الخميس، 21 أغسطس 2025

كيف تُقَشِّر نفسك دون أن تبكي؟

 
كيف تُقَشِّر نفسك دون أن تبكي؟

"مغامرةٌ وجوديةٌ في عوالمِ الوعي واللاوعي، كيفَ تتحولُ الفوضى إلى نظامٍ؟ والفراغُ إلى معنى؟"


الفصل الأول: 
نسيجُ المدينةِ — رحلةٌ في عُصارة الذاتِ! 


لم يكن جُرحًا، بل كان مدخلًا. اِنشِقاقٌ في نسيج الوهم الذي نُسَمِّيه "أنا". لم يكن بابًا، بل كان شقَّ نورٍ في جدار الظلام، يُفتَح بمفتاحٍ من فُضولٍ ممزوجٍ بالرُّعب.

هنا، عند عَتبة "المَسَام"، تبدأ الحكاية. المسام هي نوافذ المملكة المنسيّة، منها يتسرّب ضوء العالم الخارجي إلى دهاليزنا، ومنها يهرب بُخار أحلامنا المُحبَطة.

شَهقتُ، وكان شهيقًا أقرب إلى الاستسلام. ثم انزلقتُ في انزياحٍ آخر.

لم يكن هبوطًا، بل كان انسيابًا عبر نفقٍ من ضوءٍ خافت، تنبعث منه رائحة الزمن المُعلَّق، كالكتب القديمة في غرفةٍ مُهمَلة. كانت الرائحة الأولى: رائحة الذكرى في أنقى أشكالها، قبل أن تُطوِّقها أسوار المعنى.

وإذا بي في المدينة.

ليست مدينةً من أسمنتٍ وحديد، بل هي مدينة من نسيجٍ ووهم. عِظامي هي الأقواس الحجرية المتآكلة التي تحمل وزن السنين. والطرق السريعة هي القنوات الذهبية التي تجري فيها أنهار النور بسرعةٍ مجنونة، حاملةً أُمنياتٍ مُضيئةً وصرخاتٍ مظلمة. أسمع همس مياهها، وأنين جسورها تحت وطأة الأحمال غير المُعلَنة.

مشيتُ على رصيفٍ من ظلٍّ ورمل. كانت البيوت تُغلق نوافذها خوفًا من الريح. مررتُ بـ"ساحة المشاعر"، حيث كانت نوافير الألم القديم تتدفّق بماءٍ مالح، بينما كانت أزهار الفرح النادرة تنحني متواضعةً في زواياها. أحد الحُرّاس، ذو وجهٍ باهِت كالقمر في نهارٍ غائم، نظر إليّ وقال بصوتٍ أشبه بحفيف الأوراق:
"مرةً أُخرى؟ لقد جلبتَ لنا عاصفةً من الهموم البارحة، كادت تُجفِّف ينابيعنا. هل يمكنك أن تزرع غيمكَ في مكانٍ آخر؟"

لم أُجب. كنتُ منشغِلًا بـ"أزقّة الذكرى". كانت مُظلِمةً ورطبة، تتكدّس على جوانبها صناديق الأحداث غير المُفسَّرة والكلمات التي سُجِنت قبل إطلاقها. كان حارس المكان، كائنًا أشبه بساحرٍ عجوز، يُدوّن في دفترٍ قديمٍ:
"وصل صندوقٌ من النَّدَم على صمتٍ طويل... سيُخزَّن مع بقايا أوّل قبلة".
نظر إليّ نظرةً تحذيرية:
"لا تتجوّل هنا وحدك. الظلال هنا تنسج خيوطها من صمتك. لا تُوقِظ الذكريات النائمة، فقد تتحوّل إلى وُحوش".

لكن اللقاء الأكثر إيلامًا كان مع "نافذة" وحيدة في حائطٍ عالٍ. كانت مُغلقةً بمزلاجٍ من صدأ. وقفت تتحدّث بصوتٍ حزينٍ يُناقِض عُلوّها:
— "أنت!" قالت، مُتَّهِمةً.
— "أنا؟"
— "نعم، أنت، ساكن القلعة العُليا! أترى ظِلّي؟ هذا ليس ظلًّا. هذا احتجاجٌ على انقطاع الضوء. نحن، نوافذ الروح، نُطالِب بفتح المزالج وترك ستائر الخوف، وإلّا... سَنُغلَقُ إلى الأبد، وسيُحكَم على هذا المكان بالعتمة الأبدية!"

تَركتُها تتكلّم إلى السماء الصمّاء. كان عليها أن تنتظر غيمةً أكثر رحمة.

هذه هي المملكة. ليست مثالية، وليست نظيفة. فيها أزقّة مُظلِمة، وساحات مهجورة، ونوافذ مُغلقة، وأنهار تجري بلا توقّف. نظامٌ كونيٌّ كامل يعمل لخدمة فكرة واحدة: أن أبقى واقفًا هنا، أتأمّل، وأكتب عنه.

لكن مَن يحكم هذه المدينة المتشابكة حقًّا؟ مَن يملك مفاتيح "قِدر الغليان" الذي يُحرِّك كل هذه الأنهار؟ الرحلة لم تنتهِ. هذه كانت المحطة الأولى فقط. الطريق إلى "أنهار البرق" لا يزال طويلًا، وأنا أسمع بالفعل هدير المياه المتدفّقة من بعيد، كلغةٍ غامضةٍ تُحكى في المنام.


***
الفصل الثاني: 
أنهارُ البرق — في أروقةِ مجلسِ الظِّلال! 


لم يكن صعودًا إلى طابق أعلى، بل كان تحوّلًا في طبيعة الوجود. انتقلتُ من عالم المادة والظلال إلى عالم النور المحض، من كثافة المدينة إلى سيولة النهر. غادرتُ أزقة الذكرى ووجدتُ نفسي فجأة داخل شبكة كونية من أنهار ضوئية، تسري فيها النجوم كأسماك فضية.

هذا هو عالم السيالات. لا روائح هنا، إلا عبق الأثير النقي، رائحة البرق المتجمّد في لحظة انطلاقه. لا ألوان إلا تموّجات الزمرد والياقوت تتقافز كشهب في ليل أرجواني دائم. الصوت السائد هو همسة الأضواء وهي تنساب، لحنٌ كوني لا ينتهي للحياة وهي تولّد أفكارها.

الطرق هنا هي مجارٍ مضيئة من طاقة نقية، تحمل إشاراتٍ مكثفة بسرعة الفكرة. إنها "طريق المعنى السريع"، لكنه طريق مليء بالمنحنيات الخادعة وشلالات النسيان.

رأيتها. رسالتي. كانت وميضًا صغيرًا أزرق، بريئًا في تألقه. رغبة بسيطة: "ارفع يدك اليمنى". وُلدت في حيّ "الرغبات الهاربة" في القبة العليا، والآن عليها أن تعبر هذه المسافة الشاسعة إلى شاطئ "الإرادة".

لم تكن رحلة سهلة.

انطلقت الومضة ببراءة، لكنها سرعان ما واجهت بوابة المراقبة الكونية. كائن أشبه بشجرة ظلالٍ متشابكة، تتعلّق من أغصانها عيون لا حصر لها.
"قف. وجهتك؟" همس بصوت يشبه حفيف الريح في أوراق الخريف.
"إلى... إلى شاطئ الإرادة، سيدي. لأرفع يدي".
"الغرض من هذه الحركة؟"
"لا غرض... مجرد حكّة عابرة".
التقطتها الأغصان الظلية. "حكّة. مثير. هل تُخفي نية عدوانية؟ هل هي حركة استفزازية؟ هل تمت الموافقة عليها من قبل مجلس الظلال؟ أوراقك؟"

أخذت الشجرة تتفحصها، بينما تراكم خلفها طابور من الأضواء الأخرى: نبض جوع، نظرة اشمئزاز، ذكرى طفولة مفقودة تحاول العبور. لاحظت أن الأضواء ذات الأولوية ("ألم حاد!"، "خطر! انحرف!") كانت تتخطى الطابور بوهج أحمر قاتم، تدفع الجميع جانبًا بقوة.

بعد دهر، أُعطيت الومضة الضوء الأخضر. "مخوّلة. تقدّمي. لكن تذكّري: أي انحراف عن المسار سيعرّضك للانطفاء الفوري".

تابعتها وهي تتسارع. مررنا بـ"محطة المشاعر"، حيث كانت الأنهار الملوّنة (الفرح، الحزن) تتدفق في المجرى الرئيسي كألوان تختلط على لوحة فنّان مجنون. ومضة زرقاء حزينة التقطت بعض "لازورد الأمل" فأصبحت أقل حزنًا. ومضة غضب حمراء التهمت كمية من "نار الغضب القرمزية" فازدادت توهّجًا وشرارة.

ثم حدثت الكارثة.

قبل وصولها إلى الشاطئ، اصطدمت ومضتي المسكينة برسالة عاجلة من "المجلس الأعلى". كانت رسالة ضخمة، صفراء، وذات رنين مؤلم. كان مضمونها: "تذكرتَ فجأة موقفًا محرجًا من عشر سنوات".

انفجرت الرسالة الصفراء كشمس سوداء، وأطلقت موجة صدمة عاطفية هائلة. ومضتي الزرقاء الصغيرة، رسالتي البريئة لرفع اليد، انطفأت على الفور. مُحيت من الوجود. لم تعد ذات أهمية.

لكن الأثر لم يتوقف هنا. الموجة الصفراء أطلقت إنذارًا عامًا. فجأة، انطلق عدد لا يُحصى من "فرسان النار". كانوا مخلوقات سريعة مظلمة، ترتدي دروعًا من لهب وتصرخ بأعلى أصواتها: "طريق! طريق! حالة طوارئ كونية! افسحوا الطريق!" كانوا يندفعون في كل اتجاه، يلوّثون الأنهار الضوئية بلون القلق، يسرّعون الجريان، يحرقون كل ما في طريقهم. كل هذا بسبب ذكرى محرجة! إنها بيروقراطية العواطف!

شاهدت هذا الجنون من ركن آمن. سألت نجمة عجوزًا، بدا عليها الإعياء وهي تراقب الفوضى من مدارها: "هل الأمر دائمًا بهذه الفوضى؟"

نظرت إليّ نظرة تحمل قرونًا من الضوء وقالت: "هذه ليست فوضى. هذه هي الحكمة بعينها. نظام مصمَّم للبقاء، وليس للراحة. الألم والذعر لهما الأولوية دائمًا على الراحة والتفاهات. تلك الومضة التي تتبعتَها... موتها كان ضروريًّا. لقد ضحّينا بحكّة عابرة من أجل تعبئة كامل القوات لمواجهة شبح من الماضي. إنه قرار كوني بحت".

"لكنها ذكرى فقط! ليست حقيقية الآن!"
ضحكت النجمة العجوز ضحكة مكواة. "أيها الساذج. في هذه المملكة، الفكرة هي أقسى أنواع الوقائع. الآن، إذا سمحت، عليّ أن أرسل إشارة إلى برج المراقبة ليزيد الإشعاع".

نظرت إلى الأعلى. حيث تتلاقى كل الأنهار الضوئية في محيط عملاق مظلم. هناك، في مركز التحكم، كانت ومضات نورٍ معقدة تومض وتخبو، كعُقد مضيئة في شبكة عنكبوت كونية. إنهم هناك الآن، ينتحبون، يجادلون، يصوّتون على كيفية رد الفعل على شبحٍ عمره عشرة أعوام.

وقفت مكاني. يدي لم ترتفع. الحكّة لا تزال هناك. لكني لم أعد أريد حكّها. كل ما أريده الآن هو أن أعرف: من الذي يصوّت في ذلك المجلس الأعلى؟ وأي صوت من بين كل تلك الأصوات هو... صوتي أنا؟

الرحلة إلى السطح، إلى مسرح الشخصية، ستكون الأصعب. لأنها عليها أن تشرح كيف نبت قناع على كل هذه الفوضى.


