سجن الألفة: حين يتحوّل دِفءُ الجدرانِ إلى قيودٍ غير مرئيةٍ!
لم تكن في البداية إلا غرفةً صغيرةً دافئةً.
جدرانها من عاداتٍ مريحةٍ،
أرضيتها من وعودٍ متكررةٍ،
سقفها من "سأغيّر" معلقةٍ في الفراغ.
ثم، دون أن تشعر، ضاقت الغرفةُ حولك.
صارت العلاقاتُ الطويلةُ أقفاصًا ذهبيةً:
تُبهرك من الخارج، وتخنقك من الداخل.
تُمسك مفتاحَ الباب، لكنك تختار ألا تفتحه، لأن برودةَ الحريةِ أخوفُ من دفءِ السجنِ المألوفِ.
كيف يصير المألوفُ سجانًا؟
عبر طقوسٍ خفيةٍ:
أن تبتسمَ وأنت تُكبِّل قدميك خشيةَ إزعاجِ الآخر.
أن تدفنَ حلمًا تحت سجادةِ "هذا ليس وقتَه المناسب".
أن تُقدّس الروتينَ حتى يصيرَ إلهًا صامتًا تسجد له كل صباح.
الخوفُ هنا لا يرتدي ثوبَ الذعر، بل ثوبَ "الحكمة الواقعية":
لماذا أهزّ القاربَ وأنا لا أجيد السباحة؟
لماذا يفضّل البعض ألمًا ألفه على أملٍ يخشاه؟
وهكذا تُصبح الألفةُ إدمانًا على المسكِِّنات الوجودية.
لكن انظر إلى هذه المفارقة الساخرة:
أنت تبني سجنك بحجرين متناقضين:
حجر الراحةِ الذي يخدرك، وحجر الخوفِ الذي يقنعك أن الأسوارَ حمايةٌ لا حبسٌ.
تظن نفسك حرًّا لأنك تملك مفاتيحَ الأبواب، غيرَ مُدرِكٍ أنَّ أخطرَ السجونِ تلك التي تُغلق من الداخل.
السجانُ الحقيقيُّ ليس خارجًا، بل هو صوتٌ في أعماقك يهمس:
"ابقَ.. فالوحدةُ في الخارجِ أقسى من الموتِ البطيءِ هنا".
وفي القفص الذهبيّ، تذبل الأعاجيب.
القلبُ يصير حارسًا للروتين،
العقلُ يُحوّل الإبداعَ إلى مجرد أحلامٍ يقظةٍ،
الروحُ ترقص على إيقاعٍ واحدٍ حتى تنسى أنها تستطيعُ تأليفَ موسيقاها.
الأخطر؟ أن تبدأ بتمجيد القيود:
تسمي الخضوع "التزامًا"، والجمود "استقرارًا"، والموتَ العاطفيَّ "نضجًا".
تنسى أن الزنابقَ تُختنق إذا لم تُنقل من الماءِ القديم.
التحرير يبدأ بلحظةٍ مفاجئةٍ: حين تسقط ورقةٌ من شجرةٍ خارج السجن، فتتذكر فجأةً أن للرياحِ نغماتٍ لم تسمعها منذ سنوات.
هنا يُضاء السؤالُ المحظور: ماذا لو كسرتُ القيدَ غيرَ المرئيِّ؟ ماذا لو كان الخروجُ ليس سقوطًا، بل انبثاقًا؟
في تلك اللحظة، تكتشف أن المفتاحَ كان دائمًا في جيبك، لكنه صغيرٌ جدًا أمام ضخامةِ أوهامك.
لا تُخطِئَنَّ الظنَّ: هدمُ السجونِ ليس تمردًا، بل هو إعادةُ تعريفٍ للأمان.
الأمانُ ليس الجدرانَ التي تحتمي بها، بل الجناحانِ اللذانِ يحملانكَ عبرَ الأعاصير.
عندما تكسرُ بابَ الألفةِ الزائفة، لا تجد فراغًا مرعبًا،
بل أرضًا خَلاءً تنتظرك لتبني عليها قصرَ احتمالاتِك.
فإذا سمعت يومًا صفيرَ القضبانِ في داخلك،
تذكّر:
أعظمُ المخاطرِ ألا تخاطرَ بتاتًا.
أجملُ الأزهارِ تنمو في الفضاءاتِ المفتوحة، حيث لا سقفَ يحجبُ عنها نورَ النموّ.
اخرجْ...
حتى لو تعثّرت خطواتُك في البداية.
فالسجينُ الوحيدُ الذي يُشفقُ عليه حقًّا
ليس من تُغلَقُ عليه الأبوابُ، بل من يملكُ المفاتيحَ ويختارُ أن يموت جوعًا خلف أقفالٍ مفتوحةٍ.
لأنّ الحياةَ – في جوهرها – ليست بقاءً في مكانٍ آمنٍ، بل رقصٌ على حافةِ الهاوي
بين شجاعةِ المغامرةِ وجمالِ السقوطِ نحو المجهولِ الجميلِ.
جهاد غريب
أغسطس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق