في عينِ العاصفة!
"قبل العاصفة… لحظة واحدة فقط تكفي"
تسحبُنا السرعةُ في تيّارها الهائج، فلا نكادُ نُلاحقُ ظلَّنا، ولا نلتفتُ لندوبِ الزمنِ على وجهِ الحياة، تلك التي تشبهُ خطوطًا على كفِّ عجوزٍ، حكايةً تُروى همسًا بينما العالمُ يصخبُ. الأيامُ تتساقطُ وراءَ ظهورنا كأوراقِ الخريفِ التي تسبقُ يدَ الرّاغبِ في لمْلمَتِها. نحنُ لا نسيرُ، بل نُدفعُ دفعًا، وكأنّ أقدامَنا لم تعد تلامسُ الأرض.
في هذا العالمِ الذي لا ينتظرُ أحدًا، تصبحُ الحياةُ سلسلةً من اللحظاتِ المطويةِ، كصفحاتِ كتابٍ يُقلَّبُ بلا قراءة، تَبقى حروفُه بلا معنى، وأسطرُه بلا ذاكرة، وكأنَّ أيامنا تتحولُ إلى هوامش بيضاء في دفترِ الوجودِ، تُغلقُ على أسرارها وأحزانها قبل أن تنضجَ للحياةِ.
نعدُّ الإنجازاتِ كحصى على الطريق، نرميها في جَعبةِ الذاكرةِ لنثبتَ أننا كنا هنا، لكنّنا ننسى أن نعيشَ عمقَ اللحظةِ التي مررنا بها. نلهثُ وراءَ الرقمِ القادمِ، والتاريخِ التالي، والمستقبلِ الذي لا ينتهي، وكأنّ الحاضرَ محطةٌ عابرةٌ لا تستحقُّ الوقوفَ فيها.
حتى الأصواتُ من حولنا أصبحتْ طنينًا واحدًا، مختلطةً بضجيجِ الآلةِ التي لا تتوقفُ. أينَ همسُ الغيمِ، وحفيفُ الشجرِ، ونبضُ القلبِ حينَ يلتقي بنبضٍ آخر؟ لقد طُويتْ هذه الأصواتُ في زوايا النسيان، وحلَّ مكانها رنينُ التنبيهاتِ الذي يقطعُ علينا خيطَ تأمُّلِنا الوحيدَ.
إنّها العاصفةُ التي تخلطُ الزمنَ ببعضه، فلا تعودُ تعرفُ بدايتَهُ من نهايتِه. نعيشُ على هامشِ الساعة، نرتدي ساعاتنا على معاصمنا كقُيودٍ ذهبيةٍ، نفتخرُ بها وهي تقطعُ علينا أنفاسَنا، نَفسًا إثرَ نَفسٍ.
لكنّ السؤالَ الذي يظلُّ يُلاحقنا في صمتِ الليالي: أيُّ حياةٍ هذه التي لا نعيشُها إلا على عَجَل؟ أيُّ معنى لأنْ نُحَقِّقَ كلَّ شيءٍ ونفقدُ أنفسَنا في زحامِ العدم؟!
ربما تكونُ الجماليةُ الحقيقيةُ كامنةً في أنْ نعثرَ، وسطَ هذا الركامِ من السرعة، على لحظةٍ واحدةٍ أن نخلعَ فيها نعلَ الدهرِ من أقدامنا، ونلمسَ الأرضَ بحنينٍ. أن نتنفسَ ببطءٍ كافٍ لنشُمَّ رائحةَ المطرِ على ترابِ الطفولة، أو نسمعَ صوتَ القهوةِ وهي تغلي على نارٍ هادئة.
تلك هي الثورةُ الحقيقيةُ في زمنٍ مجنونٍ بالسرعة: أن تتوقفَ، لا لترتاح، بل لتعيش. أن تَرفضَ أن تكون رقمًا في مُعادلةِ الإنتاجِ، وأن تَركعَ باختياركَ لتُصغي للوعةِ الروحِ، وهي تنتعِشُ ببطءٍ كنباتٍ يبحثُ عن الضوءِ بين صخورٍ صماء.
فالعمرُ ليس عددَ اللحظات، بل عُمْقُها. وليس الجمالُ في عددِ الصفحاتِ التي قلّبناها، بل في تلك التي توقّفنا عندها حتى انطبعتْ كلماتُها في أعماقِ أرواحنا. ففي هذا العالمِ الذي لا ينتظرُ أَحدًا، قد تكون أنتَ الوقت نفسهُ إِذا توقَّفتَ.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق