الاثنين، 18 أغسطس 2025

ظلُّ الحياة في مرآة الغياب!

 

ظلُّ الحياة في مرآة الغياب! 


1
بئر الغياب!  

هنا، في قاع البئر، لا يسكن الصمت.  
الصمتُ ضجيجٌ.  
أمّا هذا... فهو ثقلٌ يتراكم في العظام 
كرصاصٍ سائل،  
يُثقِلُ الحجابَ الهوائيَّ بين الضلوع،  
حتى لَتَكادُ أنفاسُك تُحطَّمُ على صخرةٍ لا تراها.  

الغيابُ يَنضَجُ.  
ليس كفاكهةٍ تُلمع،  
بل كظلٍّ أسودَ ينزُّ من سقفِ الذكرياتِ، 
يُحوِّلُ الهواءَ إلى قطنٍ مُبلَّلٍ بالرصاص.  
تلمسُ الكرسيَّ الفارغَ... 
فَتُحرِقُ أصابعَك برودتُهُ،  
وتحدّقُ في النافذةِ... 
فَتَغوصُ في ظلمةٍ لا تُولَدُ منها نجوم.  

حتى الروائحُ تخونُ:  
رائحةُ قهوةِ الصباحِ تتحوّلُ إلى رائحةِ ترابٍ باردٍ،  
كأنّ الثرى انسكبَ في الرئتين.  
والأصواتُ؟  
صوتُ خطواتٍ وهميَّةٍ على السُلَّمِ…  
لكنَّها مجرّدُ صدى سَقطَ في الفراغ،  
فالتهَمهُ ذلك الثقلُ الأسود.  

هذا ليس فَقْدًا بعد.  
هذا استسلامٌ سابقٌ للفقد،  
خذلانٌ من جسدِك الذي يجرؤ على التنفّس،  
ومن الشمسِ التي تجرؤ على الشروق،  
ومن اللحظةِ التي تجرؤ على الاستمرار…  
بينما أنت تُذوبُ في عينيك بحرًا من زجاجٍ مكسور،  
وتَسألُ:  
"كيف يُمكنُ للعالمِ أن يكونَ مكانًا  
إذا كان مَنْ جعلَهُ عالمًا…  
صار غيابًا يُنضجُ الفراغ؟"  


***

2
احتضار الامتلاء! 

كيف صارَ الامتلاءُ جريمةً؟  
كيف صارتِ الذكرياتُ شظايا زجاجٍ   
تُغرَقُ في حلقومكَ كلّما ابتلعت هواءً؟  

كنتُ أحملُ كونًا بين ضلوعي:  
ضحكتُكَ كانتْ شمسًا،  
وصوتُكَ كانَ نهرًا يروي الصحراءَ فيّ.  
الآن…  
الآن يُلفُّ الفقدُ هذا الكونَ ككفنٍ رطبٍ،  
يخنقُ كلَّ نبضةٍ كانتْ فرحًا.  
حتى رائحةُ قميصِكَ الباهتةُ —  
لم تعدْ تُذكّرني بكَ،  
بل تُحرقُ أنفيَ كَسُحُبِ رمادٍ!  

انظروا إلى هذا الامتلاء الشبح…  
هو كأسُ ماءٍ في الصحراء،  
تراه من بعيدٍ فيُغرِقُك عطشًا.  
الذاكرةُ — يا لهذه الخيانة —  
لا ترفعُ الكفنَ عن جسدِ الماضي،  
بل تَغْمِسُ أصابعها في الجرحِ  
فتلمسُ دفءَ دمِكَ على شَفرةِ "كان"!  

وحدي في غرفةِ الأمسِ:  
ها هي صورُكَ على الجدارِ تتحوّلُ إلى سكاكينَ بطيئةٍ.  
ها هي أغنيةٌ كنّا نحبّها تتقاطرُ مرارةً في الأذنِ.  
ها هو كرسيُّكَ يُنبِتُ أشواكًا.  
حتى قهوةُ الصباحِ —  
صار طعمُها كطعمِ الصابونِ يَفجأُ فمَ طفلٍ،  
كأنّكَ تشربُ غيابَكَ كأسًا بعد كأس. 

هذا ليس حزنًا.  
هذا اشتعالُ منجمِ الروحِ من الداخل:  
جمرةٌ تتّقدُ تحت الرمادِ،  
تُذكّركَ أنّ ما امتلأَ يومًا  
لا يموتُ، 
بل يتحوّلُ إلى فخٍّ... 
تُحطَّمُ عليهِ كلُّ محاولةٍ للنسيانِ.  
خذلانٌ مزدوجٌ:  
من قلبكَ الذي يرفضُ أن يُفرغَ ذاكرتَه،  
ومن ذاكرتكَ التي ترفضُ أن تُخدّره!  


***

3
مفارقة الدهشة!   

انكسرَ الصمتُ.  
ليس ببكاءٍ،  
ولكن بزقزقةِ عصفورٍ على الشجرةِ ذاتها  
التي كنتمَا تتفيّآنِ تحتها ظلَّ أحلامِكما.  
السماءُ تمطُرُ شمسًا!  
والأرضُ — كالمستهزئةِ —  
تَلُفُّ نفسَها برداءِ زهرٍ نَضِرٍ،  
وأنت واقفٌ في منتصفِ الرصيفِ  
كأنّكَ حجرٌ سُحِقَ تحت عجلاتِ الزمنِ.  
  
أهكذا تكونُ السُّخْريَةُ؟  
كيف تَنبِضُ فصولُ السنةِ بلا وجعٍ؟  
كيف تدقُّ ساعةُ المدينةِ كأنَّ شيئًا لم يَكُ؟  
كيف يمرُّ غريبٌ بجانبكَ يَختالُ بضحكتِهِ،  
بينما أنتَ تحملُ في صدركَ نيزكًا  
سقطَ على كوكبِكَ فجعلهُ قفرًا؟  

الحياةُ تنظرُ إليكَ.  
نعم،  
إنها تُحدّق في عينيكَ  
مِنْ نافذةِ باصٍ مزدحمٍ تلمعُ في الشمسِ،  
مِنْ طفلٍ يجرجرُ بالونًا أحمرَ كدمعةٍ أضحكتْها القسوةُ،  
مِنْ رائحةِ هيلٍ تَتَسلَّلُ مِنْ مقهىً فتخنقُ أنفاسَكَ.  

هذه ليست دهشةَ طفلٍ.  
هذه دهشةُ مجنونٍ يكتشفُ أن جَلَّادَهُ…  
هو نفسُهُ يُمسكُ بالسكينِ!  
أتُرى الكونُ كلُّه كانَ غطاءً للخديعةِ؟  
أهذهِ الأرضُ نفسُها  
التي التصقَ بها جسدُ مَنْ رحلَ؟  
كيف تنبتُ العشبُ فوقَ قبرٍ،  
بينما أنتَ لا تقوى على نبتِ شهقةٍ واحدةٍ؟  

الغيابُ يُنضجُ فراغَهُ فيكَ،  
والحياةُ — بلا حياءٍ —  
تمسحُ دمَكَ عن أسنانها  
وتستمرُّ.  
هل تسمعُها تُهمسُ؟  
"انظر!  
أنا هنا…  
أنا دائمةٌ…  
فماذا عساكَ فاعلًا  
غيرَ أن تَخِرَّ صريعَ دهشتِكَ؟"  


***

4
المقابلة الجارحة! 

الغيابُ في مواجهةِ شبحِ الحضورِ:  

تلمسُ وسادتَهُ ليلًا...  
فتحسُّ دفئًا وهميًّا كسرابٍ.  
هل هذا حضورُهُ؟  
لا أعلم! 
هذا الغيابُ نفسُهُ يخدعُك...  
يُرسلُ ظلَّهُ لينامَ مكانَهُ،  
ويُسمعكَ صوتَهُ في خريرِ صنبورٍ،  
ويُريكَ شبحَ يديهِ في غبارِ ضوءِ القمرِ. 
لكنّك حينَ تُغمضُ عينيكَ وتنادي:  
"أأنتَ هنا؟" 
لا يُجيبُ إلا صدى السؤالِ،  
يَرتطمُ بجدرانِ الغرفةِ  
كصوتِ جرسٍ في وادٍ موحشٍ.  
أيُ خيانةٍ هذه؟  
أن يُحاكيَ الغيابُ حضورًا،   
ثمَّ يسرقُ حتى حقَّكَ في الوهمِ!  

