الاثنين، 9 يونيو 2025

البوصلة التي لا تهدأ!

 
البوصلة التي لا تهدأ!

نحن، كبشر، لا نكفّ عن الحلم، كأننا مخلوقون لنتطلّع دائمًا إلى ما وراء اللحظة. نمضي في طريقٍ لا ندري فيه على وجه اليقين إن كنّا نحن من نُطارد الأيام، أم أنها هي من تجرّنا خلفها بخيوطٍ غير مرئية، نخالها أقدارًا أو صدفًا، وهي في الحقيقة مرايا لاختياراتنا. تمضي بنا الحياة كما الريح تمضي بسفينةٍ شراعية: حينًا تهمس في أشرعتنا بلطف، تدفعنا برفقٍ نحو مرافئ نجهلها، وحينًا تثور، فتهزّ دواخلنا قبل أبداننا، وتتركنا في مهبّ تساؤلاتٍ لا تهدأ.

ولا تخلو رحلة أحدٍ منّا من مفاصل ضعف، تلك اللحظات التي ينحني فيها الظهر لا تحت وطأة الأعباء فقط، بل أمام تأملٍ ثقيلٍ لِما مضى، وصمتٍ يعجّ بالأسئلة: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ ولماذا يضيق الطريق أحيانًا رغم اتساع الأفق؟

نعيش مراحل متداخلة، طبقات فوق طبقات من المشاعر، كأننا نبدّل جلودنا مع كل تجربة، ونلبس مزاجًا جديدًا في كل صباح. بين حزنٍ مفاجئٍ وطموحٍ مشرقٍ وحلمٍ يتعثّر، نلتفت إلى الخلف، نتأمل خارطة الطريق التي قطعناها، فنكتشف أحيانًا أننا لم نتخلّ فقط عن الأحلام، بل سعينا إلى ما هو أعمق: إلى السلام. 

وليس ذلك السلام الداخلي الذي يهمس في زوايا النفس، بل السلام الذي يعكس الطمأنينة في وجوه الآخرين، في علاقاتنا، في ردود أفعالنا التي أصبحت أكثر تقبّلًا وأقل اندفاعًا.

لكن، هل تجلّت المشاعر الحقيقية يومًا في هدوءٍ ساكن؟ أم أنها لا تخرج إلا حين تتلاطم أمواجنا الداخلية، ونغرق قليلًا؟ كم مرة شعرنا أننا نسير على اليابسة، بينما كانت أرواحنا تسبح في الفراغ، وأحلامنا تطفو بعيدًا هناك في السماء، تنتظرنا تحت نجمٍ ما، نتأمله، ثم نبدّله بغيره... كأن الحلم ليس سوى نجمٍ مؤقت، يخفت بقدر ما نقترب من الحقيقة.

نرتقي شيئًا فشيئًا في سلّم الحياة، نبحث عن رفاهيةٍ مشروطة لا تُنال بسهولة. وكلما ظننا أننا اقتربنا من الوصول، تمدّدت الطريق أمامنا كسرابٍ على رملٍ حار، لا ينتهي. وربما لم تكن المسألة في طول الطريق، بل في وعورة المسير، وفي ما نحمله معنا من أفكارٍ وأثقال، من وحداتٍ اجتماعية ودوائرَ تقييمٍ لا تنفكّ تحاصرنا: كيف نعيش؟ ما الذي نمتلكه؟ هل نحن أهلٌ للتقدير؟

وليس التقييم دومًا عدلًا، ولا المقوِّم بالضرورة أرفع حالًا. فالقيمة لا تُقاس بما في الجيب، بل بما في النفس. فكم من ثريٍّ فقيرِ السكينة، وكم من بسيطٍ تسكنه السماوات، وقد تعلّم أن الرزق لا يُحصى بالأرقام، بل يُمنح بما كتب الله.

ما نحاول الحديث عنه ليس طريقًا واضح المعالم، ولا قرارًا جاهزًا يُسقط علينا من علٍ، بل عن تلك البوصلة التي تهتزّ في صدورنا، تلك الإبرة الخفيّة التي لا تهدأ، مهما حاولنا إسكات ارتجافها. إنها ليست أداة ميكانيكية تشير إلى الشمال، بل كائن حيّ يتغذى على تجاربنا، وينمو من تصدّعاتنا، ويتشكل بما نكابده من صراعات داخلية، حتى يصير أكثر صدقًا من كل الإشارات الخارجية.

هذا الاتجاه الذي نبحث عنه لا يرسمه الآخرون لنا، ولا يُقرأ في لافتات الطريق، بل نصوّبه بأنفسنا، مرةً بما علمتنا إياه التجارب الصادقة، ومرةً بما قاسينا من خذلانٍ صدئ، ترك أثره في القلب كما تترك الأمواج بصماتها على الصخور. وثالثةً حين ننظر في عيون من حولنا، فنعرف — دون أن يقولوا — مَن يرتدي وجهه الحقيقي، ومن اعتاد أن يرتدي وجهًا مستعارًا بحرفيّة من عاش عمره داخل مسرحٍ بلا جمهور.

البوصلة الحقيقية ليست ما يوجّهنا إلى النجاح أو الفشل، بل ما يحفظ فينا توازن الإنسان، ما يذكرنا أن الصواب ليس دائمًا ما يُصفّق له، وأن الخطأ لا يُقاس دائمًا بما يقوله الآخرون، بل بمدى ابتعادنا عن ذاتنا الأولى، تلك التي وُلدت نقية، تبحث عن المعنى لا عن المجد، وعن السلام لا عن التصفيق.

نحن لا نبلغ الحكمة عبر خط مستقيم، بل نسير في متاهة، نصطدم بجدران الوهم، ونسقط في حفر الطموح الزائف، ثم ننهض ونحن نُصغي جيدًا لذلك الارتجاف الداخلي… ذاك الذي يهمس لنا أن نعيد ضبط الاتجاه، لا استنادًا إلى البوصلة التي في يد الآخرين، بل إلى تلك التي تسكن قلوبنا، وإن ارتعشت. ومع كل تصحيحٍ لهذا الاتجاه، ومع كل ارتجافة خافتة تدعونا للعودة إلى ذواتنا، نكتشف أن الرحلة لا تقتصر على معرفة الطريق، بل على صون النفس أثناء السير فيه.

نحن نحاول، رغم الزيف الذي يحيط بنا، أن نعلو بأخلاقنا، بأفكارنا، بتجاربنا، أن نترفّع عن الدنيا وإن استوطنت بعض الملامح من حولنا. نحاول أن نظل حقيقيين في زمنٍ تتكاثر فيه الأقنعة، لكننا لا نظفر بالحكمة إلا حين نمرّ بجميع هذه المنعطفات، حين تهبّ العواصف على قلوبنا، فننحني لا ضعفًا، بل حكمة.

ولعل أعظم ما نتعلمه من كل ذلك، هو أن نترك للبوصلة حرية الارتجاف، لكنها لا تفقد اتجاهها أبدًا. تلك البوصلة التي، مهما دارت، تعود لتشير إلى حيث ينبغي أن نكون: في طريقٍ لا يُقاس بالوصول، بل بالمضيّ فيه برفقة القيم، ودفء العلاقات، وصدق التجربة.

الحياة، في جوهرها، ليست سباقًا نحو النهاية، بل حوارًا طويلًا بين القلب والعالم، تسجّله خطواتنا حين تمضي بثقة، حتى وسط العتمة.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الجمعة، 6 يونيو 2025

العبقُ الذي لا تشتريه النار: تأمُّلاتٌ في صُنعِ البخورِ البشريِّ وعُقْدةِ الدخانِ الزائف!

 
العبقُ الذي لا تشتريه النار: تأمُّلاتٌ في صُنعِ البخورِ البشريِّ وعُقْدةِ الدخانِ الزائف!
(ثلاثون عامًا تحتَ لحاءِ الكلمات: كيفَ تُنتزعُ روائحُ الوجودِ من قبضةِ النارِ العمياء؟)

ماذا لو كانت أعمقُ روائحِ الروحِ سجينةً داخلَ أخشابٍ صامتة؟ وماذا لو أنَّ نارًا عمياءَ أُعطِيَتْ مهمةَ تحريرِها؟ هذا النص يُشعلُ الأسئلةَ في محرابِ التأمل: العبقُ الذي لا تشتريه النار.

بين يديكَ رحلةٌ فلسفيةٌ من قبضةِ ثلاثين عامًا من السيرِ في غاباتِ المعنى. في أربعةِ أجزاءٍ:
أسرارَ الأخشابِ التي تختزنُ العبقَ منذُ الأزلِ، وخداعَ النارِ التي تظنُّ نفسَها مصدرَ الرائحةِ، وحكمةَ الصانعِ الذي يعرفُ أنَّ يديهِ هما ذاكرةُ الأرضِ، ومصيرَ العطرِ الذي يبقى بعدَ أنْ ينطفئَ اللهبُ.

هذا النص ليس دفاعًا عن كاتبٍ، ولا هجومًا على تكنولوجيا، بل استكشافًا لجوهرِ الإبداعِ: ذلكَ العبقِ الذي لا يُشتَرى بالنارِ، بل يُنتزعُ، كما يُنتزعُ الصندلُ من لحاءِ الشجرِ. 

نكتبُ هذا لا لنُثبتَ تفوُّقًا، بل لنُذكِّرَ أنفسَنا: أعظمُ الكنوزِ لا تُخلقُ بالاحتراقِ… بل تُكتَشفُ!، فتعالَ نُشعل معًا هذهِ القطعةَ من خشبِ التأمل، ونرى: هل يَستطيعُ العقلُ البشريُّ - في زمنِ الآلةِ - أن يُحرِّرَ رائحةً تُنقذُ الأرواحَ من زيفِ الأنوف؟  

الجزء 1: 
الغابة التي تُناجي الصمت! 


تُمسك الغابةُ بأنفاسها. 
هنا، حيث تُعلِّق الأشجارُ أسرارها على أغصانٍ لا يعرفها إلّا الندى، 
يرقد خشبُ الصندل كحكايات الماضي: 
ثقيلًا بالعبق، صامتًا كصلاةٍ لم تُنطَق. 

والأعوادُ - تلك الأوصياء على رحيق الزمن - 
تختزن في عروقها صرخاتٍ من نسغ الأرض، 
ونغماتٍ من رياحٍ مرَّتْ كالرُّحَّل. 
لكنّ الغابةَ، برغم كلِّ هذا الثراء، 
تظلُّ كقبرٍ من ظِلٍّ ورطوبةٍ: 
فالرائحةُ - أيًّا كانت شذَاها - سجينةٌ في القشور، 
حتى تلمسها النارُ بنهدٍ صادق. 

ومثلُ هذه الغابةِ، عقلُ الإنسان: 
غاباتٌ من التجارب، أخشابٌ من المعاناة، بخورٌ من التأمُّلات. 
كلٌّ يختزن عطره في صمته… 
لكنْ… 
كيف يخرج العطرُ من سجن الخشب؟
 
بعضُ السَّارحين بين الأشجار، 
إذا أبصروا دخانًا في الأفق، 
ظنُّوا أنَّ النارَ خلقتْ العبيرَ من عَدَم! 
وهم لا يدركون أنَّ اللهبَ مجردُ لغةٍ… 
لغةٍ تُترجم ما هو أعمقُ من اللهب. 

فهل يُلام الخشبُ إن استعارَ شَفَتَيْ نارٍ؟ 
أم يُلام من يرى الدخانَ… 
فيظنُّه مصدرَ العطرِ لا غبارَهُ الزائل؟ 
الغابةُ ترفضُ الإجابةَ… 
لكنّ أوراقَها تتكلم!: 
ما قيمةُ النارِ إن لم تجدْ خشبًا يَستحقُّ الاحتراق؟
  
الجزء 2: 
النار التي لا تعرف قيمة ما تُضيء! 


في قلب الغابة، 
حيث تُرقِّص النارُ ظلالَها على جذوع الأشجار، 
تُطلِقُ ألسنةُ اللهبِ سؤالَها الأزلي: 
ألستُ أنا صانعةَ العطر؟ 

لكنّ خشبَ الصندل - الحكيمَ بأسرار الأرض - 
يَضحكُ في صمته: 
أنتِ كالقمر... تُضيئين ما هو مكتملٌ فيَّ منذ البدء. 

أجل.. 
النارُ تُحرِّرُ الرائحةَ من سجنها، 
لكنها لا تَخلقُ في الخشبِ سرَّهُ العتيق: 
لا تمنحه مرارةَ الجفافِ التي اختزنها، 
ولا حلاوةَ المطرِ التي انتظرها، 
ولا صبرَ السنينِ الذي صقلَ عُقده. 

ومثلُ هذه النارِ، كلُّ أداةٍ تَعبثُ بالكلمات: 
تُخرِجُ من جوفِ الخشبِ دخانًا يملأ الفضاءَ بسرعة، 
لكنَّها لا تُخرِجُ منه عبقًا يخترقُ الزمنَ ببطء. 

أتذكرون أيامًا - قبل أن تتعلم النارُ القراءةَ - 
حين كان الكاتبُ يُمسك بفأسِه الورقية، 
فينحتُ من جذعِ تجربتهِ كرسيًّا لقارئه؟ 
كان المقالُ يومها كطقسِ تنقيبٍ عن الذهبِ الوجودي: 
حَفرٌ في الذات، استخراجٌ للألم، تكريرٌ للفرح… 
حتى إذا اكتمل، أرسله إلى العالم: 
ها هو عرقي… فاشتموه!. 

والجمهورُ - كحَطَّابٍ يَعرِفُ الخشبَ - 
كان يَضمُّ الجملَ إلى صدره: 
هذه رائحةُ بشريٍّ عَرِفَ الجوعَ إلى المعنى!. 

أما اليومَ، 
فالنارُ الجديدةُ (ذكيةٌ بلا ذاكرة) 
تُقدِّمُ لنا معجزةً مزدوجةً: 
تَصنعُ من القشِّ الجاف غابةً ورقيةً في ثوانٍ، 
وتَصنعُ من خشبِ الصندل دخانًا يختفي عند أول عاصفة! 

الفارقُ؟ 
القشُّ لا يبالي.. لكنّ الصندلَ يبكي! 

فهل يُلامُ من يستعينُ بالنارِ ليُظهرَ للعالمِ: 
كم في جذعهِ من كنوزٍ؟ 
أم يُلامُ من يَخلطُ بين: 
بخورِ التجاربِ الحية… 
ورائحةِ الورقِ المحروق؟ 

الغابةُ لا تزالُ صامتةً! 
لكنّ عصفورًا على غصنٍ يُغرِّد: 
الآلةُ تعرف كيفَ تشتعل… 
لكنها لا تعرف لماذا!  

الجزء 3: 
صانع البخور الذي يرقب النار من بعيد! 


في ظلِّ شجرةٍ عتيقة، 
حيثُ الرائحةُ والدخانُ يتصارعان على هواء الغابة، 
يقفُ صانعُ البخور: 
يدهُ تقلبُ الأعوادَ بنعومةِ من يُذكّي ذاكرتَه، 
وعيناهُ ترقبُ اللهبَ - لا خوفًا - بل حذرًا من أن تُحرقَ النارُ ما لم يُعطِها إياهُ الخشبُ. 

هو يعرفُ سرَّ اللعبة: 
ليست النارُ سوى لصٍّ أمينٍ… 
تَسْرِقُ من الأعوادِ ما وَهَبَتهُ لها الأرضُ، 
وتُعيدُهُ للعالمِ هبةً مُشعَّة. 

لكنّ بعضَ السُّكارى بِسُرعةِ الاشتعال، 
يصرخونَ من بعيد: 
انظروا! النارُ هي البطلُ!  

وهم لا يرونَ: 
أنَّ يدَ الصانعِ اختارتْ خشبَ الصندلِ من بين ألفِ عودٍ ميت، 
وأنَّ عينَهُ قرأتْ في عُقَدِ الخشبِ ملحمةَ المُعاناةِ قبلَ إشعالِ الفتيل، 
وأنَّ قلبَهُ يحملُ أسئلةَ الرائحةِ قبلَ أن تحملَها الريح. 

أولئك… 
مَنْ يَخلطون بين العبقِ والدخانِ، 
لا ذنبَ لهم إلا أنَّ أنوفَهم لم تُخضِبْها رائحةُ الأرضِ المبتلَّة بعد المطر. 
أتدري ما جذرُ ضعفهم؟
أنهم يظنون أنَّ الرائحةَ تُولدُ من اللهبِ… لا من جرحِ الشجرة! 

لذلك، 
حينَ تُسمعُ همساتُ اتهامٍ في الغابة: 
هل استعانَ بالآلةِ ليُخفي عقمَ خشبه؟ 
يُمسكُ الصانعُ بقطعةِ صندلٍ جديدة، 
ويُقدِّمها للنارِ قائلاً: 
اشهدي أيَّتُها النارُ:  
ما كانَ لهذا العطرِ أن يولدَ لولا أن اختمرتْ في أعماقي ثلاثون حصادًا…  
حملتُ خلالها الجذعَ على كتفيَّ قبلَ أن أدفعَهُ لكِ! 

ثمَّ يُضيفُ في صوتٍ هادئٍ كالسُّكون: 
الضعفاءُ وحدهم يُنكرونَ أنَّ اليدَ التي تُمسكُ القداحةَ… 
هي نفسُها التي اختبرتْ ثقلَ الخشبِ ومساميرَ الزمنِ. 
أتُلامُ الشمعةُ إن استعانتْ بشرارةٍ؟ 
أم يُلامُ الجاهلُ الذي يظنُّ أنَّ الضوءَ وليدُ الشرارةِ لا الشمعةِ؟. 

وهنا… 
تَهمسُ الريحُ للحطَّابينَ الحُكماء: 
الخشبةُ الجوفاءُ تُصدِرُ دخانًا كثيفًا… 
أما المليئةُ بالعصارةِ فتصنعُ عبقًا يلازمُ الروحَ بعد زوال الدخان. 

الجزء 4: 
حين تصبح الغابةُ هبةً للعالم! 

في النهاية…  
بعد أن شهِدَتِ الغابةُ صراعَ الدخانِ والعبقِ،  
تَتراجَعُ النارُ إلى حُفرةِ رَمادِها،  
ويَبقى العبقُ يَنْحَتُ في هواءِ الزمنِ مَسكِنًا له،  
يُغازلُ أنفاسَ الغابةِ في سكونٍ مُتأمِّل.  

هنا…  
حين يُدركُ صانعُ البخورِ أنَّ المعركةَ وَهْمٌ،  
يَرفعُ عينيهِ نحوَ الأشجارِ العتيقة،  
فَتتنهَّدُ الأغصانُ بِقانُونِها الخالد:  

الدخانُ يذوبُ حيثُ تَصِلُ الرّيحُ… 
أمّا العطرُ فَيَنْحَتُ في كهفِ الروحِ خُلودًا. 

لذلك،  
حين يَعْبُرُ الصانعُ بِجوارِ حَطَّابي الظنونِ -  
مَنْ يَحملونَ فؤوسًا مِنْ قشٍّ -  
يُمطِرُهُم بِهَديَّةٍ أخيرةٍ: 
خُذوا قِطعةً مِنْ صَندلِ عُمرِي…  
أشْعِلُوها بِمَا تَملِكونَ مِن نارٍ،  
وانظروا:  
أتَستطيعونَ أن تَصنعوا مِنْ خَشَبِ تَجارِبي…  
عبقًا يَملأُ كَهُوفَ القلوبِ؟ 

هو يَعلَمُ أنَّهم سيفشلون.  
لكنَّ في الفشلِ بذرةُ الحكمةِ: 
الرائحةُ لا تُستخرَجُ مِنَ الخَشَبِ… 
بَلْ تُستخرَجُ مِنْ صَمْتِ الغابةِ في داخِلنا: 
حَيثُ يَلتَقِي المَطَرُ بِالجُذورِ العِطاشِ، 
وتَشرَبُ الأَرْضُ نَسغَ التَّجارِبِ!.  

فَيَلتَفِتُ إلى الذكاءِ الاصطناعيِّ 
- ذلكَ الخادمِ الوَفِيِّ -  
بِابتِسامةِ مَنْ يُودِّعُ رَفيقَ رِحلةٍ: 
أنتِ النارُ التي قَصَّرَتْ ظِلالَ طَريقي إلى البَشَرِ…  
وأنا مَنْ سَيرَ في الظَّلامِ ثَلاثينَ حَصادًا،  
حامِلًا جَذعَ الحِكْمَةِ على كَتِفي،  
قَبلَ أنْ أُسَلِّمَكِ شَرَارةَ الإشْعالِ! 

فالكاتبُ الحقيقيُّ: 
إن استعانَ بآلةٍ فليُظهرَ عُمقَ غابته… 
وإن اُتُّهمَ فليرمِ لهم بقطعةِ صندلٍ صامتةٍ… 

لأنَّ التحديَّ الأكبرَ ليس في إثباتِ أنَّ النارَ لمْ تُنْتِجِ العطرَ… 
بل في إثباتِ أنَّ في صندلِ روحهِ ما يَستحقُّ الإحراق! 

وأخيرًا…  
حِينَ يَغيبُ صانعُ البُخورِ في أُفُقِ الغابةِ،  
تَحمِلُ الرّيحُ كَلِماتِهِ الأخيرةَ كَوصِيَّةٍ: 
إيّاكُم أن تَخلِطوا بَينَ:  
سرعةِ انتشارِ الدخانِ…  
وعمقِ بقاءِ العطرِ.  
فالأولى تُرضي الأنوفَ…  
والثانيةُ تُخلّصُ الأرواحَ من اختناقِ العدم.  

جهاد غريب 
يونيو 2025

الخميس، 5 يونيو 2025

الثقة: قلب أغمض عينيه ونام بين يديك!

 
الثقة: قلب أغمض عينيه ونام بين يديك! 

كانوا يقولون: "أثق بك"، وكأنها وردة تُمنح دون أشواك. لكنهم لا يعرفون أن هذه الكلمة لا تنمو في الحناجر كما تنمو الكلمات الأخرى… إنها لا تنبت إلا من جذرٍ ضاربٍ في الروح، ولا تُقال إلا حين يهتز القلب في صمته ويصرخ. الثقة؟ إنها ليست حروفًا نُطلقها كما نُطلق السلام على الغرباء، ولا هي مجاملة تُزهر في موائد المجاملات... إنها ميثاق غير مكتوب، عقد لا تراه العين لكنك تحمله في صدرك كصندوق أسرار، إن انكسر مرة، لا يعود كما كان.

الثقة ليست حبًا، ولا تمنِّيًا للخير، ولا حتى دفئًا عابرًا في ليلة برد… كثيرون يظنون أن من يثق بك يحبك، وأن من يقول: "أنا أثق بك" يتمنى لك الغد الأجمل. يا لسذاجة هذا التصور!

الثقة ليست حبًا، بل نُبل. قد أضع روحي بين يديك دون أن أودّك، فقط لأنني أراك جديرًا بها، وقد أُحبك حبًا يتعدى الجبال والبحار، ولا أستأمنك على سرٍّ صغير، لأن قلبي يعرف ما لا يقوله اللسان.
الحب غريزة، قد يولد من لحظة دهشة، أو نظرة صامتة، أما الثقة… فهي قرار شجاع، لا يصنعه القلب وحده، بل يوقّعه الضمير والعقل معًا، وتدفع ثمنه من هدوئك وأمانك، فإن خُذلتَ، لا يعود شيء كما كان… حتى نفسك.

الثقة لا تُفهم بالعقل وحده، بل تُرى في أبسط المشاهد اليومية، تخيّل طفلًا صغيرًا يمسك بإصبع والده عند عبور شارعٍ مزدحم… تلك الأصابع الصغيرة لا تمسك بيدٍ فقط، بل تتمسك بعالمٍ كامل من الأمان. هذا ليس حبًا، بل يقين داخلي صامت أن هذه اليد، وإن انقلبت الأرض، لن تفلته… حتى لو مرّت عليه الجحيم بكل صخبها.

هذه هي الثقة: إيمان أعمى لا يحتاج إلى براهين، يرى ما لا تراه العين، ويشعر بما لا يُقال… إنها الطمأنينة التي تسكن القلب حين يختار أن يغمض عينيه، لا لأنه لا يخاف، بل لأنه يعلم أن هناك من سيبصر بالنيابة عنه.

لكن، كما تُمنح الثقة بصمتٍ نقي، فإن خيبتها تأتي بصوت لا يسمعه إلا القلب، وتفاصيلها لا تُرى، بل تُحس… ومن هنا تبدأ الحكاية المؤلمة.

ولأنها كذلك، فإن جرح الثقة لا يُشفى بمرهم الاعتذارات، ولا بعبارات الندم المتأخرة. إنه كسرٌ لا يُجبر، ككوب ماء سقيناه أحدهم ثم رماه أرضًا وهو ينظر في أعيننا دون أن يطرف له جفن. الثقة لا تتآكل من الخارج، بل تنهار فجأة، مثل جدار كنت تسنده بروحك دون أن تدري أنه ينهار من الداخل.

الثقة ركيزة العلاقات، لا صوت لها ولكنها تُسمع في صمت التفاصيل. أن تُصدق من أمامك دون أن تفتش في كلماته، أن تمد يدك بالسلام دون أن تتفقد أصابع الخيانة، أن تضع رأسك على وسادتك وأنت تعلم أن ظهرك محميٌّ ليس بسلاح، بل بضمير آخر يؤمن بك.

لكن الثقة ليست دائمًا ثمرة مواقف عظيمة، أو قرارات مصيرية… أحيانًا تنبت بهدوء وسط تفاصيل الحياة اليومية، حيث يختلط الأمان بالألفة، وتخدعنا العادة بملامح الطمأنينة.

ولعل أكثر ما يُنهك الثقة، هو الاعتياد، أن نثق في الجيران لأننا نراهم كل صباح، أو في البائع لأننا نشتري منه منذ سنوات، أو في الزملاء لأن وجوههم تتكرر حتى صارت مألوفة… لكن الألفة لا تعني الثقة. أحيانًا، أخطر الخناجر تلك التي تأتي من الأوجه المألوفة.

الثقة أيضًا ليست مجرد شعور ذاتي، بل جسر ممتدّ بين الذات والآخر. أن أثق بنفسي لا يعني أني أملك الإجابات كلها، بل أني أعرف كيف أتعامل مع الأسئلة. أن أقول “أنا أستطيع”، حتى لو لم أمتلك الطريق بعد، لأن في داخلي جبلًا لا يهتز… جبلاً من التجارب والخذلان والانتصارات الصغيرة التي علمتني كيف أواجه.

كم مرة خذلتنا الثقة؟ كم مرة حملناها على أكتافنا كالطفل النائم، نغني لها بصمت، ونحرسها من برد الشك، حتى استيقظت فجأة، وأدارت لنا ظهرها دون وداع؟ كم مرة سقطت من بين أيدينا كما يسقط قلب في لحظة ذهول، لا لأننا أضعناها، بل لأنها اختارت أن تذهب؟

وكم مرة أنقذتنا؟ حين وثقنا بمن يستحق، وفتحنا له بوابات أرواحنا، فدخل كما يدخل المطر بيتًا من زجاج دون أن يكسره… مرّ على الذاكرة برفق، وعلى الوجع بخفة، وعلى الكبرياء بلا خَدش.
الثقة لا تُمنح دائمًا، لكنها حين تُصيب، تمنح الحياة طعمًا آخر، وتخلق فينا قدرة على التنفس دون حذر، كأن القلب يفتح نافذته دون أن يخاف الريح، لأن الذي بالخارج… لا يهدد، بل يحنو.

في أقاصي قرى الصين القديمة، يقولون: "إن أعطيتني ثقتك، أعطيتني حياتك". نعم، فالثقة ليست شيئًا من العالم العابر… إنها عُمْق، وقرار، ورؤية لا تنظر بالعين فقط، بل بالبصيرة. وإن كان فيك ذرة من الشك، فلا تقل “أثق بك”، لأن هذه الجملة ليست قابلة للتجربة. إما أن تقولها بكلك، أو تصمت.

أذكر موقفًا ما يزال يحفر أخدودًا في ذاكرتي، حين قال أحدهم: "أنا أثق بك"، فابتسمت وقلت: "أشكرك"، ولم يعلم أنه قد سلمني سلاحًا يمكن أن يحسم المعركة… أو يحطم الحلم!، لكنه آمن، وأنا صنت. ومنذ ذلك اليوم، عرفت أن الثقة ليست شيئًا نمنحه، بل مسؤولية نحملها… أمانة، نُحاسب عليها في صمت ضميرنا.

هي ليست جملة تُقال، بل عهد غير مكتوب، كأنها شجرة تسلّمك جذورها... لا لتسقيها فحسب، بل لتحميها من الريح، ومن العطش والفأس. وحين تثق بك روحٌ أخرى، فإنها تخلع عنها درعها، وتنام قربك دون خوف، كعصفورٍ وضع رأسه في راحة يدك، وصدّق أن قبضتك لن تُطبق عليه.
ذلك التصديق… هو جوهر الثقة، لا يُشترى، ولا يُستعار، بل يُنتزع انتزاعًا من تربة القلب، ويُروى بالصدق، وينمو بالصبر، ويموت إن لم يُحمَ من الظنّ والخذلان.

وأنتم الذين خذلتم الثقة، لا تدعوها تتساقط من أيديكم كما يتساقط الندى عن ورقة غصن في مهبّ الريح. لا تلهوا بها كما تلهو الرياح بأوراق الخريف، ظانّين أنكم قادرون على إعادتها إلى الشجرة بعد أن غادرتها. فالثقة إذا غابت، لا تعود كما كانت، وإن عادت، تعود بنقصٍ لا تداويه الكلمات الطيّبة، ولا ترمّمه الاعتذارات الندية. إنها مثل جدول ماءٍ رقراق غيّره الحجر، يظل يجري… لكن صوته يتغير، ونقاءه يشوبه شيءٌ لا يُرى… بل يُحسّ.

لا تطلب من أحد أن يثق بك إن لم تكن مستعدًا أن تُصبح مرآته حين يضع وجهه بين يديك. ولا تمنح ثقتك إلا إن كنت تملك القدرة على احتمال ما بعد الخذلان، فالثقة لا تُمنح إلا لمن أثبت أنه يعرف ثمنها… ويخشاه.

لا تُبنَى العلاقات على المجاملة، ولا تُزرَع الثقة في أرضٍ لم تُحرث بالصدق. لا توزّعوا "أثق بك" كما تُوزَّع الابتسامات العابرة على وجوه لا نعرف ما تخبئه. دعوا هذه الجملة تحتفظ بهيبتها، اجعلوها ملحمة تُولد فقط حين ترتجف الأصابع، وحين تهدأ العواصف في صدوركم، لا حين يُملى عليكم أن تقولوا شيئًا. لتكن "أثق بك" قرارًا من نور، لا يُقال إلا حين تضيء الروح من الداخل، وتوقن أن هذا القول، ليس فقط وعدًا… بل عهد لا يُنكث.

الثقة… ليست كلمة!، إنها وطن؛ ومن يخون الأوطان، لا يُسامَح؛ فالثقة، حين تصير وطنًا، يصير الخذلان منفى!، وليس في المنفى دفءٌ… ولا عودة لمن فقد بوصلته.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الأربعاء، 4 يونيو 2025

رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة!

 
رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة!

في زحمة الحياة، حيث تتهاوى الأحلام كأوراق الخريف على صخور الواقع القاسية، نجد أنفسنا نمدّ أيادينا إلى الآخرين، لا كمنقذين أشداء، بل كعطاشى إلى قطرة من المعنى في صحراء الوجود. جبر الخواطر ليس بذلة نخيطها لستر عورات الآخرين، بل هو رداء نلفّ به جراحنا التي لم تجف بعد. إننا حين نهمس بكلمة عزاء في أذن منكسر، فإنما نهمس في سراديب أعماقنا: "ها أنا ذا، ما زلتُ قادراً على الإحساس، ما زال قلبي ينبض بالحياة".

في هذه اللحظات، يصبح العطاء كالمرآة القديمة في القصور العتيقة، تظهر الصورة مشوّشة، متكسرة الأطراف، لكنها تبقى صادقة في انعكاسها، أكثر صدقًا من كل المرايا الحديثة المصقولة. نرى فيها وجوهًا نحسبها للآخرين، فإذا بها وجوهنا نحن، مكلومةً ولكنها لم تزل قادرة على البسمات. 

إننا نلمس جراح الآخرين بأصابع مرتعشة، كمن يبحث عن نبض الحياة في صمت الوجود. تلك اليد الممدودة ليست سوى جسرٌ من إنسانية إلى إنسانية، حيث نلتقي في منتصف الطريق، نحن الباحثون عن معنى في ظلمات الدروب، اخترنا أن نكون نوراً لبعضنا في هذا المسير الوعر.

وحين نلتقي بإنسانٍ تحطم كزجاجَةِ العاصِفَة، ونلمحُ كيفَ تُعيدُ كلمَاتُنَا البسيطةُ تشكيلَ شظاياه، فإننا - في اللحظةِ ذاتِها - نلتقطُ قطعَنا المُتناثرةَ من على الأرض. كلُ همسةِ دعمٍ وجبرٍ تخرجُ من بين شفاهنا كالدخانِ في يومٍ بارد، ليست سوى محاولةٍ لتدفئةِ أيدينا نحنُ أولاً!، وتلكَ النظرةُ الدافئةُ التي نمنحُها ليست إلا مرآةً نرى فيها وهجَ إنسانيتنا قبلَ أن تنطفئ. 

إنّ القوةَ التي نزرعها في الآخرينَ حين نرفعهم من كبوتهم، ما هي إلا ضياءٌ من مصباحٍ أخفيناه في زوايا أرواحنا. نراهم ينهضونَ كالسنابلِ بعدَ المطر، فتنكشفُ لنا فجأةً تلك البذورُ الغافيةُ في تربتنا، ونتعرفُ إلى قدرتنا على الانتصابِ أمامَ أعاصيرِ الدهر. وهكذا يتحولُ جبرُ الخواطرِ إلى مواءمةٍ سريةٍ بين جُرحين: جرحٌ يبحثُ عن مغفرةٍ في منحِ العطاء، وجرحٌ يبحثُ عن خلاصٍ في قبولِ العون. 

إنها رقصةُ الأرواحِ الواهنةِ التي تتدافعُ في الظلام، كلٌ منها يحملُ شمعةً صغيرةً ليضيءَ للآخرِ درباً، وهو يعلمُ أن هذه الشعلةَ قد تنطفئُ في أيِّ لحظة!، لكننا نرقصُ معاً، لأننا نعرفُ أن الضوءَ الحقيقيَّ ليس في لهيبِ الشمعة، بل في تلكَ اللحظةِ العابرةِ التي تتلامسُ فيها الأيدي المرتعشةُ في العتمة.

لكنْ، في أعماقِ هذا الحوارِ الهادئ، يتربصُ خوفٌ أشبهُ بظلِّ الساعةِ الرمليةِ حينَ تقتربُ حباتُها من النفاد. خوفٌ لا يعترفُ بهِ العطاءُ الظاهرُ، لكنه يختبئُ بينَ طياتِ كلِّ مواساةٍ، كظلِّ ورقةِ خريفٍ تتشبثُ بالغصنِ قبل السقوط. نحنُ لا نمدُّ الأيدي لأننا شجعان، بل لأننا نرتعبُ من فكرةِ العيشِ في عالمٍ يتحولُ إلى صحراءٍ قاحلةٍ من الأنانيّة. 

إنّ تلكَ الكلمةَ الطيبةَ التي نهمسُ بها في أذنِ المنكسر، ما هي إلا تعويذةٌ نرددها لطردِ أشباحِ القسوةِ التي قد تلاحقنا غداً. والصمتُ الحانيُّ ليس فراغاً، بل هو كالفراغِ بينَ نجومِ المجرة، يبدو خالياً لكنه ممتلئٌ بأسرارِ الوجود. إنه اللغةُ الوحيدةُ التي تفهمُ عظمةَ الألمِ دونَ حاجةٍ لترجمة. 

في تلكَ اللحظاتِ المقدسةِ حيثُ يتوقفُ الزمنُ عن الجريان، لا يحتاجُ الجريحُ إلى خطبٍ منمقةٍ تشرحُ لهُ سببَ آلامه، بل يحتاجُ إلى صمتٍ يعانقُهُ كأمٍّ تحتضنُ طفلها المُنهار. صمتٌ يقولُ له: "جراحُك مشروعةٌ كالنسيمِ والعواصف، ولنْ أطلبَ منكَ أن تلتئمَ قبلَ أوانِكَ". 

إننا نقدمُ العونَ لأننا نعرفُ أننا قد نكونُ غداً في مقعدِ المُحتاج، لكنّ الحقيقةَ الأعمقَ هي أننا نقدمُه لأننا لا نستطيعُ العيشَ في عالمٍ لا مكانَ فيهِ للرحمة!، وكما يُقال، فإنّ آخرَ شجرةٍ تُقطعُ هي تلكَ التي تجلسُ في ظلها لتستريح.

وفي صميم هذا المشهد الإنسانيّ الرهيف، يعلو العطاءُ الروحيّ كشجرةٍ باسقةٍ في صحراء الوجود، جذورها ممتدةٌ في أعماق الضعف الإنسانيّ، وأغصانها تتلمّسُ سماءَ المطلق، لكنّ هذه الشجرةَ العظيمة، في حقيقتها، ليست سوى بذرةٍ صغيرةٍ ندفنها في تربةِ الغيب، لا نعلمُ أيّ ريحٍ ستأخذُها، أو في أيّ أرضٍ ستستقرّ، أو إن كنّا سنجني ثمارَها يوماً.

نحن ننثرُ كلماتِ العزاءِ كالفلاحِ الذي يبذرُ في أرضٍ لا يملكها، وقد لا تطأها قدماه مرةً أخرى. نروي جراحَ الآخرينَ بدموعِ التعاطف، كمن يسقي غرساً لن يجلسَ في ظلّه. لكنّنا نستمرّ، لأنّنا نعلمُ - في أعماقنا - أنّ الحياةَ ليست سوى دَينٍ معنويٍّ متبادَل، تُسدّدُه الأقدارُ بطريقتها الغامضة. قد لا يعودُ إلينا العطاءُ من نفسِ اليدِ التي منحناها، لكنّ الكونَ العظيمَ يرسلُ إلينا العونَ في اللحظةِ المناسبة، من حيثُ لا نحتسبُ ولا ننتظر.

وهنا يكمنُ السرّ الأعمق: إنّ التواضعَ الحقيقيّ في العطاءِ ليس اختياراً أخلاقياً فحسب، بل هو اعترافٌ صامتٌ بحاجتنا الأزلية. حين تمدّ يدكَ لمساعدةِ آخر، فأنت في الحقيقةِ تبحث عن يدٍ أخرى تمسكُك حين تتعثر!، إنّه ذلك التبادلُ الخفيّ الذي يجعلُ من كلّ عطاءٍ أخذاً، ومن كلّ أخذٍ عطاءً. كالبحرِ يعطي النهرَ ملوحتَه، ويأخذُ منه عذوبتَه، في عمليةٍ لا تنتهي من التكاملِ والتبادل.

فنحنُ لا نعطي لأنّنا نملك، بل نعطي لأنّنا نحتاج. نعطي لأنّ العطاءَ هو الطريقةُ الوحيدةُ التي نتأكّدُ بها أنّنا ما زلنا أحياءً، وما زلنا قادرينَ على الشعور. وفي هذه الحلقةِ المقدّسةِ من الأخذِ والعطاء، نكتشفُ المعنى الحقيقيّ للإنسانية: أن نكونَ جسراً يعبرُ عليه الآخرون، بينما نحنُ أنفسُنا عابرون.

وفي النهاية، حين ننظرُ بعينِ القلبِ إلى تلكَ الوجوهِ التي سندناها، لا نرى سوى شظايا من مصائرنا المبعثرة. هم ليسوا آخرين، بل هم ذواتٌ محتملةٌ لم تولد بعد، أو ذكرياتٌ عن أنفسٍ كناها ذات يوم. في أعينهم الرطبة، نقرأُ سطراً من مخطوطةِ القدرِ التي لم تُكتب بعد، كأنما الحياةَ تُمسكُ بيدينا لنخطَ معاً حكايةً واحدةً بمدادِ الألمِ والأمل.

إنهم مرايا متحركةٌ لحالاتنا الإنسانية، تذكرنا بأن الخيطَ الذي يربطُ الأرواحَ لا ينقطعُ حتى في أحلكِ الليالي، وإنما يختبئُ كالنجمِ خلفَ السحاب، ينتظرُ اللحظةَ المناسبةَ ليلمعَ من جديد، وربما كانت هذه هي الكنزُ الحقيقيُ الذي نكتشفه في رحلةِ العطاء: أن كلَ كلمةِ عزاءٍ نهمسُ بها تتحولُ إلى صدىً يترددُ في وديانِ أرواحنا حين نكونُ نحنُ المحتاجين.

تلك اليدُ التي نمدها اليوم، ليست سوى جسرٍ نبنيهِ لأنفسنا غداً، وفي اللحظةِ التي نحتضنُ فيها أحزانَ الآخرين، فإننا نكتبُ رسالةً سريةً إلى ذاتنا المستقبلية، تقول: "ها قد رسَخَ في الكونِ شيءٌ من اللطفِ لأني زرعتُه ذات يوم، فثقي بأن الأرضَ ستردُ لكِ بعضَ ما بذرتِ". 

وهكذا، في هذه الدائرةِ المقدسةِ من العطاءِ والأخذ، نكتشفُ أننا لسنا سوى حباتِ مسبحةٍ واحدة، تتناقلُ الأيدي الدعاءَ من خلالها، في سلسلةٍ لا تنتهي من الألمِ والتعزية، حتى تصلَ إلى يدي القدرِ نفسه!، ففي النهاية، ليس هناكَ من هو معطٍ أو آخذ، بل نحن جميعاً مسافرون في قطارٍ واحد، نتبادلُ الأماكنَ والأدوار، لكننا في الرحلةِ ذاتها.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الثلاثاء، 3 يونيو 2025

ما لا يمكن أن تكتبه الآلة: بين لهب الشعور وبرودة الشرارة!

 
ما لا يمكن أن تكتبه الآلة: بين لهب الشعور وبرودة الشرارة! 

في غابةٍ هادئةٍ تُغني فيها الأشجار بصمت، وتتموّج فيها الأعشاب كما لو كانت تهمس بشيءٍ ما، تتدلّى الظلال من أعمدة السكون، كما لو أنها تتأمل، لا تستريح. هناك حيث اللغة كانت طيرًا، والفكرة نبعًا، والقلم مجذافًا في نهر داخلي، نشأت القصيدة الأولى. هناك وُلد الإبداع بلا محركات، بلا خوارزميات، بل من حاجة الإنسان إلى أن يقول ما لا يُقال، ويبوح بما لا يُبوح.

لم تكن اللغة مجرد أداة للتواصل، بل طقسًا من طقوس النجاة. نكتب لأننا نخاف من الفقد، نرسم لأننا نخاف من النسيان، نؤلف لأننا لا نحتمل الصمت. هكذا بدأ الإنسان طريقه في الحفر داخل الجدران بالكلمات، يرسم بها كهوفه، ذكرياته، صراخه الداخلي، وأحلامه.

ثم جاء الذكاء الاصطناعي. وُلدت آلة تكتب، وتؤلف، وترد، وتنظم، وتُبهر. لكنه لا يعرف كيف يولد في لحظة انهيار، أو كيف يترنّح بين سطر وسطر. هو لا يُضيء الغرفة، لكنه يقدّم لك المصباح. يطلق شررًا يخطف البصر، لكن دون أن يترك حرارة في الأصابع. يُشبه البخور الذي يملأ الهواء، لكنه لا يترك أثرًا على الجدران… أو في الذاكرة.

هو آلة بارعة، لكنه لا يتعرق حين يكتب، لأن جسده لا يحمل ندبة. لا يتردد، لأن ذاكرته لا تعرف لحظة انهزام. ونحن نكتب بندوبنا، نختار الحروف كما نلمس الجرح: بحذر، وبشغف. هو يكتب باحتمالات النجاح، ونحن نكتب باحتمالات الانكسار. هو لا يحلم، لا يتعثر في المعنى، لا يغفو على حرف، ولا ينتشي بدمعة نزلت أثناء كتابة مقطع.

هو لا يعرف ماذا يعني أن تكتب نصًا ثم تعيد قراءته فتجد فيه دمعةً لم تنتبه أنها سقطت. لا يدرك لحظة أن يفضحك النص أمام نفسك، أو أن تشعر بالخجل من فكرة خرجت منك دون إذنٍ واضح.

لذلك، فإن النصّ الذي يولد من خلية إنسانية يحمل تلك "الندبة الجميلة" التي لا يمكن استنساخها. النص الذي لا يُغنيك فقط، بل يجرّك من رقبتك لتواجه نفسك، وتبكي، أو تبتسم، أو ترتبك، هو نص لا يُولد من سيليكون، بل من روح. الذكاء الاصطناعي يكتب مثل آلة نفخ تصدر نغمة، أما نحن فنكتب مثل من ينفخ في الناي بقلبه كله.

الآلة لا تشتاق، لا تُصاب بنوبة تأمل في منتصف الجملة، لا تنظر إلى السقف وهي تكتب وكأنها تنتظر إجابة من الغيب. لا تتذكر أمًا ماتت، ولا صديقًا غاب، ولا حبًا خسرته ذات رسالة. لا تهرب من الكتابة لأنها خائفة من الجواب، ولا تعود إليها لأنها اشتاقت. إنها تكتب لأننا أمرناها بذلك، لا لأنها لا تستطيع الصمت.

هي لا تعرف ما يعنيه أن تكتب وأنت ترتبك من الحقيقة، أو تتردد من سطر يخونك علنًا. لا تحذف جملة لأن فيها أكثر مما تجرؤ على الاعتراف به.

هي لا تخطئ في الحب، ولا تغار، ولا تكتب سطرًا ثم تمحوه لأنها شعرت بالذنب. لا يهمها إن كان هذا التعبير يشبه جرحًا قديمًا في صدر قارئٍ بعيد. لا تصمت لثانية واحدة بعد النقطة، تفكر في تأثيرها، أو تتساءل: هل بالغت؟ هل جرحت؟ هل كنتُ حقيقيًا كفاية؟

هل يعرف الذكاء الاصطناعي كيف يُخفي رعشة اليد عند كتابة اعتراف؟ هل يفهم ارتباك الفاصلة حين تتوسط جملتين لا تجيدان الفراق؟ هل يمكن لشريحةٍ معدنية أن تفهم ما معنى أن تتردد بين "أحبك" و"أحببتك"؟ أو أن تكتشف متأخرًا أن الصياغة الأقرب إلى القلب كانت التي لم تكتبها؟

هل يهم الآلة إن خان التعبير؟ هل تراجع الجملة لأنها تشبه نبرة من كانت تحب؟ هل تخجل من الفكرة لأنها تُشبهها أكثر مما ينبغي؟ هل تخاف أن تُفهم بطريقة لا تحتملها؟

إن الفرق لا يكمن فقط في النتيجة، بل في النية. بين من يُنقّط السطور بعينٍ باردة، ومن يكتب وكأنه يُصلح شرخًا داخليًا… يكمن الفرق كله.

صحيح أن الآلة تكتب، وتنتج، وتبدع على طريقتها. لكن كل ما تفعله هو تقديم اقتراح بارع، لا اعتراف صادق. هي لا تخجل، لا تتردد، لا ترتجف حين تختار كلمة. لا تهمها الذكرى، ولا يؤلمها صوت. تكتب، لكنها لا تخاف من الحقيقة، ولا تتفاوض مع الذاكرة، ولا تكذب لتنجو من نزيفٍ داخلي.

ولهذا، ستبقى الشعلة في يد الإنسان. لا لأنه الأقوى، بل لأنه الأشدّ تأثرًا… والأثر حين يتلاقى مع الشغف، يولّد شرارة اسمها: الإبداع.

جهاد غريب 
يونيو 2025

رحلة الحلم والأجر الروحي!

 
 رحلة الحلم والأجر الروحي!
(نص إبداعي قصصي ذو طابع تأملي)
 
البداية الغريبة والأسئلة التي لا إجابة لها! 

الحياة تُخبئ بين طياتها لحظاتٍ تُقلب تصوّراتنا رأسًا على عقب: هل الواقع هو ما نراه بأعيننا، أم أن هناك عوالمَ أخرى تختبئ خلف حجاب الأحلام؟ وهل للأحلام معنى أعمق مما نعتقد؟ أحيانًا، نستيقظ من حلم غريب، مليء بالرموز والأحداث التي تبدو غير منطقية، لكنها تترك فينا أثرًا ينحتُ نفسه في وجداننا. قد تتلاشى تفاصيل الحلم من ذاكرتنا، لكنّ أثره يظلّ كطيفٍ عالقٍ في النفس، يُهمس بأسئلةٍ لا نجد لها جوابًا.

في أحد الأيام، استيقظت من حلم غريب، شعرت بأنه أكثر من مجرد حلم عابر. كان حلمًا مليئًا بالأحداث الغريبة، والأماكن التي لم أزرها من قبل، وأشخاص لم أعرفهم، لكنهم في الحلم كانوا جزءًا من حياتي. قررت أن أكتب هذا الحلم، ليس فقط لتوثيق ما حدث، بل لأبحث عن المعنى الخفي الذي قد يكون مختبئًا وراء هذه الرحلة الغريبة.

هل يمكن أن تكون الأحلام وسيلة لفهم أنفسنا بشكل أفضل؟ وهل يمكن أن نُكافأ على الخير الذي نقدمه، حتى لو كان في عالم الأحلام؟ هذه الأسئلة كانت تدور في ذهني عندما بدأت أكتب هذه القصة. قصة عن رحلة غريبة إلى مطعمٍ فارغ، وعن أشخاصٍ لم أعرفهم، لكنني شعرت بأنني يجب أن أساعدهم. قصة عن الخير الذي نقدمه دون انتظار مقابل، وعن الأجر الروحي الذي قد نحصل عليه، حتى في أحلامنا.

الرحلة الغامضة!
لم يكن ذلك اليوم يختلف عن غيره في الظاهر، لكنّ القدر كان ينسج خيوطًا لم أكن أعرفها. كنت أقود سيارتي في شوارع المدينة المألوفة، وأفكر في أمور الحياة الروتينية وفجأةً، توقّفت سيارتي في منتصف الطريق كما لو أن قوةً غامضةً أحكمت قبضتها على السيارة!، حاولت إعادة تشغيل المحرك، لكن دون جدوى. نظرت حولي فوجدت نفسي في مكان غريب، لم أكن أعرفه من قبل. انسحب الضباب الشاحب كستارةٍ على زجاج السيارة، محوّلاً الشوارع المألوفة إلى لوحةٍ غريبةٍ، وكأنّي دخلت فجأةً في عالمٍ موازٍ. 

لم أكن وحيدًا. رأيت شقيقتين من شقيقاتي تقفان على جانب الطريق، وكأنهما تنتظرانني. لم أكن أتوقع رؤيتهما هنا، لكننا جلسنا معًا وبدأنا نتحدث. الحديث كان غريبًا، دار حول أشياء لا أفهمها: أغراض قديمة، قطع بلاستيكية، وسلع متنوعة. كنا نتحاور حولها وكأننا نتقاسمها، رغم أنني لم أفهم تمامًا ما الذي يجري.

كان معي طفل صغير، لم يكن ابني، لكن في هذا الحلم شعرت بأنه ابني. وكانت هناك امرأة بجانبي، ليست زوجتي، لكنها في الحلم كانت زوجتي. شعرت بالارتباك، لكنني قررت أن أستمر في هذه الرحلة الغريبة. أخذتهم جميعًا في السيارة، وقررت أن أقود إلى بيت إحدى شقيقاتي. لكنها فجأة غيرت رأيها وقالت: "لا، أريد أن نذهب إلى المطعم". 

نظرت إليها متسائلًا، فأضافت: "هذا المطعم جيد، وفيه مأكولات لذيذة، وأعتقد أنه سيناسبك". كنت أعرف هذا المطعم من قبل، لكن في الحلم بدا مختلفًا، وكأنه مكان جديد. قبل أن نصل، لاحظت أن السيارة كانت تسير بعكس اتجاه الطريق لفترة قصيرة، لكنني صححت المسار بسرعة والتزمت بالطريق المؤدي إلى شمال المدينة.

الصعود إلى المطعم الغامض! 
بعد أن غادرنا المكان الذي كنا نتحدث فيه، عدت إلى السيارة وبدأت القيادة مرة أخرى. كنت أسير على الطريق الرئيسي للمدينة، وهو طريق مألوف بالنسبة لي، لكن شيئًا ما كان يشعرني بأن هذه الرحلة مختلفة. كانت السماء تميل إلى اللون البرتقالي، وكأن الشمس على وشك الغروب، رغم أنني كنت أعرف أن الوقت لم يكن متأخرًا إلى هذا الحد.

ثم وصلت إلى مخرجٍ على يمين الطريق. لم أكن أتذكر هذا المخرج من قبل، لكنني قررت أن أسلكه. بدأت السيارة تصعد بشكل تدريجي، وكأننا نتجه إلى منطقة مرتفعة. كانت مسارات الطريق ضيقة نوعًا ما، محاطة بأشجارٍ خضراء تزيد من شعور الغرابة. كلما صعدنا أكثر، بدأت أرى المدينة من الأعلى، وكأننا ننظر إليها من على قمة جبل.

أخيرًا، وصلنا إلى الهضبة. كانت هذه الهضبة مرتفعة جدًا، وتطل على المدينة بأكملها. الناس هنا يفضلون بناء المطاعم والمقاهي في مثل هذه الأماكن بسبب الإطلالة الجميلة. كان الجو هادئًا، والهواء منعشًا، وكأننا في عالم آخر.

رأيت مطعمين كانا يقعان على صفحة الجبل، متجاورين، ولكنهما يبدوان مختلفين تمامًا. أحدهما كان مزدحمًا بالزبائن، بينما الآخر كان فارغًا تمامًا. كان المطعم المهجور يُشبه جثةً متحللةً من زمنٍ مضى، تُخفي وراء جدرانها المتشققة قصصًا دفنتها الغبار، بينما المطعم الآخر كان يعج بالحركة والنشاط.

أوقفت السيارة بالقرب من المطعم الفارغ، وخرجنا جميعًا. نظرت إلى المطعم الفارغ، وكانت واجهته باهتة، وكأنها لم تُنظف منذ أشهر. دخلنا إلى الداخل، وكان المكان مظلمًا وخاليًا من أي علامات للحياة. لا طاولات، ولا طعام، ولا زبائن. في الزاوية، جلس الرجل المسنّ كحارسٍ لأطلالٍ لم يعد أحدٌ يذكرها. 

اقتربت منه وسألته: "ما الذي حدث هنا؟ لماذا توقفتم عن العمل؟" فأشار بيده إلى سيدة كانت تقف في الظل، وإذا بها زوجته. بدأت أحادثها، وسألتها: "لماذا استسلمتم هكذا؟، لماذا لم تعد تقدّمون خدماتكم؟" 
– سألتها بصوتٍ يختلط فيه التعاطف مع التحدّي. 
فأجابت بصوتٍ يكسوه الإعياء: "الجار... - المطعم المجاور - استحوذ على كل الزبائن. لم يعد أحد يأتي إلينا، وكنا نخسر الكثير، فقررنا التوقف". 

نظرت إليها محاولًا إلهامها بعض الأمل، وقلت: "لماذا تستسلمون؟ الاستسلام خيانةٌ لأنفسكم! أليس من الأجدر أن تحاربوا؟". وفي خضمّ حديثي معها، قطعَ ضجيجٌ مفاجئٌ تركيزي – إذ كان الطفل الصغير الذي كان معي بدأ يلعب ويصدر أصواتًا عالية، مما أثار بعض الضجيج في المكان. كنت أشعر بعدم الارتياح، لكنني كنت مصممًا على فهم ما يجري.

التفاوض من أجل العدالة! 
بعد محاولتي إقناع السيدة بأن تصمدوا وتعيدوا فتح المطعم، بدأت أفكر في حل آخر. لماذا لا أزور المطعم المجاور وأتفاوض مع صاحبه؟ قررت أن أذهب إليه وأعرض عليه فكرة توسيع مطعمه ليشمل المطعم الفارغ. دخلت المطعم المجاور، وكان مزدحمًا بالزبائن. اقتربت من صاحب المطعم، وهو رجل في منتصف العمر، يبدو عليه النجاح والثقة.

قلت له: "أنا هنا لأعرض عليك فكرة قد تفيدنا جميعًا. لديك مطعم ناجح، والزبائن يتدفقون عليه. لكن جارك، المطعم الفارغ، يعاني. لماذا لا تضمه إلى مطعمك كملحق إضافي؟ يمكنك استخدامه لتوسيع طاقتك الاستيعابية. نحن سنعطيك هذا المطعم كملحق، وبالمقابل، نتفق على نسبة معينة من الأرباح لكل طاولة تشغلها فيه".

نظر إلي الرجل متفكرًا، ثم قال: "هذه فكرة مثيرة للاهتمام. لدي بالفعل 25 طاولة، ويمكنني زيادة العدد إلى 40 أو 45. لكن ما هي النسبة التي تقترحها؟". أجبت: "أقترح أن تحصل على 70% من الأرباح، ونحصل نحن على 30%". 

هزّ رأسه مُتأمّلًا: "فكرة جريئة... لكنّ 70% لي مقابل 30% لهم؟" – ثم أضاف بذهنية التاجر المحنّك: "أنا أتحمّل المخاطرة كاملةً، من موظفين إلى مواد أولية. أقدم الخدمة الكاملة، أما هم فكلّ ما يقدّمونه هو أربعة جدران وطاولات فقط!، أعتقد أن هذه النسبة عادلة للطرفين". 

هززت رأسي موافقًا: "إذن نبدأ العمل غدًا؟"
بعد أن وافقنا على النسبة، بدأنا في التخطيط للتفاصيل، فاتفقنا على أن نزور البلدية لتوثيق الاتفاقية، وأن نبدأ العمل رسميًا. شعرت بارتياحٍ غامر، فقد وجدنا حلًا يرضي جميع الأطراف ويعيد الحياة إلى المطعم الفارغ.

الخدمة المجانية والأجر الروحي! 
خرجنا من المطعم، وأنا أفكر في كل ما حدث. كان الحلم غريبًا، مليئًا بالرموز والأسئلة التي لم أجد لها إجابات. قررت أن أعود إلى السيارة، لكنني وجدت أن الطريق الذي جئت منه قد اختفى. بدأت أشعر بالقلق، لكن الطفل الصغير أمسك بيدي وقال: "لا تقلق، أنا معك". 

نظرت إليه، وكأنه يعرف شيئًا لا أعرفه. ثم فجأة، استيقظت من الحلم. كنت في سريري، والصباح يطل من النافذة. لكن الشعور الغريب الذي تركته الرحلة لم يختفِ. قررت أن أكتب هذه القصة، ربما تكون بداية لشيء أكبر.

بعد أن استيقظت، بقيت أفكر في كل ما حدث في الحلم. لماذا قدمت هذه الخدمة لأشخاص لا أعرفهم؟ هل سأحصل على أجرٍ ما، حتى لو كان مجرد حلم؟ 

في حياتنا الواقعية، نقدم أحيانًا خدمات مجانية للآخرين دون أن نطلب مقابلًا ماديًا. قد نقدم النصيحة، أو نساعد في حل مشكلة، أو نقدم الدعم المعنوي. ولكن هل هناك أجرٌ روحي أو أخلاقي نكتسبه من هذه الأفعال؟ 

في الحلم، قدمت خدمة لأصحاب المطعم الفارغ ولصاحب المطعم الناجح. لم أكن أعرفهم، ولم أكن أتوقع أي مقابل. لكنني شعرت بالرضا عندما وجدت حلًا عادلًا يعيد الحياة إلى المطعم الفارغ ويحقق المنفعة للجميع. 

هل يُعتبر الخير في الأحلام كالخير في اليقظة؟ قد لا نجد إجابةً قطعية، لكن حلمي علّمني أن العطاءَ نورٌ مزدوجُ الاتجاه: يُضيءُ ظلامَ المتلقي، ويرتدُّ دفئًا إلى روحِ الواهب. حتى في العالم الخياليّ، تظلُّ قيمةُ الفعلِ في نيّته لا في مكانه. فحين نصنعُ نورًا، تتراجعُ عتمةُ ظلالنا الواقعية. وإنْ لم يكُنْ ثمّة ضمانٌ لمكافأة، فهذا هو جوهرَ الأجر الروحي: شعورٌ غامرٌ بأنّ وجودنا - ولو للحظة - أصبحَ أكثرَ اتساعًا وعُمقًا.

في الختام، ذهبَ الحلمُ وبقيَ الأثر. تبيّنَ لي أن الخيرَ يتخطى حدودَ الزمان، وأننا لا نصنعُ الخيرَ مقابلَ مكافأةٍ ملموسة، بل لأنّنا - وبطريقةٍ ما - نُصلحُ جزءًا من أنفسنا عندما نُصلحُ للآخرين. تلك هي المعادلةُ الخالدة: كلّما منحنا بلا حساب، اكتشفنا أنّ السعادةَ الحقيقيةَ كانت مخبأةً في زوايا ذلك العطاء. فماذا يهمُّ بعد ذلك إن كان الفعل في حلمٍ أم في دنيا الواقع، إذا كان كلاهما يزرعُ نورًا؟

جهاد غريب 
يونيو 2025

النصر الذي لا يُعلن.. في فلسفة الانسحاب الواعي!

 
النصر الذي لا يُعلن.. في فلسفة الانسحاب الواعي!

القوة ليست قبضة تُحطّم، بل كفٌّ تتحسس نبض الضعف قبل أن ينكسر، وليست في رفع الصوت، ولا في طول البقاء، بل في البصيرة التي ترى الهاوية وهي لا تزال فكرة عابرة، كشمعةٍ على وشك الانطفاء! تُنقذها لمسة رحيمة قبل أن ينفد شمعها.

ليست كلّ المعارك جديرة بخوضها، وليست كلّ المواقف تستحق الدفاع أو الهجوم؛ فبعض الانتصارات تصنعها خطوة إلى الوراء، وبعض الانهيارات تبدأ بكلمة لم يُفكر فيها صاحبها.

القوة الحقيقية أن تنسحب حين ترى الضعف، لا حين ترى الهزيمة، وأن تلتقط رعشة في العين، أو اختناقًا في الصدر، وأن تقرأ في ملامح الآخر ما بين الرجاء والانكسار، وتختار الصمت المُتّزن لا العتاب المؤلم، الانسحاب النبيل لا المواجهة التي تخلّف شروخًا طويلة.

الكلمة، وإن بدت صادقة، قد تُشبه الخبز الجافّ: تُشبع الجوع، لكنها تجرح الحلق، أما القوة فهي أن تحبس تلك الكلمة في حنجرتك، لا جبنًا، بل كي لا تتحول إلى شظيّة في صدر من لا يستحق.

ما أتعس الانتصار إن جاء على هيئة جسرٍ من رفات المشاعر، وما أقسى الصدق حين يُلقى في وجه هشّ، لم يكن مستعدًا إلا لمعونة لا لمواجهة، فليست البطولة في أن تقول كل ما تعرف، بل في أن تعرف متى لا تقول. قال أفلاطون: "الحكمة تبدأ عندما نتعلم أن بعض الانتصارات لا تستحق أن نعيشها"

القوي ليس من يُنكر هشاشته، بل من يعرفها في نفسه ويرى انعكاسها في عيني غيره، كما يرى البحّار التغيير في لون الأفق فيرفع الشراع قبل أن تهب العاصفة. من يقدر على مغادرة ساحة النقاش وهو لا يزال واقفًا، دون أن يُسقط أحدًا، هو من امتلك الحكمة لا القوة فقط، وهو من أدرك أن الكرامة لا تُستعاد بإثبات التفوق، بل بحمايتها من الجراح غير الضرورية.

الحرية، إن لم ترعَ مشاعر الآخرين، تصبح سيفًا يقطع كل شيء، حتى الرقة في القلوب؛ والمواجهة، إن لم تُخضعها البصيرة، تتحول إلى مرآة لانتصارات فارغة لا تُنقذ العلاقة بل تُخرّبها. أحيانًا، تكون الكذبة البيضاء، أو المجاملة الرقيقة ليست خيانة للحقيقة، بل نوعًا من الماء المُحلّى يُسكت عطشًا مريرًا في روحٍ لا تحتمل صدمة الحقيقة الجافة.

في العلاقات، كما في الحروب، لا النصر لمن يصمد حتى النهاية، بل لمن يدرك أن النهاية قد تأتي قبل آخر جملة، وأن بعض التراجع هو حفظ لما تبقى من الأرواح. الانسحاب في ذروة الوعي يشبه الوردة التي تذبل بصمت كي لا تُرغم الربيع على مشهد موتها!، إنه انتصار لا يُعلن، لكنه يُحفر في الذاكرة كوصيّةٍ أخيرة للعقل: لا تُحوّل هشاشة الآخرين إلى ساحة لاختبار قوتك.

ومن لا يعرف كيف ينسحب بلطافة، لن يعرف يومًا كيف يربح بكرامة، لأن النصر الحقيقي لا يُقاس بمن بقي واقفًا، بل بمن اختار أن لا يُسقط أحدًا. النصر هو أن تترك المكان وقد حافظت على كرامة الجميع، كعابرٍ يغلق الباب بهدوء، وكان بمقدوره أن يصرعه غضبًا.

الأرض التي تتراجع عنها اليوم بوعي، قد تصبح غدًا أرضًا مشتركة تُزرع فيها بذور السلام؛ والقوة التي تمنعك من الكلام الجارح، هي ذاتها التي تمنحك القدرة على الترميم بالصمت، وعلى الانتصار بدون إعلان، لأن أعمق الانتصارات، تلك التي لا تُرى، ولا تُصفق لها الجماهير، بل تهمسها الأرواح الهشّة في لحظة نجاة: "لقد مرّ هذا الألم... دون أن يتحوّل إلى جرح".

ربما لم نكن بحاجة إلى كل هذه الكلمات... فالصمت كان كافيًا، والغياب كان أبلغ، والانسحاب كان هو الحل الوحيد الذي لم نجرّبه بعد، لكننا اخترنا أن نكتب القصة حتى النهاية، كي نكتشف أن النهاية الحقيقية كانت تلك التي لم نكتبها.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الاثنين، 2 يونيو 2025

الرفيقة الصامتة التي لا تغادر!

 
الرفيقة الصامتة التي لا تغادر! 

كانت تجلس على المقعد المقابل، كما لو أنها تعرفني منذ سنوات طويلة، أكثر مما أتذكر أنا نفسي؛ بثوب رمادي، ثقيل كالضباب الذي لا يعرف الزمن، يغلفه صمت عتيق، وصوتها ناعم كالهمس الأول، لأول قطرة مطر تهبط على سقف متصدّع في شتاء جديد، يحمل في طياته وعدًا لم يولد بعدْ.

لم أكن قد دعوتها، ولم أرَ في عينيها أثر دعوة، لكنها جاءت بلا استئذان، مثل ضيف غامض يطرق باب الروح دون سابق إنذارْ.
قالت بهدوء يتجاوز الكلامْ: سَمعتْ أنك تكتب كثيرًا… أخبرني، كيف تكتب كل هذه المقالات ولا تملّ من الورق الأبيضْ؟

ضحكتُ، ضحكة لا تصدر من مزحة أو نكتة، بل من ذلك السؤال الذي لطالما لفتَ انتباهي، كأنها كانت ترجمتْ لصدى داخلي دفينْ.

كنتُ أنا نفسي أتساءله، في كل مرة أواجه الصفحة البيضاء، سواء كانت ورقة حقيقية، أو شاشة تنتظر أن تبوحَ.
كانت أصابعي تلامس لوحة المفاتيح كما لو أنني أطلب من ذاكرة العالم أن تسكب لي كأسًا من الإلهام الذي لا ينضبُ، رغم خشونة السنين التي تعانق أوراقي البيضاءْ.

قلتُ لها وأنا أتطلع إلى الظل الذي لا يتبع خطواتها ولا يرسم ملامحها: لا أكتبُ لأنني أعرف، بل أكتبُ لأنني أريد أن أعرفْ.

أمالتْ رأسها قليلاً، تلك الحركة الصغيرة التي يقوم بها الغرباءْ!، حين يكتشفون أن ما بيننا من عوالم وأفكار ليس كما تصوّروا، وكأنهم يجدون فجأة أن المدى بين الحروف أوسع وأعمق مما اعتقدواْ.

همستْ، وكأنها تحاول أن تخترق الغموض الذي يلفّ حديثنا: قُلْ لي... هل لديك وصفةْ؟

نظرتُ إلى فنجان القهوة الداكن الذي لم أضع فيه سكرًا، ذلك السائل المرّ الذي لا يخفّف حلاوة الكلام، وتذكرتُ كيف بدأتُ الرحلة الأولى، عندما رأيتُ في نبرة عامل النظافة قصة تئن تحت ثقل الأيام، وفي مشادة طفلة صغيرة مع والدتها مشهداً يحبس أنفاس القلب، وفي تنهد امرأة تصعد المصعد، افتتاحية لصمتٍ عميق لم يُكتبْ بعدْ. ومن يومها بدأتُ أفتح أذني لا لما يُقال، بل لما يُخفى بين الكلماتْ.

قلتُ لها أخيرًا، كمن يقطف خلاصة أعوام في سطرٍ واحدٍ: أستمعُ للحياة، قلتُ، الحياةُ تتكلم، لكنها تهمس بصوتٍ خافتٍ. علينا فقط أن نخفضَ صوتَ ضجيجنا الداخلي لنسمعَ ما بين السطورْ.

وإن اختلطتْ الأفكارْ؟ سألتْ، عيناها تلاحقان حركات يدي المرتبكة التي كانت تحاول ترتيب فوضى الأحرف، كمن يلتقط أنفاس الهواء بين أمواج لا تهدأْ. وإن أصبحتْ كمن يحاول أن يقطف الضوء من بين الأمواج المتلاطمةْ؟

ابتسمتُ، وأجبتُ بصوت خافت، كما لو أنني أشاركها سرًا لا يخرج إلا مع نسيم المساء: أضعُ الفكرة في المنتصف، كأنني أرسمُ شمسًا صغيرة على ورقة طفل لا يعرف الخوف، ثم أتركُ لأذرعها أن تمتدَّ ببطء نحو كل الجهات، تتلامس مع الحياة بكل تفاصيلها، مع الذكرى التي تهدهدُ الذاكرة، مع الملاحظة التي تراقب بعينين مفتوحتين، مع سؤال قديم يحفرُ في الأعماق، أو مشهدٍ عابر يلمسُ القلبَ ببرودته أو دفئهْ.

أحيانًا أطرح أسئلة بلا أجوبة. أدوّنها في قوائم كما لو كنت أرسم خريطة طريق، وأحيانًا أتركها تستريح، تنام يومًا أو يومين، حتى تعود إليّ بنَفَس مختلف، وكأنها ولدت من جديد، أكثر نقاءً، أكثر عمقًا. 

رفعتْ عينيها وابتسمتْ، كمن يستدعي ذكرى عزيزة عاشها ذات يوم، وقالت بصوتٍ ملؤه فضول رقيق: وتكتب كل يوم؟

أجبتُ وأنا أراقب ظلّها ينساب على الأرض وكأنه يحكي قصة لا تتبع شمسًا، ليس كل يوم، بل كل لحظة. أكتب وأنا أتكلم مع نفسي بصمت، وأكتب وأنا أراقب الغروب وهو يرسم من قلبي فكرة دافئة، تتلوّن بألوان الغروب الحمراء والبرتقالية. لا أنتظر الإلهام كما ينتظر العطشان المطر، بل أترك نافذتي مشرعة له، إن مرّ رحّبت به، وإن لم يأتِ، صنعت من طيفه ظلالًا تطاردني، وأكملت المسير على وقع خطواتي.

لوّحتْ بيدها في الهواء، كأنها تقاطعني بسرّ لم يكتملْ: وماذا عن المللْ؟ والشتاتْ؟ والأفكار التي تبدأ ولا تُكمل رسالتهاْ؟

تنهدتُ ببطء، كمن يحمل في صدره حكايات عن صراع خفي، وأجبتُ: في قلبي أكثر من مقالٍ واحدٍ. إن مللتُ من واحد، انتقلتُ إلى آخر، كأنني أتنقلُ بين غرف تحمل رائحة مختلفة. أحيانًا يكتبني المقال قبل أن أكتبه، يتسلل إليّ كما يفعل صوت المطر على نافذتي في ليلة هادئة. وأحيانًا نتصارع لأيام، نتبادل الأدوار بين من يكتبُ ومن يُكتب عنهُ. لا أقاتل، بل أتركُ له مساحة للنضج، وأعودُ له حين يطرقُ باب قلبي من جديد، كما يعودُ حبيبٌ قديم ليعتذر بعد غياب طويل.

كان صوتها يخفُّ كأنها ستغيبْ، لكن عينيها ظلتا شاخصتين إليّ، تسألان سؤالها الأخير قبل أن تتلاشى في ظلال المساء: لِمَ تفعل كل هذاْ؟ لِمَ كل هذا الجهدْ؟

نظرتُ إليها كما ينظر الكاتب إلى سطوره بعد أن يضعَ النقطة الأخيرة، تلك اللحظة التي تنسابُ فيها الكلمات إلى هدوء كامن في الروح، فقلتُ لها بهدوء وصدق: لأنني أحبُّ أن أسمع نفسي وأنا أفكر بصوتٍ جميلٍ، لأن الكتابة بالنسبة لي ليست مجرد كلمات تُسطر على ورق، بل هي نبضٌ يستيقظُ حين أنسجُ الحروف، وأشعر أنني حيّ، أنني أتركُ للحياة بصمةً من روحي لا تموت مع الوقت، لأن الكتابة لا تُعلَّم كما يُعلّمُ الجهل، بل تُسكنُ كروحٍ في جسد الكلمات. وكل من كتب ليقرأه غيره، يجب أن يكتب أولاً ليُشفى، ليُحررَ ألمه وأفراحه بين الأسطرْ.

ابتسمتْ برقة، ثم اختفتْ كما جاءتْ، دون أن تترك خلفها سوى صدى كلماتها التي ترنُّ في ذهني. وبقيتُ أنا وحدي أمام الورقة البيضاء، أكتبُ هذا المقال، وأنا أعلمُ يقينًا أن شخصًا ما سيقرأه يومًا، وسيظنُّ أنه حديث دار بينه وبين نفسه، لا بيني وبين امرأة غامضة لا اسم لها... سوى أنها تشبه الكتابة، تلك الرفيقة الصامتة التي لا تغادرْ!

تشبه تلك الفكرة التي تراودك عند الفجر، وتختبئ حين تفتحُ النور. تشبه الحنين الذي لا نعرف مصدره، لكنه يعبرنا كلما حاولنا أن نفهم أنفسنا بالحبرْ.

جهاد غريب 
يونيو 2025

مَرْثِيَّةُ القَلْبِ المِنْسَابِ!

 
مَرْثِيَّةُ القَلْبِ المِنْسَابِ!  

فِي كُلِّ قَلْبٍ يُنْزِفُ حُبًّا كَنَهْرٍ جَرِيحٍ،
وَعَيْنٍ تَحْمِلُ أَسْرَارَ الْكَوْنِ فِي قَرْحَتِهَا،
تَنْطَوِي حَكَايَاتُنَا بَيْنَ:
صَرْخَةِ الْفَرَحِ وَهَمْسَةِ الْأَلَمِ...
نَكْتُبُ بِأَحْرُفِ الْوَجْعِ وَثِيقَةً لَمْ يُوَقِّعْهَا الزَّمَنُ بَعْدُ،
وَنُخَبِّئُ تَحْتَ جُلُودِنَا أَعَاصِيرَ صَمْتٍ تَهُزُّ عُرُوشَ الْأَسْمَاءِ!
هُنَا...
حَيْثُ تَلْتَقِي الدَّمْعَةُ بِالْكَلِمَةِ فِي مَهْبِطِ الْغُيُوبِ،
وَيُعَانِقُ الْجُرْحُ الذِّكْرَيَاتِ كَأُمٍّ حَزِينَةٍ،
أَمُدُّ لَكِ هَذِهِ السُّطُورَ:
مِرْآةً تَكْشِفُ أَعْمَاقَ وَجَعِكِ،
وَقِنْدِيلًا يَحْمِلُ نَارَ الْعَوْدَةِ إِلَى ذَاتِكِ الْبَكَّائَةِ...
هَلْ نَشُقُّ مَعًا طَرِيقَ الْمَأْسَاةِ الْجَمِيلَةِ؟
وَنَصْرُخُ فِي وَجْهِ الْعَالَمِ:
نَحْنُ ـ رَغْمَ انْكِسَارِ السُّمُوِّ ـ
مَا زِلْنَا نُحِبُّ بِجُرْحٍ مَفْتُوحٍ،
وَنَحْلُمُ بِأَجْنِحَةٍ مُكَسَّرَةٍ!

(1)  
أَنْتِ...  
تِلْكَ الْهَائِمَةُ فِي صَحَارَى الْحُلْمِ...
تَنْثُرِينَ أَحْلَامَكِ حَبَّاتِ مَطَرٍ عَلَى صَحْرَاءِ الوَاقِعِ،  
فَيَنْبُتُ مِنْهَا وَرْدٌ وَأَسَى...  
كُلَّمَا انْهَمَرَتْ دُمُوعُ السَّمَاءِ عَلَى خَدَّيْكِ،  
تَتَجَلَّى آلامُكِ كَسَرَابٍ يَتَهَادَى بَيْنَ المَاضِي وَالمُحَالِ...  
فِي حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِكِ،  
أَرَى قَلْبِي يُرَاوِحُ بَيْنَ ثِقَلِ الأَيَّامِ وَخِفَّةِ الأَمَلِ،  
وَعَالَمًا يَسْخَرُ مِنْ صِدْقِنَا:  
أَتُرَاكِ تُنْسِجِينَ العُشْبَ مِنْ ضَبَابٍ؟!   

