هذه النشوة، يصبح الهواء نفسه حليفًا يرفعه وكأنه يحتضن حلمه الصغير. كل رفرفة تُشعره أنه يسبق زمنه بلحظة، وأنه يملك سرًّا لا يراه الآخرون بعد. هناك فرح طفولي خالص، دهشة من أن الجناح الذي لم يكتمل بعد قادرٌ على ملامسة الغيم. لكن الطائر الذي سبق الآخرين يدرك سريعًا أن للسماء وجهين: وجهًا يفيض بالعطايا ويتسع للفرح، وآخرَ صارمًا لا يرحم من يغفل عن قوانينها. يفهم أن الريح صديقٌ وعدوٌّ في آنٍ واحد.
وهنا، في خضم هذا التوازن الغريب بين النعمة والعبء، يُسقط الطائر حكمته على الإنسان. كم منّا عاش تجربة الطيران المبكر؟ طفل حمل مسؤوليات الكبار، شاب تذوّق مرارة الخيبات قبل أقرانه، أو روح اختارت أن تتقدّم على زمانها بخطوة.
الطيران المبكر ليس قصة عن الريش والهواء فقط، بل عن إنسانية تذوقت الحرية والمسؤولية في وقت واحد. فمنهم من ينهض أقوى، وآخر يظلّ يحمل ندبة السقوط الأول، لكنّ الجامع بينهم جميعًا أنّ التجربة تركت أثرًا لا يمحى. الحرية هنا ليست توقيتًا، بل معنى، ليست أجنحة فقط، بل مسار يُستحق أن يُحلق فيه.
وفي النهاية، نعود إلى صورة ذلك الطائر الصغير. لم يعد مجرد مخلوق يحاول أن يفرد جناحيه قبل أوانه، بل صار رمزًا لرحلة داخلية. فالريح لن تكفّ عن اختبار أجنحتنا، والغيم لن يكفّ عن إغراء أرواحنا بصورة جنّة بعيدة، لكن الطائر الحكيم هو من يحوّل هذه الاختبارات إلى خريطة تُرشده. ليست المسألة أن نطير مبكرًا أو متأخرًا، بل أن نصنع من أجنحتنا مسارًا يليق بالريح والسماء معًا.
وهكذا، يعود الطائر إلى الغصن، لا بجناحيه الهشين، بل بخريطة السماء في قلبه. لم يعد ذلك الكائن الصغير الذي يحاول التحليق قبل أوانه، بل أصبح هو نفسه الأوان الذي تنتظره السماء.
ومن هنا، تتكشف الحكمة: فليس المهمّ في النهاية متى نطير، بل كيف نُصقل أجنحتنا لنحتمل علوّ السماء، كيف نحتضن الرياح العاتية بقلبٍ شجاع، وكيف نسمو بها — لا منها — نحو فضاءاتنا التي نختارها. فهل نحن مستعدون لحمل أمانة العلو حين يأتي الأوان؟
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق