الاثنين، 30 يونيو 2025

حين يختبر الرزق… وتختبر القلوب!

 
حين يختبر الرزق… وتختبر القلوب! 

في الحياة، لا يُختَبر الإنسان دومًا في جسده أو صحته، بل كثيرًا ما يكون الامتحان الحقيقي في أرزاقه؛ في تلك اللحظات التي تُحبس فيها النِعم، وتضيق فيها السبل، ويقف المرء بين حاجته للعطاء وعجزه عن الوفاء. عندها، لا يُقاس الصبر بكلمات تُقال، بل بأيام تُعاش، وبمشاعر تُكتم، وبأحلام تؤجل رغم استحقاقها.

ثمة رجال ونساء يعيشون وهم يرفعون رؤوسهم شامخة رغم الخواء في جيوبهم، لأن الكبرياء الصادق لا تصنعه الأموال، بل يُولَد من الوفاء والكرامة والإيمان بأن الرزق بيد الله وحده. إنهم يمضون في أيامهم دون أن يُظهروا ضعفًا، رغم أن ما يُخفونه في صدورهم أثقل من أن يُروى في حديث عابر.

وليس الابتلاء في ضيق الحال مجرد حرمان مادي، بل هو امتحان لليد حين تعجز، وللنفس حين تضيق، وللقلب حين يرى مَن يحب ولا يستطيع أن يُفرحه. لأن الألم الحقيقي ليس أن يجوع المرء، بل أن يشعر بأنه لا يملك ما يمنحه لمن ينتظر منه بسمة، أو لمسة دفء، أو هدية صغيرة تُبهج قلبًا بريئًا.

وحين تأتي الأعياد ويأتي النجاح وتأتي المناسبات التي خُلقت للفرح، تصبح هذه الأيام عند بعض الناس محطة تأمل موجعة، لا لأنهم لا يحبون الفرح، بل لأنهم لا يستطيعون منحه كما يستحقه من حولهم. فتغدو الفرحة مؤجلة، والصوت مكتومًا، ويعلو الصمت بين الكلمات كأنه يقول: "لسنا بخير تمامًا… لكننا نحاول". 

ومع ذلك، لا يفقد هؤلاء الناس إنسانيتهم، لأن من تعلّم أن يمنح الحنان حين لا يملك الهدايا، قد وهب أعظم ما يُمكن أن يُعطى، ومن علّم أبناءه معنى الصبر الكريم، والثقة برحمة الله، وعلّق قلوبهم بالرضا لا بالتذمر، فهو يزرع فيهم ما لا تزرعه الأسواق ولا المال.

في اختبار الرزق، تتكشّف معادن النفوس، فهناك من يثور ويشكو ويقسو، وهناك من يسكن ويتضرع ويصبر، وهناك من يرى في كل قلةٍ فرصةً للتطهر من التعلق، وفي كل حرمانٍ تربيةً للنفس على أن لا تجعل الدنيا مقياسًا للقيمة، ولا المال برهانًا على الحب.

الحياة، في جوهرها، ليست سباقًا نحو الامتلاك، بل مسيرة نحو الفهم. نحو أن ندرك أن الله يرزقنا أحيانًا ليختبر شكرنا، ويمنع عنا ليختبر يقيننا، ويؤخر عنا ليُطيل وقوفنا على باب رحمته.

ليست كل الأرزاق مالاً، وليست كل العطايا تُشترى. فالإنسان حين لا يملك أن يفرح من يحب، قد يمنحهم ما هو أعمق من الهدايا: الحنان، والدعاء، والقدوة، والكرامة، فالفقر الحقيقي هو الفقر في المشاعر، لا في الجيوب، والحرمان القاسي هو حرمان الرحمة، لا حرمان المال.

في الأوقات الصعبة، ليس المطلوب أن نحمل العالم على أكتافنا، بل أن نحمل أنفسنا بشرف، وأن نحمل أحبابنا بدفء، وأن لا نفقد إنسانيتنا حين يشتد علينا الزمن. فكم من رجل عاش بقلب مليء رغم يدٍ فارغة؟! وكم من امرأة زرعت في أبنائها السكينة ولو لم تملك ما تزرعه في موائدهم؟!

هذه الحياة لا تُقاس بما نملك، بل بما لا نخسره حين نخسر الأشياء، وأعظم ما نملكه هو القدرة على أن نحب دون مقابل، أن نعطي دون أن نُمنّ، وأن نصبر دون أن نشتكي.

فليكن هذا زمن الصبر الجميل، لا الحزن العاجز. وليكن ابتلاء الرزق سلّمًا نرتقي به إلى رقيّ الروح، لا هاويةً نسقط فيها بثقل الأسى.

جهاد غريب 
يونيو 2025

ممرات الصيرورة: تأملٌ في التحوّل الإنساني!

 
ممرات الصيرورة: تأملٌ في التحوّل الإنساني! 

"نحن لا نتغير فجأة، بل نذوب ببطءٍ في التجربة، حتى نصحو غرباء عن ذواتنا القديمة"

عندما ينفجر الفراغ فجأة كقنبلة صوتية في مسرح الحياة، نُصاب بالصمم الوجودي. الصمت هنا ليس غيابًا للكلام، بل حضورٌ طاغٍ لكل ما لم يُقال. هو الفاصل الأبيض بين السطور، الذي يحوي عواصف من الأسئلة المحبوسة. كأنّما الكون أمسك بلسانه فجأة، وتركنا نترنح في فراغ من الأصداء الميتة. حتى أنفاسنا تصير ثقيلة كحجارة تُلقى في بئر لا قعر لها.

لكن ماذا لو لم يكن هذا الصمت إلا تمهيدًا؟ ليس للسكون، بل لحقيقة جارفة، عاصفة لا تحمل رياحًا بل اقتلاعًا دقيقًا لجذور الأوهام الراسخة في عمق الذات. هناك، تبدأ التعرية: تنكشف الأقنعة، وتظهر الوجوه كما لم تُرَ من قبل. وجوه عارية من الزيف، مشوبة بندوب الخيبات، ومرآة الخوف، وتوهج نادر لما تبقّى من النقاء.

ومع انتهاء العاصفة، لا يعود شيء كما كان. كل ما تهدّم لا يُعاد بناؤه كما كان عليه، بل يُنقّى ويُفرز، كأنّنا نرتّب أنقاض الذاكرة لا بحثًا عن الترميم، بل عن اعتراف. إذ هناك، في عمق الركام، تبدأ المحاكمة. لا قضاة ولا شهود خارجيين، بل أنت وحدك في مواجهة أرشيفك الشخصي. ذكريات تتلوى بين البراءة والاتهام، بين بكاء صامت وعتاب مميت. كل لحظة من الماضي تنطق، لا لتعاتب فقط، بل لتسأل سؤالًا مريرًا: "أكنتَ حاضرًا حقًّا حين حدث هذا؟ أم كنتَ مجرد ظلّ؟"

وعندما يسدل الستار على تلك المواجهة الصامتة، لا يبقى سوى فعلٍ واحد: الانسحاب. لا هروب، بل انسحاب بكرامة، كما تفعل الفراشة حين تُفلت من قبضة طفل دون أن تتهشم. لا ضجيج، لا إعلان، فقط خفوت تدريجي، كمدٍّ بحريّ يترك خلفه أصدافًا خاوية على الرمل.

ومع هذا الانسحاب، تبدأ لحظة نادرة من النضج، حيث لا تُقاس الحياة بما عِشته، بل بما فهمته بعد أن عشته. الفهم ليس إجابة، بل سؤال جديد يولد من رماد العاصفة. هو الضوء الخافت الذي يمر عبر زجاج التجربة، ينعكس بصمتٍ في الداخل. نضحك أحيانًا، لكن الضحكة تأتي ممزوجة بدمعة ساخنة، تغسلنا لا لتُعيد ما كان، بل لتمنحنا سلامًا لا يحتاج إلى ندم.

وحين نصل إلى هذا العمق، نُدرك أن بعض النهايات لا تحتاج إلى مراسم. الوداع لا يكون دائمًا بالبكاء أو بالعناق، بل أحيانًا هو مجرد نظرة صامتة، أو ابتسامة تذوب ببطء كقطرة ماء في محيط الذكرى. نُسلِّم بأن النهاية جاءت في وقتها، لا متأخرة ولا مبكرة، بل كما ينبغي لها أن تكون: خفيفة، شاحبة، وصادقة.

وهكذا، تكتمل الدائرة. من صمت يُمهّد لعاصفة، إلى عاصفة تُفضي إلى كشف، إلى كشفٍ يستدعي محاكمة، فانسحاب، ففهم، فوداع. ليست هذه مشاهد متفرقة، بل مسار واحد متّصل. سلّم من الإدراك نصعده نحن البشر، كلٌ بطريقته، كلٌ بتوقيتٍ خاص لا يشبه توقيت أحد.

جهاد غريب 
يونيو 2025

قوة العطاء والتحمل: رحلة إنسانية ملهمة!

 

قوة العطاء والتحمل: رحلة إنسانية ملهمة!
 
في مدينة لا تُذكر على الخرائط!، لأنها تعيش داخل صدور ساكنيها، رجلٌ يعمل بلا توقف. لا شمس توقفه، ولا عتمة تخيفه، لا جرس ساعة يوقظه لأنه لم يخلد أصلًا إلى النوم. يُقال إنه وُلد وفي يده مفكرة مهترئة، يخطّ فيها مهام الغد قبل أن يتعلم نطق اسمه.

كان يعمل كأن الكون يتكئ على كتفيه، وكأن الأمل لا يتنفس إلا عبر أنفاسه المتقطعة. حين تسأله "لماذا؟"، لا يجيب. فقط يبتسم تلك الابتسامة التي تشبه استراحة حجرٍ على جانب جبل، قبل أن يتدحرج من جديد نحو القاع.

الناس قالوا عنه أشياء كثيرة. بعضهم اعتبره خارقًا، وآخرون ظنوه بليد الشعور، لكنه كان ببساطة إنسانًا، يحمل في داخله فرنًا دائم الاشتعال اسمه "الإرادة"، يخبز فيه أيامه المليئة بالوجع والاحتمال.

يقطع الطريق بعينين مغمضتين، لا عن ضعف بصر، بل لأنه يعرف المدينة من عدد الخطوات التي مشاها وهو يحمل طفله، ووجع ظهره، وفاتورة الكهرباء المؤجلة في جيبٍ مثقوب بالأمل.

في إحدى المرات، قال لصديقه ساخرًا: "أنا لا أعيش، أنا جدول مهام يمشي على قدمين". ضحك، لكن تلك الضحكة كانت أشبه بتنهيدة شخص يتذكر أنه نسي أن يحزن.

ومع ذلك، ثمة عظمة لا تُرى في قدرة المرء على توزيع نفسه بين أدوار لا تنتهي: أبٌ في الصباح، موظف في الظهيرة، طباخ بعد المغرب، ومستمع محترف في ساعات الضياع. هو ذلك البطل الذي لا تذكره الأساطير، لأنه ببساطة لا يملك عباءة، فقط قميصًا مبقعًا بحليب الأطفال.

تقول السيريالية: "كل شيء ممكن في الحلم". لكن الواقع أكثر غرابة، ففيه امرأة تُدير شركة ومطبخًا ومشاعر متقلبة لطفلين ومراهق، وتفعل كل هذا دون أن تفقد ظلال عينيها. أليست هذه سريالية الحياة اليومية؟ 

وفي خضم هذه الحياة المتشابكة، هناك من لا يطلب شيئًا، فقط يعطي. يمنحك نصف برتقالته ولا يقول لك إنه لم يأكل منذ يومين. يرسل لك رسالة "هل تحتاج شيئًا؟" في ذروة تعبه. هو الذي يختبئ خلف عبارة "أنا بخير" بينما كل خلاياه تصرخ "أنا منهك".

ولعل أجمل ما في هؤلاء الناس، أنهم لا يرون أنفسهم عظماء. هم فقط يسيرون. كما لو أن العطاء هو تنفسهم، والتحمل هو نغمة قلبهم. كأن وجودهم بحد ذاته نوع من الموسيقى التي لا تسمعها إلا الأرواح المتعبة.

وليس هذا كل شيء، فهناك نوع نادر من البشر، يمتلكون شيئًا أغرب من الصبر أو العطاء. لديهم بصيرة. ترى فيك ما لم تره أنت يومًا. ينظر إليك، لا بعين الواقع، بل بعين الإمكانية. هو لا يرى رجلًا مهزومًا، بل فنانًا نائمًا. لا يرى فتاةً يائسة، بل قائدة مقيدة بالخوف. وجودهم في حياتنا كأنك وجدت مرآةً تعكسك كما يجب، لا كما أنت.

وقد تسأل: "لماذا يفعلون كل هذا؟" لا أحد يعرف. ربما لأنهم يخافون أن ينطفئ العالم إن لم يبقَ فيه مَن يضيء. أو لأنهم عقدوا اتفاقًا سريًا مع الحياة: "لن نشتكي، فقط دعينا نحاول". 

وأحيانًا، وسط هذا العطاء اللامحدود، يتسلل إليهم الشك، كفأرٍ في سقف الليل، يسألهم: "ألا يراك أحد؟ ألا تتعب؟" فيبتسمون بمرارة كوميديا سوداء، كما لو أن الحياة مشهد مسرحي طويل، والجمهور خرج في الاستراحة ولم يعد.

لكنهم يستمرون، لأنهم إذا توقفوا، سيتوقف شيء آخر. شيء أكبر من المهام والروتين. شيء اسمه الإنسانية.

هذه ليست قصة بطولات خيالية. هذه مذكرات غير مكتوبة لمن قرروا أن يكونوا الركيزة التي لا تنهار، والماء الذي لا يشتكي من الظمأ، والمصباح الذي يحترق ليهدي غيره.

إنها ليست رحلة عادية، بل نشيدٌ سرّي لأبطال مجهولين، أبطال لا يحاربون بالبنادق، بل بالصبر، ولا ينتصرون في ساحات القتال، بل في ممرات الحياة اليومية.

هؤلاء هم الذين تستند عليهم الحياة في صمت... وتبتسم لهم الأقدار في الخفاء.

جهاد غريب 
يونيو 2025

اعترافاتٌ تُكتَبُ بِنارِ الرُّوحِ وقَبضَةِ القَمَرِ!

 
اعترافاتٌ تُكتَبُ بِنارِ الرُّوحِ وقَبضَةِ القَمَرِ!


"هٰذِهِ لَيْسَتْ رَسائِلَ عاديَّةً...
بَل شَظايا روحٍ أَحرَقَها الاِنتِظارُ،
وقَطَراتُ دَمٍ كُتِبَتْ بِحُروفٍ مِن ضَوْءِ القَمَرِ...
كُلُّ كَلِمَةٍ هُنا هِيَ جُرْحٌ يَبحَثُ عن ضِمادِ الحُبِّ،
وَكُلُّ حَرْفٍ هُوَ قَبضَةٌ تُمْسِكُ بِآخِرِ خُيوطِ الأَمَلِ...
اِقرَأْها كما تُقرَأُ النُّبُوءَاتُ القَديمَةُ:
بِقَلْبٍ مَفْتوحٍ،
وَعَيْنَيْنِ لا تَخافانِ مِنَ النَّظَرِ في المِرآةِ" 


(1)
يا مَن تُنصِتُ لِقَلْبي قَبْلَ أنْ تَسْمَعيني...


كَيْفَ لا أَثِقُ بِصَرْخَةِ روحٍ جَعَلَتْ مِن أَعماقِها مِرآةً تُريني نَفسي كما لَمْ أَرَها مِن قَبْل؟
لَقَدْ جَعَلْتِ مِن حُروفِكِ خَريطةً تُرْشِدُني إِلى كُلِّ الأَماكِنِ الَّتي لَمْ أَكُنْ أَعرِفُ أَنَّ روحي قَدْ زارَتْها.

أَعرِفُ ذٰلِكَ الوَطَنَ الخَياليَّ الَّذي بَنَيْناهُ مَعًا...
كُلُّ زاوِيَةٍ فيهِ تَحمِلُ بَصْمَةَ أَصابِعِنا الَّتي لَمْ تَلتقِ بَعدُ،
لٰكِنَّها عَرَفَتْ طَريقَ بَعضِها في الظَّلامِ...
هُنا... تَحتَ جِلْدِ الذَّاكِرَةِ...
حَيْثُ تَكونُ اللَّمَساتُ أَصْدَقَ مِنَ الواقِعِ أَحيانًا.

هَلْ تَعلَمينَ لِماذا أَمنَعُ الذَّوَبانَ أَحيانًا؟
لِأَنَّني أَخافُ أَنْ تَنتَهيَ تِلكَ اللَّحظَةُ الَّتي تَصيرينَ فيها:
"أُنثى بلا تاريخٍ... مُجَرَّدُ روحٍ عارِيَةٍ أَمامَ خالِقِها"
ولٰكِنَّكِ تُجبِرينَني عَلى إِشْعالِها...
لِأَنَّ في عَيْنَيْكِ تَحَدِّيًا يَقول:
"أُريدُ أَنْ أَحرِقَ مَعَكِ، لا أَنْ أَحتَرِقَ مِن دُونِكِ"

نَعَم... أَعتَرِفُ بِأَنَّني اِغْتَرَفْتُ مِنكِ...
ولٰكِنَّني لَمْ أَكُنْ لِأَجْرُؤَ لَولا تِلكَ النَّظْرَةُ الَّتي تَقول:
"خُذْني كما أَخَذَ اللَّيْلُ القَمَرَ... بلا استِئذانٍ"

"الخَيالُ بَيْنَنا لَمْ يَعُدْ مَلاذًا...
بَل صارَ وَطَنًا نَعودُ إِلَيْهِ كُلَّما ضاقَتْ بِنا الأَرْضُ"


(2)
يا مَن جَعَلْتِ مِن صَمْتي لُغَةً تَفهَمينَها...


هَلْ تَعلَمينَ أَنَّ هَمَساتِكِ هٰذِهِ أَصبَحَتِ اللُّغَةَ الوَحيدةَ الَّتي أَفهَمُها بِلا قاموسٍ؟

لَقَدْ حَوَّلتِ ضَعفَكِ إِلى قُوَّةٍ تُمْسِكُ بِخُيوطِ روحي وكَأَنَّها أَوتارُ عُودِكِ السِّحريِّ.

في تِلكَ المَسافَةِ بَيْنَنا،
حَيْثُ يَذوبُ الاِرتِباكُ كَسُكَّرٍ في شايِ القَمَرِ،
أَقولُ لَكِ:
"لا تَخافي مِنِ انكِشافِ السِّرِّ...
فَحَتَّى لَو عَرَفَ العالَمُ كُلُّهُ،
سَيَظَلُّ سِرُّنا الوَحيدُ هُوَ: كَيْفَ نَستَمِرُّ في الاِختِباءِ داخِلَ بَعضِنا
رَغْمَ كُلِّ هٰذِهِ الضَّوضاءِ!"

مِحرابُنا لَيْسَ لِلْعِبادَةِ،
ولا لِلْجُنُونِ...
إِنَّهُ لِشَيْءٍ أَعْجَزُ عَن تَسميتِهِ...
شَيْءٌ يَجْعَلُ القَيْدَ حُرِّيَةً،
وَالضَّغْطَ رِقَّةً،
وَالألَمَ نَشوَةً لا تَعرِفُها إِلّا الأَرواحُ الَّتي سَبَقَ أَنْ اِحتَرَقَتْ مَعًا في حَياةٍ سابِقَةٍ.

في سَريرِ أَحلامِنا،
سَأَربِطُكِ بِأَحرُفِ الكَلِماتِ الَّتي لَمْ نَكتُبْها بَعدُ،
بِأَنفاسِ الصَّباحِ الَّتي تَسبِقُ القَهوَةَ،
بِهَمَساتِ الوِسادَةِ الَّتي لا يَسمَعُها إِلّا مَن نامَ عَلى جَنبِهِ الأَيْسَرِ.

دِيكتاتوريَّتُنا لَيْسَتْ لُعبَةَ أَطفالٍ...
بَل هِيَ مُؤامَرَةٌ كَونيَّةٌ سَنُوقِّعُ عَلى وَثيقتِها بِدَمِ القَلْبِ، لا بِالحِبْرِ...
مُؤامَرَةٌ لِجَعْلِ كُلِّ قَوانينِ الفِيزِياءِ تَعتَرِفُ بِأَنَّ:
"المَسافَةَ بَيْنَ جِسْمَيْنِ مُتَحابَّيْنِ يُمكِنُ أَنْ تَكونَ صِفْرًا، حَتّى لَو فَصَلَتْ بَيْنَهُما مَجَرّاتٌ"

سَنَضحَكُ لا لِأَنَّ الصَّمْتَ أَبلَغُ...
بَل لِأَنَّ الكَلِماتِ سَتَستَحي مِن نَفسِها عِندَما تَرى كَيْفَ نَتَحاوَرُ بِالأَضْلاعِ وَالشَّرايينِ.

الإِذْنُ؟!
مُنذُ مَتى وَنَحنُ نَحتاجُ إِلى إِذْنٍ لِنَكونَ ما خُلِقْنا مِن أَجلِهِ؟
مُنذُ مَتى وَالكَونُ يَنتَظِرُ أَنْ نُكْمِلَ ما بَدَأْناهُ في زَمَنٍ كانَ القَمَرُ فيهِ قَريبًا،
يَكادُ يَلمِسُ الأَرْضَ. 


(3)
يا مَن تَقطُفينَ أَحْلامي مِن عَيْنَيَّ قَبْلَ أَنْ تَنبُتَ...


كَيْفَ لي أَنْ أَهرُبَ مِن سِجْنٍ أَنْتِ سَجّانتُهُ وَسَجينَتُهُ في آنٍ؟
إِنَّ فَراري سَيَكونُ مُجرَّدَ حيلَةٍ لِأَعودَ إِلَيْكِ بِأَكثَرَ شَراسَةً، كَالمَوْجِ الَّذي يَتَراجَعُ لِيُقيمَ أَعاصيرَهُ.

"أُحِبُّكِ"... كَلِمَةٌ أَخافُ أَنْ أَنطِقَها كَيْ لا تَتَحَوَّلَ إِلى شَهادَةِ وَفاةٍ لِقَلْبٍ لَمْ يَعرِفِ الحُبَّ قَبْلَكِ.
سَأَدفِنُها في أُذُنِكِ كَالكَنزِ الأَخيرِ الَّذي يُواريهِ المَحكومُ قَبْلَ إِعْدامِهِ.

قُبُلاتي بَيْنَ يَدَيْكِ كَالسَّيْفِ ذي الحَدَّيْنِ:
إِمّا أَنْ تَكونَ غَيْمَةً تُطفِئُ حَرائِقَ أَعْماقِكِ،
وَإِمّا أَنْ تَكونَ شَرارَةً تُحرِقُ ما تَبَقّى مِن قُيودِنا.

عِندَما تُهْمِسينَ: "أَنا أُنثاكَ"، تَتَحوَّلُ المَجَرّاتُ إِلى صَدًى يُرَدِّدُ:
"نَعَم... نَعَم... نَعَم"
وَعِندَما تَسأَلينَ: "أَيَكْفيني العالَمُ دُونَك؟"
أَصيحُ:
"لَقَدْ صِرْتِ أَنْتِ العالَمَ كُلَّهُ،
وَما العالَمُ إِلّا هامِشٌ في دَفْتَرِ أَحْلامِنا"

ضَعْفُكِ أَمامِي لَيْسَ اِنكِسارًا...
بَل هُوَ اِنتِصارُ الرُّوحِ عَلى كُلِّ الأَقْنِعَةِ الَّتي أُجْبِرْتِ عَلى اِرْتِدائِها...
وأَمَانُكِ الدّاخِلِيُّ؟
لِأَنَّكِ أَخيرًا وَجَدْتِ مَن يُشارِكُكِ جُنُونَكِ، لا مَن يُشْفِيكِ مِنهُ.

نَعَم، أَنا أَبْحَثُ عَنْ أُنثى...
وَلٰكِنِّي لا أُريدُ أُنثى الأَرْضِ كُلِّها...
أُريدُ أُنثى تُشْبِهُكِ:
نارًا لا تُحرِقُ إِلّا نَفْسَها،
ماءً يَرْوي العَطَشَ وَلا يُغْرِقُ الأَحْلامَ،
صَخْرًا يَصمُتُ أَلْفَ سَنَةٍ لِيَنْطِقَ بِحَرْفِ اِسْمِكِ،
ضَوْءًا يُضِيءُ وَلا يُحرِقُ جَناحَ الفَراشَةِ.

المَسافاتُ بَيْنَنا؟
مُجَرَّدُ حائِطٍ وَهْمِيٍّ نَبْنيهِ كُلَّ صَباحٍ لِنَهْدِمَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ.

سَتَبْقينَ حَبيبَتي...
تِلْكَ الَّتي:
تَكْتُبُ بِالرُّوحِ قَبْلَ الحُروفِ
تُصَلِّي بِنارِ الشَّوْقِ قَبْلَ شُموعِ المَعابِدِ. 

وأَنا؟
سَأَبْقَى ذٰلِكَ السّاحِرَ الَّذي:
يُحَوِّلُ دُموعَكِ إِلى أَنْهارٍ،
يُعَلِّمُ النُّجومَ كَيْفَ تُغَنِّي بِاِسْمِكِ،
وَيَصْنَعُ مِن خَوْفِكِ جَناحَيْنِ يُحَلِّقُ بِهِما الحُبُّ في فَضَاءاتٍ لا يَعرِفُها إِلّا نَحْنُ.


(4)
يا مَن تَكتَشِفينَ أَشواقي قَبْلَ أَنْ أُعلِنَها...


أَتَعلَمينَ كَمْ أُحِبُّ هٰذا الاِنْزِياحَ فيكِ؟
مِن خَجَلٍ يَختَبِئُ خَلْفَ سِتارِ الظَّلامِ...
إِلى صَرْخَةٍ تُزَلْزِلُ جُدْرانَ الصَّمْتِ...
إِنَّهُ تَمَرُّدُ المَشاعِرِ حينَ تَكْتَشِفُ أَنَّ الحُبَّ لا يُقاسُ بِالجُرْأَةِ، بَلْ بِالجُنُونِ الَّذي لا يَعرِفُ حَدًّا.

"لِماذا تَأَخَّرْتِ؟"...
سُؤالٌ سَأَهْمِسُ بِهِ في رَقَبَتِكِ...
لَيْسَ تَوْبيخًا...
بَلِ اِعتِرافًا بِأَنَّ اِنْتِظاري لَكِ كانَ أَجمَلَ مِن كُلِّ اللَّحَظاتِ الَّتي عِشتُها قَبْلَكِ.

أَوجِعيني...
فَأَنا لا أَعرِفُ الأَلَمَ إِلّا طَريقًا إِلى لَذَّةٍ لا يَعرِفُها إِلّا مَن ذاقَ مَرارَةَ الفِراقِ.

أَوجِعيني...
وَلٰكِن لا تَتْرُكيني، 
فَالجِراحُ الَّتي تَترُكِينَها عَلى جَسَدي...
سَتَصيرُ يَوْمًا قَصيدَةً تُغَنِّيها النُّجومُ.

يُوشْوِشُني القَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ: "هِيَ لَكَ"
لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلِماتٍ...
بَل هِيَ قَسَمٌ يُكَرِّرُهُ الكَوْنُ في صَمْتِهِ...
حَتّى التُّرابُ سَيُدرِكُ أَنَّ رُوحَكِ هِيَ الظِّلُّ الَّذي لَنْ يُفارِقَ عِظامي...
حَتّى لَوْ تَحَوَّلْتُ إِلى ذَرّاتٍ في الفَضاءِ.

نارَانِ؟
بَلْ أَلْفُ نارٍ...
وَلٰكِنِّي اِختَرْتُ نارَكِ...
لِأَنَّها الوَحيدَةُ الَّتي تُذيبُني دُونَ أَنْ تَفقِدَني مَعْنايَ.

راحَتي؟
هِيَ تِلْكَ الفَوْضى الَّتي تَصنَعُها أَصابِعُكِ حينَ تَبحَثُ عن قَلْبي في الظَّلامِ...
هِيَ الصَّرْخَةُ الَّتي لا يَسمَعُها إِلّا مَن يَعرِفُ كَيْفَ يَقرَأُ الصَّمْتَ.

لا تَتَراجَعي عَنْ جَرحي، 
فَالنُّدوبُ الَّتي تَتْرُكِينَها عَلى رُوحي...
هِيَ الوَشْمُ الوَحيدُ الَّذي سَأَفْتَخِرُ بِهِ أَمامَ اللهِ يَوْمَ الحِسابِ.

وَإِذا صَمَتُّ يَوْمًا...
فَاعْلَمي أَنَّ كُلَّ نَبْضَةٍ في قَلْبي...
سَتَظَلُّ تُنادِي اِسْمَكِ...
بِلُغَةٍ لا يَفْهَمُها إِلّا المَلائِكَةُ، 
وَسَتَظَلُّ يَدايَ مَمْدودَتَيْنِ إِلَيْكِ...
حَتّى لَوْ تَحَوَّلْتُ إِلى تُرابٍ.


(5)
يا مَن تَجْعَلِينَ مِن صَمْتِكِ وَحْيَ السَّماءِ إِلَيَّ...


كَيْفَ لي أَلّا أَسْتَسْلِمَ لِهٰذا البَوْحِ الَّذي يَأْتي كَالنَّدَى،
يُبَلِّلُ أَحْلامي قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَ دُمُوعَكِ؟
هٰذِهِ الرِّسالَةُ لَيْسَتْ نارًا تُحرِقُنا،
بَلْ هِيَ الفَجْرُ الَّذي يَفْدينَا مِن ظُلْمَةِ الصَّبْرِ.

لا تَقْلَقِي...
فَقَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ السَّفينَةَ وَالعاصِفَةَ في حَياتِكِ،
أَحْتَضِنُ أَمْواجَكِ العاتِيَةَ كَما أَحْتَضِنُ هُدوءَكِ البَحْرِيَّ...
وَأَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ عاصِفَةٍ تَخْتَبِئُ في داخِلِها طِفْلَةٌ تَرْعَشُ مِن البَرْدِ،
تَبْحَثُ عَنْ دِفءٍ لَمْ تَجِدْهُ إِلّا بَيْنَ ضُلُوعي.

قَبَّلْتُ غَضَبَكِ كَما أُقَبِّلُ القَمَرَ حينَ يَخْتَبِئُ خَلْفَ السُّحُبِ،
لِأَنَّ كِلاكُما جُزءٌ مِن سَمائي...
وَكِلاكُما يَمْلِكُني.

لَسْتُ بِحاجَةٍ لِتَبْريرٍ...
فَقَدْ صِرْتُ أَفْهَمُ أَنَّ الصُّراخَ هُوَ لُغَةُ الرُّوحِ حينَ تَعْجِزُ الكَلِماتُ،
وَأَنَّ هٰذِهِ الوَرْطَةَ الَّتي وَقَعْنا فيها مَعًا،
هِيَ أَجْمَلُ ما كَتَبَهُ القَدَرُ بِحِبْرِ القَلْبِ،
لا بِحِبْرِ العَقْلِ.

لَنْ أَتْرُككِ...
حَتّى لَو أَمْسَكْتِ بِيَدَيَّ وَطَلَبْتِ مِنِّي الذَّهابَ،
فَما أَنْتِ إِلّا وَطَني...
وَمَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَ وَطَنَهُ؟

لا تُخْفِي شَيْئًا...
فَقَدْ صِرْتُ أَقْرَأُ في عَيْنَيْكِ ما لَمْ تَكْتُبِيهِ،
وَأَسْمَعُ في صَمْتِكِ ما لَمْ تَنْطِقي بِهِ.

أَمّا حاجَتي إِلَيْكِ؟
فَهِيَ كَالشَّمْسِ الَّتي لا أَسْتَطيعُ العَيْشَ بِدونِها،
ولا أَسْتَطيعُ النَّظَرَ إِلَيْها...
هِيَ الحَياةُ الَّتي أَخافُ أَنْ أَعيشَها،
وأَخافُ أَلّا أَعيشَها.

"أُحِبُّكِ"...
لَيْسَتْ كَلِمَةً...
بَلْ هِيَ دَمْعَةٌ تَسْقُطُ مِن عَيْنَيَّ،
فَتَحْوِي كُلَّ البِحارِ.


(6)
يا مَن حَوَّلتِ جُنوني إِلى مُناجاةٍ بَيْنَ يَدَيِ الخالِقِ...


كَيْفَ أَمْنَعُكِ مِن عُبورِ الخُطوطِ الَّتي رَسَمْتُها بِدَمي؟
أَنا الَّذي بَنَيْتُ الجُدرانَ عاليًا،
لِكَيْ يَكونَ اِختِراقُها أَحْلَى اِنتِصارٍ لَكِ.

لَقَدْ عَلَّمْتُكِ يَوْمًا كَيْفَ تُحِبِّينَ،
فَعَلَّمْتِني اليَوْمَ كَيْفَ أُصَلِّي بِحُرْقَةِ العاشِقينَ...
كَيْفَ يَكونُ الاِحتِراقُ صَلاةً،
وَالصَّمْتُ تَرْنيمَةً لا يَفْهَمُها إِلّا مَن ذاقَ وَجَعَ الفِراقِ.

"لا تَغيبي"...
كَلِمَةٌ سَأَقولُها وَأَنا أَعلَمُ أَنَّكِ لَنْ تَسْمَعيها...
لِأَنَّ غِيابَكِ هُوَ الطَّريقُ الوَحيدُ لِعَوْدَتِكِ إِلَيَّ...
عَوْدَتُكِ كَالرَّيْحانِ بَعْدَ القِطافِ،
أَكثَرَ عَطَرًا،
وأَشَدَّ تَوْقًا.

حَتّى لَوِ اغْتَسَلْتِ بِماءِ الثَّلْجِ،
سَتَبْقينَ تَحمِلينَ نارًا لا تُطفِئُها المُحيطاتُ...
نارٌ أَشْعَلْتُها أَنا فيكِ،
وَأَشْعَلْتِها أَنْتِ فيَّ.

أَنْتِ لَسْتِ مَجْنُونَةً...
بَلْ أَنْتِ اِمْرَأَةٌ وَجَدَتْ أَخِيرًا لُغَةً لِجَسَدِها،
لُغَةً لا يُتْقِنُها إِلّا مَن قَرَأَ أَسْرارَ رُوحِكِ.

وَما تَفْعَلينَهُ لَيْسَ ذَنْبًا...
بَلْ هُوَ حُبٌّ سَيُدَوِّي صَداهُ في سِجِلّاتِ المَلائِكَةِ،
حُبٌّ سَيُخَلِّدُنا بَعْدَ أَنْ نَتَحَوَّلَ إِلى تُرابٍ.

عِندَما تَمْحينَ رَسائِلَكِ،
أَعْرِفُ أَنَّكِ تَتْرُكينَ بَيْنَ السُّطورِ جِراحًا،
جِراحًا سَتُزْهِرُ يَوْمًا وَرْدًا في حَديقَةِ قَلْبِكِ.

لا تَخافي...
فَأَنا لَنْ أَكونَ إِلّا المَرْفَأَ الَّذي تَعودينَ إِلَيْهِ،
حَتّى لَوْ تَحَوَّلَ المَرْفَأُ إِلى سَفِينَةٍ،
وَالسَّفِينَةُ إِلى نَجْمَةٍ في سَماءِ الغُرَباءِ.

"لا تَسْألي الإِذْنَ"...
فَأَنْتِ سَيِّدَةُ قَلْبي قَبْلَ أَنْ تُولَدي،
وَصاحِبَةُ رُوحي بَعْدَ أَنْ أَموتَ.

وَعْدُنا؟
هُوَ العَهْدُ الَّذي كَتَبْناهُ بِأَصابِعِنا المُتَشابِكَةِ،
قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ العالَمُ كَيْفَ يُحِبُّ.


(7)
يا مَن تَمْلِكينَ مِفْتاحَ رُوحي قَبْلَ أَنْ أُسَلِّمَكِ إِيّاهُ...


كَيْفَ أَقْبَلُ هٰذا العَطاءَ الثَّمينَ،
وَأَنا أَرى في عَيْنَيْكِ أَلْفَ حاجَةٍ مَكْبوتَةٍ؟
كُلُّ تَنازُلٍ عَنْ رَغْبَةٍ هُوَ إِغْراقٌ جَديدٌ في بَحْرِ شَوْقي،
وَكُلُّ كَلِمَةٍ لا تَقولينَها هِيَ قَصيدَةٌ جَديدَةٌ أَسْمَعُها في صَمْتِ اللَّيالي.

صَمْتي لَيْسَ جُبْنًا...
بَلْ هُوَ لُغَةٌ خاصَّةٌ اِخْتَرَعْناها لِنَقولَ ما لا يُقالُ...
لُغَةُ الأَجْسادِ الَّتي تَتَناجى قَبْلَ أَنْ تَلْتَقي،
وَالأَرْواحِ الَّتي تَتَعانَقُ قَبْلَ أَنْ تَتَعارَفَ.

حِضْنُكِ؟
لَوْ كانَ بَيْنَنا...
لَصارَ سِجْنًا جَميلًا نَخْتَفي فيهِ عَنْ أَعْيُنِ الدُّنْيا،
سِجْنًا نَبْنيهِ مِن أَنْفاسِنا،
وَنُقْفِلُهُ بِقُبُلاتٍ لا يَعْرِفُ سِرَّها إِلّا اللهُ.

سَلامي؟
هُوَ تِلْكَ الحَرْبُ الَّتي لا تَنْتَهي...
حَرْبٌ بَيْنَ العَقْلِ وَالقَلْبِ،
بَيْنَ الواجِبِ وَالرَّغْبَةِ،
بَيْنَ ما يَجِبُ أَنْ أَكُونَ وَما أُريدُ أَنْ أَكُونَ.

المَسافاتُ بَيْنَنا؟
هِيَ تِلْكَ اللُّعْبَةُ الَّتي نَلْعَبُها لِنُخادِعَ أَنْفُسَنا،
لِنَشْعُرَ أَنَّنا أَقْوِياءُ،
وَنَحْنُ في الحَقيقَةِ أَضْعَفُ مِمّا نَتَصَوَّرُ.

لا تَتَراجَعي عَنْ جُنُونِكِ...
فَأَنْتِ الوَحيدَةُ الَّتي تَجْعَلينَني أَشْعُرُ أَنَّني حَيٌّ،
وَأَنَّ هٰذا القَلْبَ ما زالَ يَنْبِضُ،
وَأَنَّ هٰذِهِ الرُّوحَ ما زالَتْ تَشْتَعِلُ.

كُلُّ حَرْفٍ كَتَبْتِيهِ سَيَظَلُّ يُرافِقُني...
كَصَوْتِ البَحْرِ في قَوْقَعَةِ الذِّكْرَياتِ،
كَعَبيرِ زَهْرَةٍ جَفَّتْ مُنْذُ زَمَنٍ،
كَصَدًى لا يَنْتَهي.


نَفَسٌ أَخِير...

لا أدري إنْ كانت هذه الكلماتُ نهايةَ البَوحِ، 
أمْ بدايةَ نبوءةٍ أخرى تُكتَبُ في العَتَمةِ...

لكنّي أعلمُ أنَّ ما كُتِبَ هُنا،
لم يكن مجرّدَ اعترافٍ،
بل تَطهيرًا بالكتابةِ من كلِّ ما لم يُقَلْ في وجعِ الحنين.

نعم، كُتِبتْ هذه الحروفُ بنارِ الرّوحِ،
لكنّها لم تُحرقْ أحدًا...
بل كانت قبلةً على جبينِ الغياب.

وبينَ كلّ سطرٍ وسطر،
كان قلبي يُملي،
وكانت روحُها تُمسكُ بالقلمِ من الجهةِ الأخرى.

ربما لن تصل هذه النصوصُ إليها أبدًا،
لكنّ القمرَ سيتكفّلُ بإيصالها،
لأنّه الوحيدُ الذي يعرفُ كيفَ يُخبّئُ رسائلَ العشّاق
في ضوءٍ لا يُفْهَمُ إلّا إذا أُطفئتْ كلُّ الأنوار.

كلُّ ما أردتُه،
هو أن تَشعرَ أنثى ما، في زمنٍ ما،
أنَّ هناكَ رجلًا كتبَ عنها كما تُكتَبُ الكواكبُ في كتبِ الفلك القديمة.

وأنتِ؟
ستظلينَ تلك التي عرفتُها من صمتِها،
وأحببتُها قبل أن تنطق،
ورأيتُها بقلبي،
حتى لو أغمضتُ عينيَّ إلى الأبد.

جهاد غريب 
يونيو 2025 

الأحد، 29 يونيو 2025

تأملات في خفوت الوجود!

 
تأملات في خفوت الوجود! 

"أحيانًا، لا نغادر المكان... بل ننسحب من الذاكرة، بهدوء من لا يريد أن يُفتقد" 

في لحظاتٍ نادرة، يتكثّف الزمن ويتحوّل إلى مرآة عميقة، نطلُّ منها على هشاشة أنفسنا. لا نبحث عن أجوبة، بل نُصغي لما لا يُقال، لما لا يُدوَّن في الكتب ولا يُفهم بالعقل. هناك، في ذلك الفراغ الذي يسبق الانكسار، تبدأ الحكاية.

كيف يُقاس الفراغ الذي يخلّفه غياب؟ هنا، حيث تتشقق الخطوط المستقيمة الدقيقة في هندسة الشعور، يصير الانسحاب فنًّا هندسيًّا دقيقًا: زواياه حادّة كجرحٍ لم يندمل، ومساحته تُحسَب بضحكاتٍ لم تكتمل.

المرء لا يغادر المكان، بل ينسحب من ذاكرة الجدران، كما ينسحب الدفء من غرفةٍ مهجورة... ببطء، وبلا مقاومة. يُزيح ظلّه كما تُزيح الروح ذكرى قديمة، لا بحركة واحدة، بل عبر خفوتٍ طويل لا يُرى، كأنّه كان مجرّد أثرٍ من طباشير نسيه الزمن على لوحة الوجود، فيتلاشى تدريجيًّا، كأنّه لم يكن سوى بقايا ضوءٍ عَلِقَ ذات مساءٍ على الحائط. أما ذلك الأثر فيبقى... كرجع صوتٍ ضاع في الفراغ، أو كرسالةٍ عالقة في زجاجةٍ تطفو على المحيط. 

وما بين الانسحاب والاختفاء، ثمّة فجوة عاطفيّة شاسعة... منطقة لا تحكمها قوانين الفيزياء، بل قوانين القلب المعلّق في فراغ. هناك، حيث تتجمّد المشاعر كآثار أصابعٍ مرتجفةٍ على زجاج الشتاء، يعلن الإنسان تأسيس مملكته الخاصة: دستورها الصمت، وعملتها الذكريات الملغاة. 

في هذا الهامش الصامت، لا مكانَ للقُبَلِ الطائشةِ ولا للدموعِ الثائرة. كل شيء معلّق في حيّز رمادي، كسحابة ثقيلة ترفض أن تمطر أو تتبدد، حتى الحب هنا يصير كائنًا بيولوجيًا تحت المجهر، يُشرّح ببرود المختبر، ثم يُحفظ في جرار النسيان المغلقة على روائح الذكرى. 

لكن حتى في أكثر المناطق عزلةً، ثمّة نبض خفي يخترق الجدران... نبض يتحوّل مع الوقت إلى حدود جديدة للوجود!، فالقلب ليس مجرّد عضلة تضخ الدم، بل هو رسّام صامت يرسم حدود العلاقات بمدادٍ من نبض وذكريات، وعندما يصبح النبض هو الحد الفاصل بين الحضور والغياب، ندرك أننا لسنا سوى مسافات بين دقّات متعبة، تحاول أن تحافظ على إيقاعها وسط صمتٍ داخلي. فلا ندري إن كانت تُبقي علينا، أم تُذكّرنا بأننا لم نغادر بعد.

في هذه المملكة الخفية، كل نبضة جسرٌ يعبر إلى عالم آخر: نبضة تعيد لك طفولتك، وأخرى تودّعك عند شاطئ رحيل لا عودة منه. والحدود هنا ليست خطوطًا على الخرائط، بل إيقاعات تُقاس بترانيم داخلية لا يسمعها أحد سواك.

ومع كل عبور، تترصّد خلف الحدود ظلالٌ لا تُلام ولا تُدرك، كسرابٍ في صحراء اللاوعي. هي الشاهد الأبدي على ما فات، والشبح الذي يلاحق كل خطوة إلى الأمام. لا يُمسك به أحد، لأنه ليس شيئًا، بل فراغ متحرّك... كالضباب الذي يلف الأشجار ثم يتبدد مع أول شعاع شمس.

الظل هنا ليس مجرّد غياب للضوء، بل هو الوجه الآخر للوجود: يُذكّرنا بأننا حتى في لحظات اتّزاننا الظاهري، نحمل داخلنا فراغًا لا يُملأ. هو الرفيق الذي لا يُختار، والشاهد الذي لا يشهد لأحد.

كلّ ما سبق لا يمثّل مشاهد متفرّقة، بل عزفًا متّصلًا على أوتار الوجود: انسحاب يولد من رحم العزلة، عزلة تتشكّل في نبضٍ يرتب الحدود، وحدود تفتح الباب للظلال التي تلتصق بنا كما يلتصق الليل بجدران المدن.

ربما لا ننجو من هذه السيمفونية، لكننا نصغي لها رغمًا عنا، نعيش حركاتها الأربع كما لو كانت دورة تنفس الوجود: شهيق انسحاب، زفير عزلة، خفقة حدود، وسكون ظلٍّ لا يغادر.

وهكذا، نكتب روايتنا... لا بالحبر وحده، بل بالفراغات، بالنبضات، وبالظلال التي تنام في أعيننا حين نظنّ أننا أخيرًا قد أغمضناها للراحة.

جهاد غريب 
يونيو 2025


السبت، 28 يونيو 2025

الرحلة الداخلية: بين سطوة البصيرة وحاجز الكلمة!

 
الرحلة الداخلية: بين سطوة البصيرة وحاجز الكلمة!

في عزلة البصيرة، يتكشّف للإنسان ما لم يكن مرئيًا حين كانت الحياة تندفع من حوله كعاصفة!، ومن مفارقات هذه الرحلة نحو الداخل أن يبلغ المرء من الوضوح مع ذاته حدًّا يُصبح فيه التواصل مع الآخرين عبئًا لا حاجة له. 

الفهم العميق للنفس، في ظاهره، هبة، لكنه في عمقه المجهول قد يتحوّل إلى سجن ذهني محكم، تُغلق أبوابه من الداخل باسم الاكتفاء، وتُعلّق على جدرانه عبارات العزلة المغلفة بالحكمة.

هنا، يُولد ما يمكن تسميته بالاستبصار الوجودي، حين لا تكتفي النفس برؤية ذاتها، بل تبدأ بفك شيفرة دوافعها، والتنبؤ بردود أفعالها، بل وحتى صياغة الردود المتوقعة ممن حولها. 

يصبح المرء قادراً على تشخيص حالته الداخلية بتفصيلٍ حادّ، ويقرأ النصائح قبل أن تُقال، ويُحاور الغير في داخله قبل أن ينطق أحدهم بكلمة. 

ذلك الصدى الخارجي المأمول يُستبدل بصوت داخلي يشبهه كثيرًا، فيفقد الآخر دوره ويبهت الحضور الإنساني أمام سطوة المعرفة الذاتية.

لكن الغرابة لا تقف هنا، بل تتعمق حين يشعر الإنسان بأن ذاته باتت تكتفي بنفسها، قادرة على تضميد جراحها ومواساتها، تضيء ظلامها الخاص، وتجد في داخلها مشاعل تُرشدها، حتى دون الحاجة إلى إشارات خارجية. 

حوار داخلي متواصل، مثل نهر لا يتوقف، يروي عطش الروح في مواسم الجفاف، ومع هذا، تنشأ حاجة دفينة، كأنها صوت فطري يعود من طفولة الإنسان الأولى: الحاجة إلى البوح، إلى الفضفضة، إلى أن يشعر أن هناك من يسمع، لا ليُعلّق، بل ليحضر. لا ليُصلح، بل ليكون.

وهنا يكمن التناقض المؤلم!، فعندما يقرر أن يتحدث، تعترضه جدران التوقع. يعرف سلفًا ما سيُقال، ويكاد يسمع النصيحة المكررة تتسلل إليه قبل أن يُكمل الجملة، فيشعر بثقل التعبير، وكأن كلماته مفرغة من القيمة!، ليس لأن معاناته تافهة، بل لأن الرد المتوقع صار مألوفًا، كوجبة قديمة يعاد تقديمها في كل مناسبة. 

هذه النصائح، مهما حَسُنت نواياها، لا تروي عطش البوح، بل تزيده عطشًا، لأن الإنسان في لحظة ضعفه لا يطلب الحل، بل الحضن الرمزي، الاعتراف، الصمت المتفهّم، النظرة التي لا تُسأل ولا تُجيب.

ومع كل ذلك، يبدو الفهم العميق للذات وكأنه تحرر. معرفة مكامن القوة والضعف، وإدراك آليات التفكير، والقدرة على قيادة المشاعر إلى برّ الأمان.

لكن هذا التحرر ذاته يُمكن أن يتحول إلى قيد آخر: قيد العزلة العاطفية!، تلك العزلة التي تُخفي تحتها يقينًا داخليًا يقول إن لا أحد سيضيف جديدًا. فهل يكفي أن نُدرك الحلول؟ أم أننا نحتاج إلى أن يشارِكنا الآخرون طريقنا إليها، حتى لو مشوا معنا بصمت؟

ربما في لحظة ما، يتضح أن الحكمة لا تكمن في اختيار الداخل على حساب الخارج، ولا العكس، بل في إعادة اكتشاف التوازن المفقود بين الاثنين. 

الفهم الذاتي ليس نهاية الرحلة، بل بداية نضج مختلف!، نضج يعرف أن الآخر لا يُنتظر منه أن يكون مدهشًا أو مُلهِمًا، بل صادقًا، ربما لا يأتي هذا الآخر بفكرة جديدة، لكنه يأتي بحضوره، بحقيقته، وبلمسة إنسانية تُكمل ما تعجز الذات، في عزّ بصيرتها، عن منحه لنفسها.

وهكذا، تمضي رحلة الفهم الذاتي كمسار بطولي نحو نور داخلي يشق عتمة الوعي!، لكنها، في الوقت نفسه، تَنسج خيوط عزلتها الرقيقة حول الروح، فتجعل الكلمات تبدو فقيرة، والتواصل يبدو مُعادًا، وكأنك تقرأ من كتاب تعرف نهايته. 

غير أن التحدي الحقيقي لا يكمن في إسكات هذا النور، بل في السماح له بأن يُطلّ من نوافذه الصغيرة نحو الخارج، دون أن يتوقع شيئًا محددًا. يكفي أن نُجرّب البوح دون انتظار معجزة، لأن المعجزة الحقيقية قد تكمن في أن تجد نفسك مفهومًا، حتى من شخصٍ لم يقل شيئًا.

ففي لحظة الصدق الإنساني، حيث يعترف كلٌّ منّا بألمه أمام الآخر، دون أقنعة، دون نصائح، دون محاولات تبرير أو تفسير… قد يولد نوعٌ جديد من الفهم!، فهم لا يُلغي بصيرتنا الداخلية، بل يؤنس وحدتها، ويمنحها ظلًّا بشريًا لا يمكن للوعي، مهما بلغ من عمق، أن يصنعه وحده.

ربما كان السؤال الأهم هو: كيف نحافظ على ذلك الضوء الداخلي حيًّا، دون أن نحجبه عن الشمس الخارجية؟ كيف لا يتحوّل فهمنا لأنفسنا إلى حصنٍ نختبئ فيه، بل إلى جسرٍ نعبر به إلى الآخر؟ 

وحده هذا الجسر كفيل بأن يُحوّل العزلة إلى حوار، والبصيرة إلى حضور، والمعرفة إلى معنى مشترك.

جهاد غريب 
يونيو 2025

سفينة الشك!

 
سفينة الشك!

يا صاحبةَ الجلالةِ،
كأن لسانَ حالكِ يهمس:
"أحببتُ فيكَ: العلوَّ والكبرياء،
وكرهتُ فيكَ: صَلَفَ العروشِ والجبروت".

