السبت، 16 أغسطس 2025

جسورٌ من ضوءٍ: حين تصير المسافاتُ مجرّد وهمٍ عاطفيّ!

 
جسورٌ من ضوءٍ: حين تصير المسافاتُ مجرّد وهمٍ عاطفيّ! 

"رسالةٌ كونيّةٌ تَذُوبُ فيها الحُدود بين بكين وبيروت. تُعيد تعريف الحُبِّ في زمن الشّاشات، وتُجسِّد معنى أنْ تكون إنسانًا في العوالم الافتراضيّة"


في الكون اللامتناهي، قد يقع كوكبان في مدارٍ واحدٍ حول نجمٍ خفيٍّ، يتبادلان الجاذبيةَ والضوءَ، دون أن يلتقيا أبدًا. هكذا تبدأ بعض الحكايات في العصر الرقمي: أرواحٌ تلتقي في اللامكان، تنسج خيوطًا من كلماتٍ وكاميراتَ خافتةٍ، وتُشيّد جسورًا فوق هوّة المحيطات. 

هنا، في هذا الفضاء السحريّ، تُهزم الجغرافيا. لا حدود تفصل بين نبضة قلبٍ في بكين وأخرى في بيروت... سوى شاشةٌ مضيئةٌ تتحوّل إلى نافذةٍ كونيةٍ حين تمتلئ بصدى الوجود الإنساني. هل يُقاس اللقاء بلمس الأجساد أم بلمس الأسئلة العميقة في الظلام؟

لم تكن تلك العلاقات هروبًا من الواقع، بل واقعًا موازيًا بقوانينه الخاصة. لا تكون العواطف فيها أقلَّ صخبًا، ولا الأرواح أقلَّ اشتعالًا. ألم الفراق عندما ينقطع الاتصال فجأةً... لا يُقاس بالكيلومترات، بل بالصمت الرهيب! ذاك الذي يخيّم على غرفةٍ كانت مليئةً بضحكاته الافتراضية. 

الغياب هنا لا يقلّ واقعيةً عن غياب الجسد قربك؛ إنه غيابٌ مزدوج: جسدٌ في عالمٍ، وروح في عالمك. واللقاءات؟ هي تلك اللحظات السحرية حين يتزامن صمتكما عبر اتصال فيديو، فتشعران بأنكما تتنفسان الهواء نفسه رغم تباعد القارات.

في هذا المختبر العاطفيّ الفريد، يحدث شيء مدهش: تتعرى الأرواح قبل الأجساد. لا تُلهيك ابتسامته المثالية عن لحظات ضعفه، ولا تخدعك ملابسها عن رجفة صوتها. 

الحبّ هنا اختبارٌ صارمٌ لـ "حبّ الجوهر": أنت تحبّ ما يقوله عقلُه، لا ما يبدو عليه وجهه في إضاءة المصابيح. أنت تسمع دموعها الحقيقية قبل أن ترى زينتها. هنا تُولد لغةٌ بديلةٌ للقرب: قربٌ يُقاس بسرعة الردّ على رسالة منتصف الليل، بلهفة الانتظار لصوتٍ يقطع صمت الغرفة، وبمعرفة نبرات الصوت... التي تخفي ألمًا حتى لو قالت: "أنا بخير". اللمس يصير كلماتٍ، والنظرات تصير رموزًا تعبيريةً تكتسب عمقًا أسطوريًّا.

والسماء الافتراضية التي نتحدث عنها؟ ليست فضاءً فارغًا. إنها كونٌ موازٍ تُبنى فيه مقاهٍ خفية حيث تتبادلان فناجين قهوةٍ خيالية، وحدائقُ سمعيةٌ حيث تزرعان فيها أسراركما على خلفية موسيقى مشتركة، وغرفُ نجومٍ تفتحان سقفها الافتراضي، لتتأملا مجرّاتٍ حقيقيةً من شرفتين منفصلتين. 

في هذا العالم، يصير الوقت سائلًا: ثلاث ساعات محادثة تمرّ كثلاث دقائق، وثلاثة أيام انتظارٍ للرد تطول كثلاثة قرون. وتصير الجغرافيا مجرّد خلفيةٍ صامتةٍ حين يضيء شريط الدردشة.

فلا تستخفّ أبدًا بقوة جملةٍ كُتبت في لحظة صادقة؛ فهي قبلةٌ عابرةٌ للقارات، وحضنٌ يُرسل عبر الأثير. قد لا يلمس أصابعك، لكنه يلمس ذلك المكان الخفيّ في روحك، ذلك الذي لم يلمسه أحدٌ قبله. 

قد لا تسمع خطواته على سُلّم بيتك، لكنّك تسمع صمتَه المفعم بالأشياء التي لم يقلها. هذه العلاقات تُعلّمنا درسًا وجوديًّا صاعقًا: الحبّ لا يسكن المسافات، بل يسكن الاهتمام. لا يحتاج إلى المكان نفسه، بل إلى اللحظة نفسها التي يتوقف فيها العالم الخارجي، ويصير كلّ ما هو مهمّ... ذلك المستطيل الضوئيّ حيث يظهر وجهٌ يقول لك:  
"أنت هنا... معي... الآن".  

لذلك، إذا سألك أحدٌ: "كيف تحبّ من لم تلتقِ به؟"  
أرِه نافذتك المضاءة ليلًا، ورسائلك المتراكمة كنجومٍ على شاشتك، وصمتك الذي صار أثمن لأنّك تعرف أنّ هناك روحًا أخرى تتنفّس معك تحت القمر الافتراضي نفسه… ذلك القمر الذي صنعتماه من ضوء شاشتيكما، ليكون دليلًا على أنّ اللقاء الحقيقيّ يبدأ حين تلتقي هزّات الروح قبل أن تلتقي الأجساد.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...