الفقدُ في مواجهةِ حياةٍ لا ترحمُ: 

انظرْ إلى الشارعِ:  
هذهِ الحياةُ تتمطى كطائرٍ شبعانَ،  
لا تعرفُ أنَّ في قلبكَ بركانًا.  
الأشجارُ تُورِقُ،  
والناسُ يشترون الخبزَ،  
والساعاتُ تلدُ دقائقَ جديدةً  
كأطفالٍ غيرِ مرغوبٍ فيهم!  
كيفَ؟  
كيفَ يُمكنُ لعالمِكَ أن ينكسرَ كزجاجةٍ،  
بينما العالمُ خارجَ صدركَ  
يُقلّبُ شريطَهُ المملَّ؟ 
الفقدُ يُعلنُ: "توقّفَ الزمنُ!"،  
والحياةُ تُجيبُ بسخريةٍ:  
"بل زمنُكَ أنتَ مَنْ ماتَ!".  


الخذلانُ.. الجرحُ الذي يصرخُ: 

هذا هو الخذلانُ الأعمقُ:  
- خذلانُ جسدِكَ الذي يبحثُ عن رائحةِ الغائبِ في وسادةٍ بلا روحٍ.  
- خذلانُ صديقٍ يقولُ: "اصبر... سيمرُّ هذا!"  
كأنّهُ يُخبِرُ نهرًا أن يجفَّ!  
- خذلانُ الأرضِ التي ابتلعتَ جسدَ حبيبِكَ...  
ثمَّ أنبتتْ زهرةً صفراءَ صامتةً فوقَهُ!  
أهكذا يكونُ الوداعُ؟  
حفنةُ ترابٍ...  
وزهرةٌ تسخرُ من دمِ قلبكَ؟  


المقابلةُ تُشعلُ الفتيلَ:  

في هذهِ الهوّةِ:  
بينَ غيابٍ يثقلُ كالرصاصِ  
وحضورٍ يتلاشى كالسرابِ،  
بينَ فقدٍ يصيحُ في صمتٍ  
وحياةٍ تصمُّ بضجيجٍ،  
تنبثقُ شرارةٌ غريبةٌ...  
ليست أملًا،   
بل استفهامٌ حادٌّ:  
"إلى متى سأكونُ ضحيّةَ هذهِ المسرحيةِ؟".


***

5
جمرة الرفض! 

كفى!  
ما عادَ قلبي وعاءً للدموعِ،  
بل بوتقةٌ تُذيبُ الصبرَ الزائفَ 
وتصهرُ الأحزانَ سيفًا!  

هذا الغيابُ الذي نَضَجَ كسُمٍّ في جوفِي..  
أرفضُ أن أكونَ قبرًا يمشي!  
أرفضُ أن تلفَّني أكفانُ "المُتجاوزين"!  
أرفضُ أن أكونَ حكايةً تُروى  
بصوتٍ هامسٍ:  
"كانَ يحبُّهُ كثيرًا...  
ثمَّ صارَ ظلَّهُ".  

ذاكرتي ليستْ نُسخةً شاحبةً،  
بل هي قلعةٌ من نورٍ:  
هنا ضحكتُكَ تشتعلُ كشمعةٍ لا تنطفئُ،  
هنا عيناكَ تُطلّانِ من كلِّ زاويةٍ،  
هنا صوتُكَ يُثقبُ جدارَ الصمتِ  
مطرقةً مطرقةً،  
حتى يعودَ الصدى  
مِرآةً تُعيدُ تشكيلَ حضورِكَ!  

هل رأيتَني؟  
أنا لا أبكي...  
أنا أحفرُ بقبضتي في صخرِ الغيابِ!  
أحفرُ حتى يدمى الكفُّ،  
حتى يمتلئَ الإبهامُ بشظايا الزمنِ،  
لكنّي أجدُ في القاعِ:  
رُفاتَ كلِّ مَنْ قالوا:  
"انسَ... اتركْ... تجاوزْ"!  

هذا غضبي:  
لهيبٌ أزرقُ،  
لا يحرقُ غيرَ أوهامِ المستسلمينَ.  
نارٌ تخرجُ من جمرةِ الروحِ،  
تذوبُ فيها الأحقادُ،  
ويتبلورُ الألمُ ماسًا في تاجِ الكرامةِ.  
نعم!  
أنا غاضبٌ:  
على السماءِ التي لم تسقطْ يومًا رغمَ كلِّ القبورِ!  
على الأيامِ التي تلبسُ أقنعةَ البراءةِ!  
على كلِّ يدٍ مدَّتْ إليَّ "مواساةً" كالمبخرةِ..  
تُخفي سمَّ الضعفِ!  

لن أكونَ ضحيّةً لهذهِ الملهاةِ.  
لن أبيعَ غيابَكَ بفلسِ راحةٍ!  
سأحمِلُ حُبَّكَ كسلاحٍ ضدَّ الفناءِ،  
وأمشي في شوارعِ الحياةِ  
كأنّني جدارٌ يكتبُ عليه القدرُ هزيمتَهُ!  


***

6
وميض التحدي!    
  
ليستْ خطوةً...  
بل وَقفةٌ.  
واقفٌ كَـ "سنديانةٍ" أحرقها البرقُ،  
لكنَّ جذورَها تمضغُ صخرَ الأرضِ.  
لا أبحثُ عن ربيعٍ يُخضِرُ فيَّ،  
فشتائي ــ يا لقسوتِهِ ــ  
صارَ فصلًا أبديًّا.  
لكنّي…  
أرفضُ أن تسقطَ أوراقي!  

الحياةُ ــ ذلكَ الشاهدُ الأصمُّ ــ  
تُحدّقُ بيَ الآنَ:  
"هل انتهى بكَ المطافُ إلى هنا؟  
على حافّةِ الهاويةِ...  
تُمسكُ بظلٍّ؟".  
أُجيبُ بصمتٍ أقسى مِنْ صَخْرٍ:  
"بل وقفتُ لأُريكَ كيفَ يُشهِرُ الموتُ حُبّاً  
لا يموتُ!".  

انظري أيّتُها الحياةُ:  
ها هو غيابُهُ يُصبحُ ساقَيّ!  
ووجعُهُ يُصبحُ دمي!  
وذكراهُ تُصبحُ بوصلةً في ليلِكِ الخالي.  
أحملُهُ ليسَ كجرحٍ...  
بل كـ "شِهادةِ ميلادٍ ثانيةٍ"،  
وُلِدتُ فيها مِنْ رحمِ الفقدِ  
إنسانًا يرفضُ أن يكونَ ضحيّةً لزمنِكِ. 

هذا هو التحدّي:  
أن تمشيَ في سوقِ العالمِ،  
وأنتَ تحملُ في عينيكَ نارًا زرقاءَ،  
وفي جيبِكَ حجرًا مِن قبرِ الحبيبِ،  
وفي صدري كلماتُ غضبٍ لم تُنطَقْ للسماءِ!  
أن تَصِلَ حافلةَ العملِ في الثامنةِ،  
بينما الكونُ كلُّهُ ينهارُ في جوفِكَ كلَّ دقيقةٍ!  
أن تدفعَ فاتورةَ الماءِ،  
والموتُ يُنادي مِن قاعِ الكأسِ:  
"أتَنساني؟"  
فتُجيبَ:  
"بل أتحدّاكَ أن تُنسيني إِيّايَ!".  

ليسَ انتصارًا...  
ليسَ رجاءً...  
ليسَ سوى تحدٍّ أعمى،  
كأنّكَ تُشهرُ قبضتَكَ في وَجهِ إعصارٍ.  
لكنَّ هذهِ القبضةَ ــ  
وحدَها ــ  
تُعلنُ أنَّ للروحِ أنياباً،  
حتى لو كانَ فريستَها الأخيرةَ  
هيَ نفسُها!  


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...