***
الفصل الثالث: 
مَسرحُ الأقنعةِ — في كواليسِ الوجُوهِ المُعلَّقة!



كان الخروج من ذلك المحيط الضوئي المهول أشبه بالصعود من أعماق بحر هائج إلى شاطئ صامت تحت ضوء قمر بارد. لكن هذا الشاطئ لم يكن بريئًا. لقد كان مسرحًا.

لم أعد في الأعماق، بل كنت في الكواليس.

كانت رائحة الغبار القديم ومسحوق الأقنعة تهيمن على المكان. صف طويل لا نهائي من المرايا المعتمة، وفي كلٍّ منها وهم مختلف. لم تكن انعكاساتي، بل كانت أقنعتي. كلٌّ منها معلّق على شماعة من خشب، ينتظر دوره.

هنا، على عتبة "السطح"، تُحاك الفوضى الكونية ثوبًا لها. تُغلَّف الأنهار الضوئية العارية بقماش الكلمات والابتسامات. تتحول الصرخات إلى همسات، والرغبات المحظورة إلى إيماءات مهذبة.

مشيت بين الأقنعة. كان لكلٍّ منها حكايته وشخصيته.

قناع الموظف الجاد: كان مثقلًا بغبار الأوراق، وبزاوية فمه خط رفيع من الصبر المنهار. همسَ لي:
"لقد أوصلتنا إلى الحافة. أنا ماهر في أداء دور "الجاد المتعب". لكن في الليل، حين تنزعني، تكتشف أن الوجه خلفي مثقل بأسئلة لا إجابة لها".

قناع الصديق الوفي: كان دافئًا عند اللمس، وكأن فيه نبضًا. لكن عند التأمل، رأيت خيوطًا شفافة من الخوف من الوحدة تمسك به.
"أنا الأكثر استنزافًا،" قال بتعب. "أضطر دائمًا إلى بذل الضوء، حتى عندما ينطفئ مصباحي. أحيانًا أتمنى لو أن أحدًا يرى ظلي بدلًا من ضوئي".

قناع الابن البار: كان أنيقًا، نظيفًا، ومحكمًا إلى درجة الاختناق. كان يتكلم بلهجة مثقلة بالواجب:
"أنا لا أتزحزح. أحمّل نفسي وِزر السعادة التي لا أستطيع منحها. أحوّل الشوق إلى رسائل قصيرة، والندم إلى هدايا".

لكن اللقاء الأكثر إثارة للرعب كان مع القناع الذي لم أتعرف عليه. كان باهتًا، مهترئًا، موضوعًا على رفٍّ منسي في الزاوية. لم تكن له ملامح واضحة، فقط فتحتان للعينين وشرخ حيث يجب أن يكون الفم.
"أنا أُفضِّلُكَ،" همسَ بصوت أجوف كصدى في كهف.
"من أنت؟"
"أنا القناع الذي تخلعه الأقنعة الأخرى. أنا الصمت الذي يسبق الكلمة. أنا الوجه الذي يظهر للحظة حين تظن أنك وحيد، قبل أن تتذكر أن العالم مسرح مرايا. أنا الصمت بين فكرتين. أنا الـ لا أحد الذي تلبسه لتكون الجميع".

ارتعشت. هذا لم يكن قناعًا، كان هذا هو العدم نفسه يتكلم.

هربتُ من الكواليس إلى خشبة المسرح الفعلية. كانت مضاءة بأضواء قاسية. ووجدت نفسي أتحدث إلى المُخرج.

لم يكن رجلًا، بل كان كيانًا أشبه بلجنة من الأصوات. له أفواه متعددة تتكلم في وقت واحد: صوت لأمي، صوت لمديري، صوت للمجتمع، صوت لخوفي من الغرباء.
"المشهد التالي!" صاحوا معًا. "حفلة عشاء! سنستخدم قناع الـ "واثق الاجتماعي!" أين هو؟ أسرعوا!"
"ولماذا لا نستخدم الوجه الحقيقي؟" سألت، وأنا أعرف سذاجة السؤال.
ضجّت اللجنة بضحك جاف.
"الوجه الحقيقي؟! وما هو؟ هل تعني ذلك المحيط المضطرب من الأنوار والظلال؟ هل تعني ذلك الفراغ الذي رعبك في الأسفل؟ الجمهور لا يدفع تذكرة لمشاهدة ذلك. الجمهور هو نحن أيضًا! نريد مسرحية مقنعة، وليس انتحارًا علنيًا".

أروني القناع الجديد. كان لامعًا، مبتسمًا، وعيناه زجاجيتين. عندما ارتديته، حدث شيء مروّع. شعرت كيف أن خيوطًا ذهبية دافئة بدأت تتشابك مع ملامح وجهي. القناع لم يعد يُلبس، بل أصبح يلتصق. بدأ يندمج. سمعت المخرج يهمس برضا:
"أحسنت. الآن أنت تؤدي بشكل مقنع حقًا".

هذه هي الكينونة. ليست جوهرًا ثابتًا، بل هي عملية تلبيس مستمرة. نحن لا نكون، نحن نؤدي. والأداء الجيد هو أن ينسى الممثل نفسه، ويصبح القناع.

لكن ماذا عن ذلك الشرخ الذي رأيته في القناع الباهت في الكواليس؟ ماذا عن "اللا أحد"؟ هل هو الصميم الذي نبحث عنه؟ أم أنه مجرد قناع آخر، أكثر خبثًا وخفاءً؟

للوصول إليه، علينا أن نغوص أعمق من كل هذا. علينا أن ننزع كل ما هو مكتسب، حتى لو كان النزع يعني تمزيق الجلد نفسه. الرحلة إلى "الصميم" هي أخطر رحلة. لأنك قد تصل لتجد أن الصميم هو ببساطة... الفراغ.


***
الفصل الرابع: 
في قاع القِدْرِ — مُلاقاةُ حارسِ العدمِ!


لم يكن هبوطًا. كان انحلالًا. تفككًا لقوانين الكينونة نفسها. وانمحت حدود الزمان والمكان، كما تذوب صورة في ماء آسن. لم أعد أسقط، بل كنت أتساقط في لا مكانٍ.

هذا هو حيِّز اللاوعي. ليس مكانًا، بل هو حالة وجودية. ليست غرفة، بل هي أنقاض الغرفة بعد الزلزال. رائحة الغبار القديم والورق المبلل والمعنى المهترئ. هواء ثقيل لا يحمل أوكسجينًا، بل يحمل شظايا كلمات لم تُنطق قط، وأنصاف صور، وزفرات أحلام مقتولة.

وجدت نفسي في مكتبة الضباب. رفوف من ظلٍّ واهن، وكتب ليست من ورق، بل من رماد الذكرى. عناوينها مكتوبة بحبر من ندوب: "ذكريات طفولة محرّفة"، "ندم على قرار لم أتخذه"، "وجه ذلك الشخص الذي نسيتُ اسمه". حاولت سحب أحدها، فانفتح كفم وأطلق زئيرًا صامتًا من الخوف.

ثم ظهر الوحش.

لم يكن وحشًا بالمعنى التقليدي. كان تجسيدًا لأعظم قلق وجودي لديّ: الخوف من أن أكون عاديًا، غير مهم، مجرّد ذرّة عابرة في كون لا يبالي. كان شكله يتأرجح بين رجل أعمال ناجح يضحك باستهانة، وبين صفحة بيضاء فارغة تطوى على نفسها إلى الأبد. كان صوته صوت همسة جماعية، كأن ألف صوت يتحدثون بلغة واحدة.

"أعرف لماذا جئت،" قال، من غير أن يتحرك فم له. "تبحث عن الصميم. عن الجوهر الحقيقي. عن الكنز في نهاية الرحلة".

