الخميس، 14 أغسطس 2025

مراسيمُ الامتنانِ للذي رحل: لماذا لا نُضَمِّدُ جراحَ الحب؟

 
مراسيمُ الامتنانِ للذي رحل: لماذا لا نُضَمِّدُ جراحَ الحب؟ 


أيُّها الغريبُ الذي صارَ خريطةً في دمي...  
أكتبُ إليكَ اليومَ لا بحثًا عن عودةٍ، بل بوصفةِ شكرٍ على الرحيل.  
أنت لم تكُن خطأً، بل كنتَ موسمَ أمطارٍ في صحراءِ الروح، علّمتَني كيف تنبتُ الزهورُ المؤقتةُ فوق أرضٍ قاحلةٍ. نعم، رحلتَ، لكنّك خلّفتَ وراءك شيئًا أغلى من البقاء:  
ألمًا جميلًا يضيءُ في الظلامِ كقنديلِ بحرٍ.  

هل تعرفُ كيف يُصبحُ الغريبُ جزءًا منّا؟  
ليس بالتملكِ، بل بالانكسارِ.  
أنت الذي دخلتَ حياتي كرسالةٍ مختومةٍ بلا عنوانٍ، وتركتَها ككتابٍ مفتوحٍ على جملتي الأجمل. لم تكن نهايتُنا فشلًا، بل كانت "دورةٌ كونيةٌ" أتممتَ فيها دوركَ:  
زرعتَ بذورَ الحنانِ في أرضٍ لم تعرفْهُ، وسقيتَها بنبضاتِ قلبكَ حتى صارت شجرةً قادرةً على تحمّلِ صقيعِ الغيابِ. رحلتَ، لكنّ جذورَكَ ما زالتْ تُنبِتُ فيّ زهورَ القوةِ.  

بعضُ الحبِّ مُصمَّمٌ كي يكونَ "جسرًا مؤقتًا" لا بيتًا دائمًا.  
أنت لم تكُن محطّةً نهائيةً، بل كنتَ القطارَ الذي أوصلني إلى محطّةِ نفسي.  
وتلك هي المفارقةُ العبقريةُ:  
أعظمُ الهدايا العاطفيةِ لا تُغلَّفُ بالخلودِ، بل بالزوالِ.  
فلو بقيتَ، لما عرفتُ ثمنَ اللحظةِ،  
ولو لم ترحلْ، لما اكتشفتُ أنّ قلبي قادرٌ على النبضِ بلا دعمِ يديكَ.  

انظرْ إلى ما خلّفتَهُ فيّ:  
هذا الألمُ الذي أشعرُ به ليس جرحًا نازفًا، بل وشمًا فنيًّا يروي قصّتَنا.  
هذه الوحدةُ ليست فراغًا، بل غرفةٌ تعلّمتُ فيها عزفَ سيمفونيةِ الاستقلالِ.  
لقد حوّلتَني إلى "خيميائيٍّ عاطفيٍّ" يغلي ذكرياتِنا في قارورةِ الزمنِ،  
فيخرجُ منها ذهبُ الحكمةِ:  
أنّ الحبَّ الحقيقيَّ لا يموتُ بانتهاءِ العلاقةِ، بل يتحوّلُ إلى وقودٍ لروحٍ أكثرَ اتّساعًا.  

في متحفِ روحي الآنَ، ثمةُ جناحٌ خاصٌّ بكَ:  
فيهِ إطارٌ لضحكةٍ لم تُسمَعْ إلا مرّةً،  
وزجاجةٌ تحوي رائحةَ قهوةِ الصباحِ التي شربناها سويًّا،  
ومخطوطةٌ لأولِ رسالةٍ كتبتَها لي وقد غمرتها دموعُ الوداعِ.  
أترى؟ أنا لا أندمُ، لأنّ الندمَ خيانةٌ لتلك اللحظاتِ التي استحقتِ الحياةَ.  

لذلك، إذا سألني أحدٌ: "ألا تؤلمك نهايتُكم؟"  
سأقولُ: "نعم... لكنّهُ ألمٌ أشبهُ بوشمِ الياقوتِ –  
يلمعُ في الظلامِ ويُذكّرني أنّني كُنتُ حيًّا بما يكفي لأحبَّ  
إنسانًا جعلَ الرحيلَ درسًا في الجمالِ".  

فشكرًا لكَ...  
لأنّك لم تُعلّمني كيف يُحبّ المرءُ إلى الأبدِ،  
بل علّمتني كيف تُحَوَّلُ النهاياتُ إلى أجنحةٍ.  
الآنَ، حينَ أرى ظلّي على الحائطِ،  
أعرفُ أنَّ جزءًا منكَ يسيرُ معي كعلامةِ استفهامٍ جميلةٍ:  
"هل تُحبّني بعد؟"  
فأجيبُ بصمتٍ:  
"نعم، لكنّني أحبُّ أكثرَ الشخصَ التي صرتُه بفضلِ رحيلِكَ".  

لأنّ أعظمَ الغرباءِ لا يغادرونَ أبدًا...  
بل يتحوّلونَ إلى إضاءةٍ داخليةٍ  
تنيرُ طريقَنا نحوَ أنفسِنا...  
حامِلينَ معهم الدليلَ الأكيدَ:  
أنَّ بعضَ الحبِّ لا يُقاسُ بالمدةِ،  
بل بعمقِ النقشِ الذي يتركهُ في عظامِ الروحِ.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

متلازمة البناء المتهالك

  متلازمة البناء المتهالك   "كيف نُهدر الجودة باسم الإنجاز، ونقتل المستقبل بالسرعة المُقنّعة بالغش المؤسسي؟"   هذه الوثي...