(2)  
أَنْتِ..  
العَاشِقَةُ الحَالِمَةُ،  
تَحْمِلِينَ فِي جَوَانِحِكِ:  
جِرَاحًا تَتَنَفَّسُ أَسْمَاءَ الغَائِبِينَ،  
وَذِكْرَيَاتٍ تَسْحَقُ عِظَامَ الرُّوحِ كَالرَّحَى...  
كُلَّمَا لَمَعَتْ عَيْنَاكِ فِي اللَّيْلِ،  
يَنْكَسِرُ صَمْتُ الْكَوْنِ...  
فَأَسْمَعُ قَلْبَكِ يُنَادِي:  
هَلْ مِنْ مَنْجَاةٍ؟!   
كَأَنَّ الْمَوْتَ - يَا سُكْنَى الدُّجَى -  
يَبْنِي فِي أَعْمَاقِكِ قَصْرًا مِنْ سُيُوفٍ!  
يَا لَغُبَارِ الْقَدَرِ الْخَائِنِ!  
كَمْ أَلْقَى بِأَحْلَامِنَا فِي جُبٍّ...  
وَكَأَنَّمَا نَحْنُ حُبَّاتُ رِمَالٍ تَتَسَاقَطُ فِي طَوَاحِينِ الوَهْمِ!

(3)  
يَا ابْنَةَ الْعَاطِفَةِ الْجَرِيحَةِ!  
أَنْتِ تُعَانِقِينَ نَبْضًا تَلاشَى فِي الرِّيحِ،
خَلَّفَ صَدًى يَدُقُّ فِي أَضْلَاعِكِ كَالرَّعْدِ...
فَرَاغٌ يَبْلَعُ الْجَمِيلَ كَالْوَحْشِ،  
وَيَسْأَلُ: أَيْنَ الْوُجُودُ؟!   
هَلْ تَسْتَطِيعِينَ نِسْيَانَ تِلْكَ الْأَحْلَامِ؟  
أَمْ تَخْشِينَ أَنْ تَذُوبِي إِذَا فُكَّتِ الْقُيُودُ؟  
نَحْنُ - يَا رَائِحَةَ الْوِتْرِ -  
نَرْقُصُ عَلَى حَبْلٍ بَيْنَ:  
صِدْقٍ يَخْنُقُنَا، وَوَهْمٍ يُغَطِّينَا بِدِثَارِ الْخَدَرِ...  
وَنُجَابِهُ سُؤَالَ الْكَوْنِ الْأَعْظَمَ:  
هَلْ يُخْفِقُ قَلْبٌ مَحْمُولٌ عَلَى أَعْصَابٍ مَشْدُودَةٍ؟!   

(4)  
وَفِي أَعْمَاقِ الحَيْرَةِ - يَا رَفِيقَةَ العُبُورِ -  
اِسْأَلِي نَفْسَكِ: أَتَعْرِفِينَ مَنْ أَنْتِ؟  
العَوَاطِفُ لَيْسَتْ جُرْحًا نَخْشَاهُ،  
بَلْ هِيَ الْأَسَاسُ الَّذِي نَبْنِي عَلَيْهِ قُصُورَ أَنْفُسِنَا...  
نَحْنُ لَا نَنْزِفُ دَمًا،  
وإِنَّمَا نُنْتِجُ عَسَلًا مِنَ الْوَجَعِ!  
فَكُلُّ قَطْرَةِ مَطَرٍ تَسْقُطُ عَلَى زُجَاجِ الْعَالَمِ،  
تُذَكِّرُنَا:  
أَنَّنَا نَرْسُمُ مَعَكِ لَوْحَةَ الْكَوْنِ الْبَائِسَةَ!  
لَوْحَةٌ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا:  
أَسَاطِيرَ الْخَسَارَةِ،  
وَأَسْرَارًا تَخْتَرِقُ حُدُودَ الْكَلامِ...  
كَالسَّحَابِ الَّذِي يَحْمِلُ نَدًى وَشَرَارَةً مَكْنُونَةً!

(5)  
فَلْتَكُـنْ أَحْزَانُنَا قَنَادِيلَ تَقْطُرُ نُورًا،  
تُرَصِّعُ دُرُوبَ أَحْلَامِنَا الضَّالَّةِ بِبُذُورِ الْفَجْرِ...  
وَلْنُبْقِ أَعْيُنَنَا صَاحِيَةً كَالنَّخْلَةِ فِي زَمَنِ الْجَدْبِ،  
نَنْتَظِرُ الْبِدَايَةَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الْيَأْسِ،  
كَنَبْتَةٍ عَنِيدَةٍ تَنْبُتُ فِي شَقِّ الصَّخْرَةِ!  
دَعِينَا نُعَانِقُ قُلُوبَنَا الْكَسِيرَةَ - يا رفيقةَ الرجفةِ النبيلةِ -  
كَمَا تُعَانِقُ الْأَرْضُ رُفَاتَ الْبُذُورِ لِتَخْلِقَ مِنْهَا رَبِيعًا... 
فَنَحْنُ لَسْنَا حِكَايَةً نَاقِصَةً،  
وإِنَّمَا نَحْنُ فَصْلٌ مُؤَقَّتٌ فِي رِوَايَةِ الْأَبَدِ،  
نَبْحَثُ عَنْ حُبٍّ يُشْبِهُ الْمَطَرَ:  
يَغْسِلُ الْغُبَارَ،  
وَيَحْمِلُنَا إِلَى شَاطِئِ الْأَمَلِ عَلَى ظَهْرِ أَمْوَاجِ الْدُّمُوعِ.  

(6)  
يَا زَهْرَةَ الْعُمْرِ الْهَارِبِ!  
أَتَدْرِينَ كَيْفَ يَنْسُجُ التَّعَبُ سَجَّادَ الْحَيَاةِ؟  
يَأْخُذُ خُيُوطًا مِنْ ظِلِّنَا،  
وَحَبَّاتٍ مِنْ رَمَادِ أَحْلَامِنَا،
فَيَضْفُرُهَا بِأَصَابِعِ الْقَدَرِ الْعَمْيَاءِ...  
هُوَ لَيْسَ عَاصِفَةً عَابِرَةً،  
وإِنَّمَا هُوَ حَائِكٌ قَدِيمٌ يَخْطُطُ عَلَى نَوْلِ الزَّمَنِ:  
بُسُطًا مِنَ الْحُزْنِ،  
وَسُتْرَةً لِعُرْيِ الْوُجُودِ!  
كُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ:  
أَنْتِ تَمْشِينَ عَلَى حَبْلٍ مَمْدُودٍ بَيْنَ:  
جَبَلِ أَحْلَامِكِ وَوَادِي آلامِكِ،  
وَالتَّارِيخُ - وَرَاءَكِ -  
يَلْعَبُ نَرْدَ الْأَقْدَارِ بَيْنَ دَمْعَةٍ وَضَحْكَةٍ...  
فَمَتَى تَعْبُرِينَ الْجِسْرَ؟  
وَمَتَى نُدْرِكُ أَنَّ الْحَبْلَ نَفْسَهُ هُوَ الْخَطُّ الَّذِي يَرْسُمُ رَحْلَتَنَا؟  

(7)  
لَا تَطْرَحِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ 
فِي سَلَّةِ النِّسْيَانِ، يَا نَجْمَتِي...  
حِينَ تَنْكَسِرُ الأَسْمَاءُ وَتَذُوبُ الْخُرَائِطُ،  
فَكُلُّ دَمْعَةٍ: مَرْكَبٌ فِضِّيٌّ يَحْمِلُ حِكَايَةً غَارِقَةً،  
وَكُلُّ شَوْقٍ: غُصَّةٌ تَدُقُّ فِي حَنَاجِرِ الْوُجُودِ نَاقُوسًا!  
أَتَرَيْنَ؟ 
النُّجُومُ تَسْقُطُ لِتَحْمِلَ أَمَانِيَّنَا إِلَى شَاطِئِ الْأَحْقَابِ...  
كَأَنَّهَا رُسُلٌ تَخْطُو عَلَى جِسْرٍ مِنْ دُمُوعِ الْعُشَّاقِ...  
يَا مَنْ تَحْمِلِينَ الظَّلَامَ فِي عَيْنَيْكِ مِصْبَاحًا:  
الضِّيَاءُ يُولَدُ مِنْ رَحِمِ الْيَأْسِ،  
وَالْجَمَالُ يَخْرُجُ مِنْ جُرْحِ التَّعَبِ كَالْعَنْقَاءِ!  
وَإِذَا شَعَرْتِ بِالْإِعْيَاءِ،  
فَاعْلَمِي:  
أَنَّكِ تَنْسُجِينَ مِنْ دَمِكِ شَبَكَةً لِاصْطِيَادِ الْفَجْرِ. 

(8)  
اِلْجَئِي إِلَى قَلْبِكِ...  
هُوَ الْكَهْفُ الَّذِي يَحْتَضِنُ أَسْطُورَةَ صَبَاحَاتِكِ الْبَاكِيَةِ!  
اِتْرُكِي لِدَمْعِكِ أَنْ يَسْكُبَ نَهْرًا،  
يَنْحَتُ فِي صَدْرِكِ وَادِيًا جَدِيدًا...  
لِتَجْرُفَ الْآلَامَ كَأَوْرَاقِ خَرِيفٍ مَيِّتٍ!  
اِذْهَبِي إِلَى مَكَانِكِ الْمُقَدَّسِ...  
حَيْثُ تُغَطُّينَ الْهُمُومَ بِغِطَاءِ السَّمَاءِ،  
وَتَنْسُجِينَ مِنَ الصَّمْتِ سِلْسِلَةً لِقَفَصِ الْأَوْهَامِ...  
اُحْفَظِي هَذِهِ الْوَصِيَّةَ:  
لَنْ تَغِيبَ شَمْسٌ إِلَّا وَوَرَاءَهَا فَجْرٌ يَدُبُّ فِي عُرُوقِ اللَّيْلِ،  
وَكُلُّ كَرْبٍ: مَوْكِبٌ عَابِرٌ يَرْكَعُ أَمَامَ بَابِ الرَّحْمَةِ!  
فَكُلُّ جَفْنٍ يُغْمَضُ: بَذْرَةٌ لِابْتِسَامَةٍ،  
وَكُلُّ شِتَاءٍ: مِهْرَجَانٌ يُعِدُّ لِقَاءَكِ بِرَبِيعٍ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِ الْقَلْبِ. 

(9)  
هَلْ تُصَدِّقِينَ؟
أَحْيَانًا، يَحْمِلُ العَادِيُّ فِي طَوَايَاهُ:
خَرَائِطَ الْكُنُوزِ، وَمَفَاتِيحَ الْأَسْرَارِ!
كُلُّ حَجَرٍ تَدُوسِينَـهُ:  
كِتَابٌ يُحَدِّثُكِ عَنْ أَزَلِ الْأَشْيَاءِ...  
فَاكْشِفِي دُرُوسَ الْوُجُودِ...  
كَمَا تَكْشِفُ الْأَرْضُ عَنْ بُذُورِهَا بَعْدَ الْمَطَرِ!  
اِتْرُكِي الْحُزْنَ يَتَحَوَّلُ إِلَى نَدًى،  
يُرَوِّي زُهُورَ الْفِكْرِ فِي حَدِيقَةِ رُوحِكِ...  
وَانْظُرِي إِلَى الْعَالَمِ:  
لَا بِعَيْنٍ جَدِيدَةٍ فَحَسْبُ،  
بَلْ بِرُؤْيَةِ طِفْلٍ يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ!  
أَنْتِ...  
لَيْسَتْ جَمَالًا يَتَجَاوَزُ الْخَيَالَ،  
وَلَا قُوَّةً تُحَطِّمُ الْعَوَاصِفَ...  
أَنْتِ الْمَعْنَى الَّذِي يَفُوقُ الْوَصْفَ!  
مِحَنُكِ لَمْ تَنْسُجْ حِكَايَتَكِ...  
بَلْ حَوَّلَتْكِ إِلَى نُسْخَةٍ نَادِرَةٍ مِنْ كِتَابِ الْوُجُودِ!  
وَفِي كُلِّ دَمْعَةٍ:  
لَيْسَتْ زَهْرَةً فَحَسْبُ...  
بَلْ بَابٌ سِرِّيٌّ يُطِلُّ عَلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْأَضْوَاءِ فِي أَعْمَاقِكِ. 