"نعم،" همست وصوتي يكاد ينكسر من ثِقل الهواء.
ضحك. وكان ضحكه كصوت انهيار جدار جاف.
"لا يوجد شيء اسمه صميم. هذه أكبر كذبة نرويها لأنفسنا لنمنح الفوضى معنى. لست جوهرة ثمينة مدفونة في العمق. أنت... أنت هو عملية الحفر نفسها. أنت الفوضى، الأقنعة، الأنهار الضوئية، المدينة. كلها معًا. لا مركز. لا قلب".

رفع – أو لم يرفع – شيئًا يشبه مرآة. لكن المرآة لم تُظهر انعكاسي. أظهرت فراغًا. فراغًا مطلقًا، أسود، لكنه ليس مخيفًا. كان محايدًا. صامتًا. هواءً قبل أن يُولد فيه صوت.

"هذا هو كل ما ستجده هنا،" قال الوحش، الذي كان خوفي طوال الوقت. "الفراغ الذي تُنسج عليه كل قصصك. القاعدة الصفر. اللوحة البيضاء. أنت تخاف منه، لكنه بريء. هو لا شيء ليكون شيئًا".

شعرت بأني أتفكك. كل الأقنعة، كل القصص، كل الاضطرابات العصبية، بدت فجأة كألعاب طفل يغطي بها فراغ غرفته. لم يكن هناك كنز. كانت الخريطة كلّها خاطئة.

ثم سمعتُها.
نبضة.
لم تكن من قلبي. كانت أقرب، وأبعد في الوقت ذاته. كانت نبضة صغيرة، دافئة، مثل ضوء وحيد في بحر ذلك الفراغ الأسود في المرآة.

اتجهت نحوها، تاركًا الوحش خلفي. كانت تشبه منارة صغيرة، لكنها لم تُنر طريقًا لأحد. كانت تُنير فقط من أجل ذاتها. كانت بسيطة بشكل فاضح. ليست جوهرة، بل هي القدرة على الإحساس بالجوهرة. ليست الحقيقة، بل هي الشغف الذي نبحث به عن الحقيقة.

لم يكن الصميم شيئًا نكتشفه، بل هو الفعل نفسه. فعل البحث. فعل الحفر. فعل البكاء أثناء التقشير.

التفتُّ إلى الوحش، إلى خوفي. لم يعد مخيفًا. كان مجرد حارس لهذا الفراغ. حارس غاضب لأن مهمته لا تنتهي.
"هل ترى؟" سألته. "حتى فراغك هذا يحتاج إلى منارة صغيرة لتُظهره".

لم يجب. بدأ يتلاشى، ويذوب في الظلال، مهزومًا لا بمعرفة، بل بإصرار بسيط على وجود شيء، أيّ شيء.

لم أجد الصميم. لكني وجدت البذور التي تخلق فكرة الصميم. وجدت القرار الضمني بأن تكون، حتى وأنت لا تعرف ما الذي "تكونه".

عدت.

لم أعد بالطريقة نفسها. الهواء الذي أتنفسه الآن يحمل طعم ذلك الفراغ. عندما أنظر في المرآة، أرى الأقنعة، لكني أعرف أن هناك ضوءًا صغيرًا خلفها جميعًا، ليس جوهرًا، بل هو اليد التي تضع القناع.

التقشير لم يكتمل. ربما لا ينتهي أبدًا. والسؤال لم يعد: كيف تُقشِّر نفسك دون أن تبكي؟، بل أصبح:
كيف تبكي بطريقة تكون فيها دموعك هي نفسها القشرة واللب؟

ها قد انتهت الرحلة من المدينة إلى الأغوار. لكنها في الحقيقة، لم تبدأ إلا للتو.


***
الخاتمة: 
عودةُ الغواصِ بخرائطَ لأرضٍ لم تَعُدْ مَوجودةً!


لم يكن صعودًا. لم أجد سُلّمًا من نور يصل إلى السطح. كان خروجًا بالطريقة نفسها التي دخلت بها: عبر انزياح في الوعي، كأني أُغلق عينيّ في عالم وأفتحهما في آخر.

ها أنا ذا. على كُرسيي. في غرفتي. كل شيء في مكانه: النافذة، المكتب، كوب الماء نصف الفارغ. لكن لا شيء على حاله.

الضوء الذي يمرّ من خلال الزجاج لم يعد مجرّد ضوء. إنه يهمس لي بقصص رحلته عبر الغبار، يحمل أخبارًا عن عالم خارجي قد يكون هو نفسه قشرةً لكون آخر أعمق. الهواء الذي أتنفّسه ثقيل بأطياف الأغوار. كل نَفَس هو غوص مصغّر.

نظرت إلى يديّ على ذراعي الكرسي. لم أعد أرى جلدًا وعظامًا وعروقًا. أرى مدينة نائمة. أتذكّر همسات الخلايا المتعبة، وشكاوى ميدان المشاعر، واعتصام تلك النافذة على العتمة. أسمع أزيز الأنهار الضوئية كهمسة خلفية لا تتوقف. أصبحتُ حاكمًا لمملكة لم أعد أستطيع إنكار فوضاها، ولم أعد أجرؤ على إدارتها بتلك الغطرسة السابقة.

ذهبت إلى المرآة. لم أبحث عن "أنا" حقيقي. تلك كانت أول وهم تمّ تقشيره. ونظرت إلى الانعكاس لأرى مسرحًا. رأيت قناع "الكاتبِ المتأملِ" واضحًا جدًا، بخيوطه وشقوقه. لكن، ولأول مرة، رأيت الضوء الصغير يتسرّب من تحته. لم يكن وجهًا حقيقيًا، بل كان وميضَ الإصرار على الاستمرار رغم كل شيء.

لم تعد القرارات تُتخذ بنفس البساطة. عندما أريد رفع يَدِي، أسمع صدى ذلك الاجتماع البيروقراطي في أروقة المشاعر. عندما أتحدث إلى صديق، أشعر بثِقل الأقنعة في خزانة الكواليس، وأسمع همسة ذلك القِناعِ الباهت: "أنا أفضّلك". حتى صمتي أصبح صاخبًا بأصوات المكبوت في أقبية الضباب.

الرحلة لم تُعطني أجوبة. هي مزّقت الأجوبة الجاهزة التي كنت أَحْملُها. لم أجد "نفسي" هناك في الأسفل. كل ما وجدته هو عملية البحث عن نفسي.

لم أعد أسأل: "من أنا؟"
صار السؤال: "ماذا سأفعل بكل هذا الفراغ الرائع الذي يناديني أنا؟"

الفراغ الذي أرعبني أصبح لوحتي. والفوضى التي حكمتُ عليها أصبحت فرقتي الموسيقية. والأقنعة لم تعد أكاذيب، بل أصبحت اختيارات. أنا لا "أكشف" عن نفسي الحقيقية، أنا أنسجها نسجًا، لحظة بلحظة، بقرار وقناع ووميض ودموع.

التقشير لا ينتهي. البكاء جزء من العملية. ربما لا نبحث عن لُبٍّ ثابت، بل نبحث عن طريقة أكثر إتقانًا، وأكثر شجاعة، وأكثر جمالًا للبكاء أثناء التقشير.

ها قد عدت. ليس بجوهرة ثمينة بين أسناني. عدت بخرائط لأرض لم تعد موجودة، وبذور لأشجار قد تُثمر يومًا ما.

الآنَ، 
عندما أنظر إلى جسدي، إلى أفكاري، إلى انعكاسي، أقول له:
"أعرف أنك مدينة. أعرف أنك شبكة أنهار. أعرف أنك مسرح. وأعرف أنك فراغ. لكني، اليوم، أختار أن أعتبرك وطنًا".

وما في الأوطان من فوضى، وجمال، وألم، وأمل.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إرْثُنا… إلى أين؟

  إرْثُنا… إلى أين؟ هذا سؤال يلامس عمق وجودنا كشعب. ففلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل هي هوية محفورة في جذع الزيتون العتيق، وطن يتجاوز حدود غز...