البوصلة التي لا تهدأ!
نحن، كبشر، لا نكفّ عن الحلم، كأننا مخلوقون لنتطلّع دائمًا إلى ما وراء اللحظة. نمضي في طريقٍ لا ندري فيه على وجه اليقين إن كنّا نحن من نُطارد الأيام، أم أنها هي من تجرّنا خلفها بخيوطٍ غير مرئية، نخالها أقدارًا أو صدفًا، وهي في الحقيقة مرايا لاختياراتنا. تمضي بنا الحياة كما الريح تمضي بسفينةٍ شراعية: حينًا تهمس في أشرعتنا بلطف، تدفعنا برفقٍ نحو مرافئ نجهلها، وحينًا تثور، فتهزّ دواخلنا قبل أبداننا، وتتركنا في مهبّ تساؤلاتٍ لا تهدأ.
ولا تخلو رحلة أحدٍ منّا من مفاصل ضعف، تلك اللحظات التي ينحني فيها الظهر لا تحت وطأة الأعباء فقط، بل أمام تأملٍ ثقيلٍ لِما مضى، وصمتٍ يعجّ بالأسئلة: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ ولماذا يضيق الطريق أحيانًا رغم اتساع الأفق؟
نعيش مراحل متداخلة، طبقات فوق طبقات من المشاعر، كأننا نبدّل جلودنا مع كل تجربة، ونلبس مزاجًا جديدًا في كل صباح. بين حزنٍ مفاجئٍ وطموحٍ مشرقٍ وحلمٍ يتعثّر، نلتفت إلى الخلف، نتأمل خارطة الطريق التي قطعناها، فنكتشف أحيانًا أننا لم نتخلّ فقط عن الأحلام، بل سعينا إلى ما هو أعمق: إلى السلام.
وليس ذلك السلام الداخلي الذي يهمس في زوايا النفس، بل السلام الذي يعكس الطمأنينة في وجوه الآخرين، في علاقاتنا، في ردود أفعالنا التي أصبحت أكثر تقبّلًا وأقل اندفاعًا.
لكن، هل تجلّت المشاعر الحقيقية يومًا في هدوءٍ ساكن؟ أم أنها لا تخرج إلا حين تتلاطم أمواجنا الداخلية، ونغرق قليلًا؟ كم مرة شعرنا أننا نسير على اليابسة، بينما كانت أرواحنا تسبح في الفراغ، وأحلامنا تطفو بعيدًا هناك في السماء، تنتظرنا تحت نجمٍ ما، نتأمله، ثم نبدّله بغيره... كأن الحلم ليس سوى نجمٍ مؤقت، يخفت بقدر ما نقترب من الحقيقة.
نرتقي شيئًا فشيئًا في سلّم الحياة، نبحث عن رفاهيةٍ مشروطة لا تُنال بسهولة. وكلما ظننا أننا اقتربنا من الوصول، تمدّدت الطريق أمامنا كسرابٍ على رملٍ حار، لا ينتهي. وربما لم تكن المسألة في طول الطريق، بل في وعورة المسير، وفي ما نحمله معنا من أفكارٍ وأثقال، من وحداتٍ اجتماعية ودوائرَ تقييمٍ لا تنفكّ تحاصرنا: كيف نعيش؟ ما الذي نمتلكه؟ هل نحن أهلٌ للتقدير؟
وليس التقييم دومًا عدلًا، ولا المقوِّم بالضرورة أرفع حالًا. فالقيمة لا تُقاس بما في الجيب، بل بما في النفس. فكم من ثريٍّ فقيرِ السكينة، وكم من بسيطٍ تسكنه السماوات، وقد تعلّم أن الرزق لا يُحصى بالأرقام، بل يُمنح بما كتب الله.
ما نحاول الحديث عنه ليس طريقًا واضح المعالم، ولا قرارًا جاهزًا يُسقط علينا من علٍ، بل عن تلك البوصلة التي تهتزّ في صدورنا، تلك الإبرة الخفيّة التي لا تهدأ، مهما حاولنا إسكات ارتجافها. إنها ليست أداة ميكانيكية تشير إلى الشمال، بل كائن حيّ يتغذى على تجاربنا، وينمو من تصدّعاتنا، ويتشكل بما نكابده من صراعات داخلية، حتى يصير أكثر صدقًا من كل الإشارات الخارجية.
هذا الاتجاه الذي نبحث عنه لا يرسمه الآخرون لنا، ولا يُقرأ في لافتات الطريق، بل نصوّبه بأنفسنا، مرةً بما علمتنا إياه التجارب الصادقة، ومرةً بما قاسينا من خذلانٍ صدئ، ترك أثره في القلب كما تترك الأمواج بصماتها على الصخور. وثالثةً حين ننظر في عيون من حولنا، فنعرف — دون أن يقولوا — مَن يرتدي وجهه الحقيقي، ومن اعتاد أن يرتدي وجهًا مستعارًا بحرفيّة من عاش عمره داخل مسرحٍ بلا جمهور.
البوصلة الحقيقية ليست ما يوجّهنا إلى النجاح أو الفشل، بل ما يحفظ فينا توازن الإنسان، ما يذكرنا أن الصواب ليس دائمًا ما يُصفّق له، وأن الخطأ لا يُقاس دائمًا بما يقوله الآخرون، بل بمدى ابتعادنا عن ذاتنا الأولى، تلك التي وُلدت نقية، تبحث عن المعنى لا عن المجد، وعن السلام لا عن التصفيق.
نحن لا نبلغ الحكمة عبر خط مستقيم، بل نسير في متاهة، نصطدم بجدران الوهم، ونسقط في حفر الطموح الزائف، ثم ننهض ونحن نُصغي جيدًا لذلك الارتجاف الداخلي… ذاك الذي يهمس لنا أن نعيد ضبط الاتجاه، لا استنادًا إلى البوصلة التي في يد الآخرين، بل إلى تلك التي تسكن قلوبنا، وإن ارتعشت. ومع كل تصحيحٍ لهذا الاتجاه، ومع كل ارتجافة خافتة تدعونا للعودة إلى ذواتنا، نكتشف أن الرحلة لا تقتصر على معرفة الطريق، بل على صون النفس أثناء السير فيه.
نحن نحاول، رغم الزيف الذي يحيط بنا، أن نعلو بأخلاقنا، بأفكارنا، بتجاربنا، أن نترفّع عن الدنيا وإن استوطنت بعض الملامح من حولنا. نحاول أن نظل حقيقيين في زمنٍ تتكاثر فيه الأقنعة، لكننا لا نظفر بالحكمة إلا حين نمرّ بجميع هذه المنعطفات، حين تهبّ العواصف على قلوبنا، فننحني لا ضعفًا، بل حكمة.
ولعل أعظم ما نتعلمه من كل ذلك، هو أن نترك للبوصلة حرية الارتجاف، لكنها لا تفقد اتجاهها أبدًا. تلك البوصلة التي، مهما دارت، تعود لتشير إلى حيث ينبغي أن نكون: في طريقٍ لا يُقاس بالوصول، بل بالمضيّ فيه برفقة القيم، ودفء العلاقات، وصدق التجربة.
الحياة، في جوهرها، ليست سباقًا نحو النهاية، بل حوارًا طويلًا بين القلب والعالم، تسجّله خطواتنا حين تمضي بثقة، حتى وسط العتمة.
جهاد غريب
يونيو 2025