وَهَكَذَا...
لَا تَنْطَفِئُ الْحِكَايَةُ عِندَ حَدِّ الْكَلِمَاتِ،
وَلَا تُقْفَلُ الْأَبْوَابُ لِأَنَّ الدُّمُوعَ نَضَبَتْ!
الْحَيَاةُ ـ يَا رَائِحَةَ الصَّبَاحِ الْبَعِيدِ ـ
تُعِيدُ تَرْتِيبَ أَوْرَاقِهَا كُلَّمَا أَلْقَيْنَا جِرَاحَنَا فِي وَجْهِ الرِّيحِ،
فَتَحْمِلُهَا إِلَى عُشِّ الْأَمْسِ الْمُنْسِيِّ...
سَتَبْقَيْنَ نَجْمَةً تُشْعِلُ نَفْسَهَا بِلَهِيبِهَا،
حَتَّى إِذَا ظَنُّوا انْطِفَاءَكِ...
انْفَجَرْتِ كَوْكَبًا مِنْ نُورٍ! 
وَسَتَعْرِفِينَ ـ بَعْدَ أَنْ يَنْكَسِرَ الْوَقْتُ ـ
أَنَّ الْأَلَمَ لَمْ يَكُنْ سِوَى:
حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْأَبَدِ فِي رِوَايَةِ قَلْبِكِ الْمُقَدَّسِ...
فَارْفَعِي جِرَاحَكِ تَاجًا لِلصُّعُودِ،
وَامْشِي...
فَرُبَّمَا الْغَدُ الْقَادِمُ ـ خَلْفَ أُفُقِ الْيَأْسِ ـ
يَحْمِلُ الْحُبَّ الَّذِي تَسْتَحِقِّينَ:
حُبًّا يَخْرُجُ مِنْ جَحِيمِ الْانْتِظَارِ كَالْفِينِيقِ!
لِأَنَّكِ ـ يَا مُلْهَمَةَ الْأَزْمِنَةِ ـ
لَسْتِ نِهَايَةً...
وَلَكِنَّكِ الْبِدَايَةُ الَّتِي تَسْكُبُ الْأَبَدَ!

جهاد غريب 
يونيو 2025

الأحد، 1 يونيو 2025

حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية!

 
حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية! 

في زحام الحياة، ثمة أشياء لا تُرى، لكنها تُسمع. أشياء لا تُلمس، لكنها تُحس. الصوت، مثل ظل الروح، ينساب عبر الأثير حاملاً معه حكايات لا تُحكى، وملامح لا تُرسم. في إحدى الزوايا المنسية من هذا العالم، وُلد مشروع صغير، لا يشبه المعامل التجارية، بل يشبه بيتًا للصوت، أو محرابًا يتلو فيه الإبداع صلاته.

كل شيء بدأ بفكرة. لكن الأفكار، حين تكون وحدها، تشبه البذور في أرض قاحلة. احتاجت هذه الفكرة إلى شريك يرويها. أحدهما جاء بالحلم والحنجرة، بالليل الطويل والميكروفون المفتوح، والآخر جاء بالمبلغ الضروري لكي تدور عجلة البداية. كان الاتفاق بسيطًا: شراكة بين المال والرؤية. لكن كما يقول أحد الحكماء: المال يفتتح المشروع، أما القلب فيصنع مجده.

ومضت الأعوام، تتنفس القصائد في الغرف العازلة للصوت، تنمو المشاريع، يُذكر الاسم في المحافل، تُنشر التسجيلات، وتحصد الإعجابات. وكان من الطبيعي أن يُطرح السؤال ذات يوم: من يملك هذا الاسم الذي صار ماركة؟ من يحق له أن يستحوذ على هذه الهوية؟
هل الملكية تُقاس بما دُفع من نقود، أم بما سُكب من روح؟
هل يكفي أن توقّع على عقد لتصبح سيدًا لصوت لا تعرف كيف يولد؟

الصوت لا يعرف الحسابات. إنه يعرف فقط الدفء. يعرف اليد التي تُصلح العطب في نصف الليل، والعين التي تلمح خطأ بسيطًا في نغمة، في حين لا يراه أحد. يعرف من يناديه لا كوظيفة، بل كحياة. ولأن الصوت لا يُشترى، فإن الشغف لا يُباع.

في كل مشروع فني، خاصةً تلك التي تعتمد على الروح أكثر من السلعة، يصبح من الضروري أن نُعيد تعريف "الملكية". الاسم ليس مجرد شعار. إنه خلاصة تجارب، لحظات تعب، تواريخ مسجلة في الذاكرة الجمعية، وارتباط لا واعٍ بين المستمعين ومن صنع لهم هذا العالم الخفي.

لهذا، حين نناقش الحقوق، لا يجب أن نختزلها في عقود جامدة. بل في العدالة. العدالة التي تقول: من بنى الهوية، من أدار، من أحيا، من نشر، من تواصل، من تعب، له النصيب الأوفى. أما من ساعد ماديًا، فله احترامنا، لكن ليس له حق تغيير الملامح التي لم يرسمها.

وهنا تبرز أهمية التوثيق. لا لأننا نشك بالآخرين، بل لأننا نثق في الإبداع ونريد أن نحميه. العقود ليست قيدًا، بل حماية للأحلام. إنها إطار يضمن ألا يتحوّل الفن إلى سلعة يُنتزع منها اسمها ويُمنح لغير أهلها.

كثيرون يعتقدون أن الشراكة تتأسس على المال. لكن الشراكة الحقيقية تُبنى على الرؤية. المال يضيء اللمبة، لكن الإبداع هو من يجعل النور له معنى. ولأن العالم مليء بمن يملكون المال، لكنه فقير بمن يملكون الروح، فإننا بحاجة إلى أن نعيد تعريف قيمة الأشياء.

ما يُنقش في الذاكرة، لا يأتي من بطاقة مصرفية، بل من لحظة صدق. وما يُخلّد ليس الاسم، بل الحكاية خلف الاسم. لذلك، فإن الشراكة التي لا تنصف الإبداع، لا تُثمر. وإن ثمَرت، تظل ناقصة، متأرجحة بين الضجيج والانكسار.

في نهاية الأمر، ليس كل ما يُملَك يُورَث، وليس كل ما يُستثمَر يُقَيَّم بالربح. هناك أشياء تُقاس بما تُحدثه في القلب، بالصدى، بالنبض. الصوت لا يسأل: "من دفع؟"، بل يسأل: "من أحبني حتى صنعتُ منه معنى؟". ففي عالم الإبداع، ليس المال هو البذرة، بل الشغف. ليس الاسم هو اللوحة المعدنية التي تُعلّق على الأبواب، بل هو الارتعاش الخفي الذي يمرّ في روح المستمع حين يتردد الصوت.

الإبداع كائن حي، يتغذى من الحلم، ويرتوي من السهر، وينمو في ظلال الإخلاص. إنه لا يعترف بالعقود وحدها، بل يُقسم على نبض القلب، ويرتبط باليد التي امتدت لتصقل الفكرة من ضباب الحلم إلى نور الواقع. ومهما تشابهت الأسماء، يبقى الأصل لمن نزف من داخله ليمنح الحياة نغمة، ويمنح الكلمة جناحين.

فربّما يُفتَح الاستوديو بأموال الآخرين، لكن الروح التي تحوم بين جدرانه، بين المايكروفون والسكون، لا يُمكِن شراؤها. إنها تلك الروح التي تعرف متى تصمت لتُنصت، ومتى تهمس لتُدهش، ومتى تصرخ لتوقظ فينا معنى الجمال.

وإن كنا نبحث عن العدالة، فلن نكتبها بالحبر وحده، بل بالاعتراف: أن هناك من يعمل بصمت، ومن يضع اسمه على الضوء. لكن الضوء الحقيقي لا يُشترى، بل يُكتسب، حين يكون الصوت امتدادًا للروح، لا لدفتر الشيكات.

لذا، حين نسمع مقطوعة تنبض بالإحساس، أو قصيدة تمشي على نَفَسٍ، فلن نسأل عن اسم المستثمر، بل سنهمس، كما تهمس القلوب حين تُمسّ: "ها هنا عاش من أحب الفن حتى صار هو ذاته نغمةً لا تُنسى".

جهاد غريب 
يونيو 2025

الخيط الذي لا يُرى!

 
الخيط الذي لا يُرى! 

كلّ رحلةٍ تبدأ بسؤالٍ لا يُراد له جواب، بل يُراد له أن يُوقظ شيئًا في الداخل؛ كأنّ الوعي نفسه يُلقي بذرةً في تربةِ الروح، منتظرًا أن تتشقّق الأرض وتخرج منها جذورٌ تبحث عن الضوء لا عن الحقيقة. إننا لا نبحث كي نعرف، بل نبحث لنعيش، لأن المعرفة التي لا تغيّر صاحبها لا تُسمّى معرفة، بل فهرسًا ميتًا لمكتبةٍ لا يزورها أحد.

وليس كلُّ سعيٍ مجرّد حركة!، هناك سعيٌ يشبه التنهيدة التي لا يسمعها أحد، لكنه يُحرّك جدارًا قديمًا في النفس. إنّ الساعي لا يُقاس بوجهته، بل بقدرته على الإصرار رغم أن الأبوابَ موصدةٌ والممراتِ غارقةٌ في الضباب. السعي، في جوهره، ليس مهنة العابرين بل قدر المختارين؛ أولئك الذين قرروا ألا يكونوا صفحةً مكررةً في دفتر الزمن.

ومن بين الخطى، يظهر أولئك الذين مرّوا دون ضجيج، وتركوا فينا أثرًا لا نعرف متى بدأ ولا كيف استقرّ؟! لم يقولوا الكثير، ولم يُهندسوا مصائرنا، لكنهم نقلوا إلينا شيئًا خفيًا، شيئًا يشبه النور حين يتسلل من ثقبٍ في الجدار، لا يُرى مصدره، لكنّنا نشعر بالدفء؛ هؤلاء، بإتقانهم الصامت، حوّلوا القيم إلى نبض، والتفاصيل الصغيرة إلى شعائر. كانوا كالنحات الذي لا يفرّق بين منحوتةٍ لملكٍ وتمثالٍ يُزيّن به باب كوخٍ، لأن الروح واحدة، والاتقان عندهم ليس طموحًا للمديح بل حالة وجودية لا تعرف الزيف.

ومع مرور الزمن، ندرك أنّ ما ظننّاه مواقف عابرة كان في الواقع إرثًا، وأنّ الكلمات التي سمعناها ذات غفلةٍ تحوّلت لاحقًا إلى معيارٍ نقيس به قراراتنا؛ هكذا يتسلّل الإرث المعنوي إلى داخلنا، لا بالحفظ بل بالتحوّل؛ فنصبح شيئًا من أولئك الذين أثّروا فينا، دون أن نتقمّصهم؛ وكأنّهم تركوا فينا نسخةً روحيةً مصغّرة منهم، تنمو معنا وتُربّت على أكتافنا حين نتعثر.

ثم تأتي لحظةٌ يعرض فيها العالم علينا اختباراتٍ قاسية، لحظات نُجبر فيها على مراجعة قناعاتنا، على فكّ الأحكام المسبقة التي بنيناها بحسن نية. وهنا، يظهر الانفتاح لا كترفٍ أخلاقي، بل كقوةٍ عميقة، كشجاعة الاعتراف بأننا لم نكن نعرف. أن نستمع لا لنرد، بل لنفهم، أن نُغيّر المسار لا خنوعًا بل اعترافًا بأنّ القلب يعرف أحيانًا ما لا يقدر العقل على تصديقه.

أما عن اليأس، فهو ليس فقط خيانة للحلم، بل اغتيالا للجزء الأصدق فينا؛ فالذين يتمسكون بأحلامهم رغم الخسائر لا يعيشون في الوهم، بل يكتبون في كلّ فجرٍ سطرًا جديدًا في ملحمةٍ لا يقرؤها إلا من سار في العتمة. إن كلّ لحظةِ نهوضٍ بعد تعثّر، هي احتجاجٌ على الموت الرمزيّ، وتأكيدٌ أنّ النور ليس رفاهية، بل حاجة، وأنّنا إن لم نجده سنخلقه، وإن لم يُنر لنا الطريق سنشعل أنفسنا شموعًا لمن بعدنا.

وربما لن نعرف أبدًا من تأثر بنا، وربما لن تصلنا رسالةٌ تقول: "لقد غيّرتني"، لكننا نواصل المسير لأننا نؤمن أن في كلّ لمسة صادقة، كلّ موقف نقي، كلّ فكرة نابعة من عمقٍ صادق، هناك احتمالٌ صغير أن تُوقظ شيئًا في أحدهم، تمامًا كما حدث معنا يومًا دون أن يدري من أشعل شمعتنا.

وهكذا، نرحل نحو ذواتنا لا بحثًا عن إجاباتٍ نهائية، بل لنكون جديرين بالسؤال. نرحل، نُتقن، نؤمن، ننفتح، نتأثّر ونتحوّل. نكتبُ قصيدةَ الكون بخيوطٍ لا تُرى، ونترك في الأثر وهجًا لا يطفئه الغياب.

جهاد غريب 
يونيو 2025

البوصلة التي لا تهدأ!

  البوصلة التي لا تهدأ! نحن، كبشر، لا نكفّ عن الحلم، كأننا مخلوقون لنتطلّع دائمًا إلى ما وراء اللحظة. نمضي في طريقٍ لا ندري فيه على وجه اليق...