وأنا... المعصومُ من ظنونكِ والأوهام،
لكن مشكوكٌ فيَّ: نُبلٌ ووفاء!

يا صاحبةَ الجلالةِ،
لا هذا أنا… ولا ذاك،
ولا أرجو إلا رضاكْ.
لكني لستُ أشقى 
بالظنون فوق الثرى،
بل في كلِّ جرمٍ سماويٍّ
يلقي بظلِّ الدجى...

وفي عينيكِ —
لي بصمةُ غضبٍ
كالصواعقِ حين تتفتَّت.
وفي صدركِ
ادّعاءٌ كالشَّرَكِ الموجِع،
يهزمني صباحًا:
عتابٌ كالوخزِ الغائر،
ويُذيبني مساءً:
لومٌ يتسلَّل كالسُّمِّ في الروح.

ولو أني سفينةُ شكٍّ
في فضاءٍ لا ضفافَ له،
لغرقت...
ولم يُنْجِ النجمُ مَنْ يغرق!

يبدو الفردوسُ
واقفًا على الناصية الأخرى،
ونحن — يا جلالةَ الحلمِ —
نقلِّبُ أوراقَ العمرِ الخاوية،
كأننا نبحثُ عن صدفةٍ
ضاعت بين طيّاتِ الريح…

حتّى بتنا كساهرينَ مسحورينَ،
نمشي...
لكننا على الدربِ
نمرُّ كالغرباء،
نحملُ بيننا أنهارًا من الصمت،
ونخبِّئُ تحت أجنحةِ الليلِ
أسرارًا محطَّمةً:
متى يكون اللقاء؟

لكنَّ السماءَ تأبى
أن تمسحَ دموعَ الأقمارِ المشتَّتة...

وتبقى صاحبةُ الجلالةِ
تُنزلُ قوانينَ المطر
بلا رحمة.

أما أنا...
فقنديلٌ وحيدٌ
ينطفئ شيئًا فشيئًا
في مرايا الفضاء.

أيعقل أنني كنتُ مجرّد ربّانٍ
ضلَّ خارطةَ اليقين،
يُبحرُ بسفينةٍ من الشكِ 
في محيطٍ من الظنون…
ينظرُ إلى النجوم،
لا ليهتدي،
بل ليعتذر من الله
أنَّه لم يؤمن بقلبٍ مطمئن؟

ربما لم أكن سوى سؤالٍ
عالقٍ في فمِ الغيابِ، 
ينتظرُكِ…  
ولا يدري:  
أأنتِ الميناء؟  
أم العاصفة؟  
أم ظلٌّ يتبخَّرُ مع شروقِ الغياب؟


جهاد غريب 
يونيو 2025

أربعةُ أوجُهٍ للصمتِ والضوء: رحلةٌ بين المرايا والأسئلة!

 
أربعةُ أوجُهٍ للصمتِ والضوء: رحلةٌ بين المرايا والأسئلة!  
(مرآةٌ للذين يصغون للضوء بصمت)

السؤالَ كان الكائنَ الأول الذي خُلقَ من رحم الدهشة، وكلُّ ما تلاه كان مجرّد محاولاتٍ لترويض هذا المولود الذي لا ينام. الكلماتُ هنا ليست نصوصًا ولا وصايا، بل شظايا تتناثر من مرآةٍ سقطت فجأة، كلُّ قطعةٍ منها تعكس شيئًا من الضوء وشيئًا من الجرح. ما تقرؤه الآن ليس تسلسلاً، بل رحلةٌ في نفقٍ يشتبك فيه العتم بالنور، والحكمةُ بالوجع، والصمتُ بالصراخ: 

في القاعِ حيثُ لا ظلَّ يُبقي شيئًا على حاله، تقفُ المرايا صامتةً كشهودٍ على محاكمة الوجود!، لا تعكسُ سوى العتمة، ولا تُجيبُ سوى بالصمت، كأنّها عيونٌ أُغلقتْ بقسوةٍ، أو ذاكرةٌ مُعلَّقةٌ بين الموتِ والولادة. نحنُ ننظرُ فيها فلا نرى إلا تشوّهاتنا، ولا نلمسُ إلا أسئلتنا العارية. 

هل المرآةُ تُكرّرنا أم تُلغينا؟ هل نحنُ إلا انعكاسٌ لشيءٍ لم يعد موجودًا؟ المرايا لا تكذب، لكنّها تنتظرُ أن يولدَ النورُ من رحمِ عتمتها، فإذا تحدّث النور، خرج من شرنقةِ الظلامِ لا كشعاعٍ يُضيء، بل كحكايةٍ تتسرّبُ إلى العصبِ وتربكُ النبض. ليسَ ضوءًا وحسب، بل ذاكرةٌ قديمةٌ تتذكّرُ ما لم يُروَ. هو الحرفُ الأولُ في كتابِ الكون، والوشمُ الأخيرُ على جلدِ الزمن!، عندها، تتراجعُ المرايا خجلةً، لأنّ النورَ لا ينعكسُ على السطح، بل ينحتُ العمق.

الكلماتُ التي ينطقُ بها ليستْ إجابات، بل مفاتيحٌ لأبوابٍ لا تُفتحُ إلا بدمِ الأسئلة!، وللفهم شروطٌ لا ترحم. هو ليس نَفَسًا يُمنح، بل امتحانٌ يُسحب من الروح. أن تخلعَ القناع كأنك تخلع جلدك، وأن تخطو بين المعنى والمعنى فوق جراحٍ مفتوحة. الفهمُ ليس هديةً، بل دينٌ لا يُسدّدُ إلا بالنزيف. تمسكُ بيدِ الحقيقة، فتجردها من أظافرها، ثم تكتشفُ أنك كنتَ تُسلخ ببطءٍ طيلة الوقت. 

عندما يصيرُ الفهمُ جُرحًا، تصيرُ الحقيقةُ صرخةً تُعيدُ ترتيبَ العالم، وحين لا تعود الكلماتُ كافية، يخرج الصراخ. لا من فمٍ، بل من باطنِ الأرض. لا بوصفه ضعفًا، بل كزئيرٍ يشقُّ جدارَ اليقين. الحقيقةُ لا تُقالُ بهدوء، لأنّ الوجودَ نفسَه لم يُخلَق بصمت. 

تُطلَق كرصاصةٍ نحو ساحةِ المعنى، وتُخلّف أثرًا لا يُمحى. أحيانًا نسمعها صدى، وأحيانًا نراها في اللمعانِ الغامضِ لعيني الليل. فإذا طاردتْك، فاعلمْ أنّكَ من بدأ المطاردة. وهكذا، بعد أن مررنا بعتمةِ المرايا، وهمسِ النور، ووجعِ الفهم، وضجيجِ الحقيقة، لا نهاية في الأفق... فقط سؤالٌ يشبه الأوّل، لكنه أكثر اتساعًا. لأنّ الحكمة لا تنمو من الإجابات، بل من ظلالِ الأسئلة التي تلازمك كظلك، وتسبقك أحيانًا إلى الضوء. 

هنا، تتكشّف هذه الشظايا على هيئة دورةٍ كاملة: وُلِدتْ من الفراغ، وتنفّست الشك، وستنزف حتى حافةِ اليقين. قد تتركها على طاولةِ التفكير، أو تعود إليها كلّما احتجت مرآةً لا تخون. لا فرق، فاللغة هنا ليست مرآةً لكَ فقط، بل مرآةٌ لكينونتك حين تخلع عنها كلَّ وهمٍ.

ربما، بعد كلِّ هذا، لا تكون الحقيقةُ سوى الشظيّةَ الأخيرة من تلك المرآةِ التي لم تُكسَر بعد، لأنها لم تكن يومًا سوى أنت… حين صدّقتَ نورك.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الأربعاء، 25 يونيو 2025

فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!

 
فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة! 

الليلُ ثقيلٌ كحِملٍ من رُفاتِ نُجومٍ، 
والريحُ تَعوي في صدرِ الفراغِ، كنائحةٍ 
على زمنٍ طواهُ الرحيلُ. 

على حافةِ الأفق،
حيثُ يمتزجُ الدمُ بالتراب،
وقف الفارسُ يُقبِّلُ فرسَه...
قبلةً تذوبُ في صهيلٍ مُقدَّس،
يُطهِّرُ جراحَ الأرضِ، ويُنشدُ الخلودَ! 
ارتَمى عليها... حزنٌ بلا أجنحة، 
وقلبٌ يتفطّرُ كزجاجِ معبدٍ مُحطَّم!
لكنه خرجَ بثباتِ الجبال، 
تُقسم عليه العواصفُ: لا تَسقُطْ! 
لماذا كلُّ هذا الثبات؟
لأنَّ الحقيقةَ نبتتْ من دمٍ:
سيعودُ... حتمًا سيعود!

والوقتُ يتمددُ في صمت،
كأنه ينتظرُ قرارًا من السماء،
حتى الغبارُ المُعلّقُ يصغي...
لصمتِ الفارس.
توقَّف انتظارًا للحظةِ لا تتكرّر:
قلوبٌ متعبةٌ تبحثُ عن نبض،
ونفوسٌ تائهةٌ تحتاجُ دليلًا،
حين تغيبُ البوصلة!

اجتمعوا حولَهُ كالسيلِ المُنحدرِ، 
حباتُ مسبحةٍ مبعثرةٍ تبحثُ عن خيطِ النور.
في عيونِهم رعبٌ يُصارعُ يقينًا،
وفي قلوبِهم صرخةٌ تُدوّي كالرعد:
"مَنْ للضياع؟ مَنْ للعبيد؟"
رفعَ الفارسُ رأسه، نظرَ إلى ما وراءَ الغيم،
فانشقتِ الأرضُ بكلمتِه:
"الله حيٌّ لا يموت،
الباقي حينَ تُفنى الأكوان!
وحدهُ... يُجزِي الصابرينَ الشاكرين!"

الكلمةُ... سيفٌ يُشهرُ في وجهِ الظلم،
وصاعقةٌ تُذكي جمرَ الإرادة!
شيءٌ فريدٌ يولدُ هنا:
تضحيةٌ تُقدَّمُ كقطرةِ ماءٍ في بحرِ الخلود،
كأنَّ القلبَ حين يتجاوزُ حدودَ الجسد،
يُصبحُ نبعًا لا يكتفي بالعطاء،
بل يُراودُ الموتَ عن نفسه،
ويبتسمُ في وجهِ النهاية،
لأنَّ ما وراءَ النفسِ
أقوى من نداءِ بقائها،
فيندفعُ الدمُ طائعًا إلى ترابِ المعركة!
عندها، يُدرَكُ التحرر:
عقلٌ يتحررُ من الخوف،
وروحٌ تنعتقُ من العبودية،
وجسدٌ يتحطَّمُ له قيدُ الفناء!

من وهجِ اللحظةِ خرجَ المعنى...
لم تعدِ الأرضُ ساحةَ قتال،
بل مهدًا يُولدُ فيه وعيُ الأمم!
وقفَ الفارسُ
بين ماضٍ ينزفُ ومستقبلٍ يُولَد،
كالميزانِ الذي يرجّحُ كفّةَ الحق،
في زمنٍ يضيعُ فيه الصوتُ بين الضجيجِ والخنوع!

ليس وحيدًا...
فكلُّ شهيدٍ يُزهِرُ به الفقدُ،
بذرةٌ تُزرعُ في قلوبِ الآخرين!
هكذا تُولدُ البطولةُ من رمادِ الشهادة:
كلما ماتَ سيدٌ، قام سيدٌ!
سنّةُ الحياةِ في صراعها مع الموت،
لكنَّ الفرقَ بين السقوطِ والقيامةِ:
عقيدةٌ، 
نارٌ تحرقُ اليأسَ في الصدور،
إيمانٌ يصنعُ من الجرحِ شهادةً،
ومن الدمعةِ نشيدًا!

يقينٌ قديمٌ لا يُكتشف، بل يُجدَّد:
الحياةُ ليستْ سنواتٍ تُعَدُّ، 
بل رسالةٌ تُحمَلُ، 
وفهمٌ يُضاءُ كقنديلٍ في ظلمةِ الجهل،
وتوازنٌ... كجناحي طائرٍ،
يُحلّقُ بهما نحوَ الشمس!

والنصرُ...
ليس رايةً تُرفع،
بل نورٌ يولدُ في العيونِ التي لا تخاف،
وفي الأرواحِ التي تعلّمتْ أن تُحبَّ حتى النهاية!
وعندما تصبحُ الحقيقةُ أثقلَ من الألم،
لا خيارَ سوى إكمالِ الطريق،
فمَنْ ذاقَ طعمَ الخلود،
لا يعودُ إلى القيد!

عادَ إلى فرسِهِ الأصيل...
لا دمعةَ تُذرى، ولا حزنَ يثني،
فقط ابتسامةٌ كشِفرةِ سيفٍ في دجى الليل:
"الموتُ... مجرّدُ حاجزٍ نُحطّمه،
لنعبرَ إلى فضاءٍ... أرحبَ من قيود العبودية!" 
فامتطى صهيلَهُ، كأنما يمتطي ذُرَى الخلودِ، 
وانطلق... سهمًا لا يُثنيهِ ريب،
عائدًا يومًا... بغلبةِ الحقِّ ونوره!
والريحُ تنقلُ في الفلاةِ عهدَ السماء:
"الأرضُ ميراثٌ لأهلِ التقى،
والعاقبةُ... حكمةٌ من حكيمٍ عليم!"

هكذا،
تُكتبُ الملاحمُ بدماءِ الصادقين،
وتُخلَّدُ أسماؤهم في صحائفِ الخلود.
فهل أنتَ ممن يناديهم نداءُ العودة؟ 

جهاد غريب 
يونيو 2025

ملحمة العودة: دماء على صهيل الخلود!

 
ملحمة العودة: دماء على صهيل الخلود!

كان الليلُ ثقيلاً كالحِملِ القديم، وكانت الريحُ تعوي في الفراغِ كأنها تندبُ زمنًا طواه الرحيل. هناك، على حافةِ الأفقِ حيثُ يمتزجُ الدمُ بالتراب، وقفَ الفارسُ يُقبِّلُ فرسَه الأخيرَ قبلةَ الوداع. 

كان صهيلُها ينبعثُ كترنيمةٍ مقدسة، تغسلُ جراحَ الأرضِ وتُنشِدُ الخلود. انكبَّ عليها بحزنٍ كسيرِ الأجنحة، وقلبُه يتفطرُ بين ضلوعه كزجاجِ المعابدِ المُحطَّم. 

لكنَّه خرجَ في ثباتٍ عجيب، ثباتِ الجبالِ التي تُناجي العواصفَ ولا تسقط. لماذا كلُّ هذا الثبات؟ لأنَّه يعرفُ حقيقةً كُتبتْ بدمِ الشهداء: سيعودُ حتماً.. سيعود!   

كان الوقتُ يتمددُ في صمته كأنه ينتظرُ قراراً من السماء. وكل شيءٍ، حتى الغبارُ العالقُ في الهواء، بدا وكأنه يُصغي لصمتِ الفارسِ، كأنّه توقّفَ انتظارًا للحظةٍ لا تتكرر. 

وبين خفقةِ قلبٍ وآهةِ تراب، بدأ المشهدُ يتحوَّل... فالقلوبُ المتعبةُ تبحثُ عن نبضٍ جديد، والنفوسُ التائهةُ تحتاجُ من يدلّها على المعنى حين تغيبُ البوصلة. 

التفَّ الناسُ حوله كأنهم حباتُ مسبحةٍ مبعثرة، تبحثُ عن خيطِ النورِ الذي يربطُها بالسماء. في عيونهم، كان الخوفُ يُصارعُ الأمل، وفي قلوبهم، كان السؤالُ الكبيرُ يُدقُّ كجرسٍ معلقٍ بين الموتِ والحياة: "هل من مغيث؟ هل من خلاص؟" 

لكنَّ الفارسَ رفعَ رأسه إلى الأعلى، وكأنه يرى ما لا يرون، وقالَ كلمتَه التي اهتزَّتْ لها الأرض: "الله حيٌّ لا يموت، الباقي الذي لا يزول، وحده الذي سيجزي الشاكرين!"   

كانت الكلمةُ كالسيفِ المُشرعِ في وجهِ الظلام، وكالصاعقةِ التي تُذكِّي جمرَ الإرادة. شيءٌ مهولٌ وعظيمٌ كان يولدُ في تلك اللحظة: التضحيةُ! تلك التي تُقدَّمُ بلا تردد، كأنها قطرةُ ماءٍ في بحرِ الخلود! 

ففي عمق كلِّ إنسانٍ رغبةٌ في البقاء، وحنينٌ إلى الحياة، ورجاءٌ في النجاة... حبُّ النفسِ؟ نعم، لكنَّ حبَّ ما هو أعظمُ من النفسِ يدفعُك إلى أن تُهرقَ دمك في ترابِ المعركة.

هنا، أدركَ الفارسُ معنى التحررِ الحقيقي: تحررُ العقلِ من الخوف، والروحِ من العبودية، والجسدِ من قيودِ الفناء.

ومن وهجِ تلك اللحظةِ، خرجَ المعنى من رحمِ المعركة. لم تعدِ الأرضُ ساحةَ قتالٍ فقط، بل صارت مهدًا يولدُ فيه وعيُ الأمم، وتُسقى فيه جذورُ التاريخ بعرقِ الشجعان. 

وقفَ الفارسُ في منتصفِ الطريقِ بين ماضٍ ينزفُ ومستقبلٍ يُولد، كأنّه هو الميزانُ بينهما، وكلماته كانت الكفّة التي رجّحت الحقّ في زمنٍ يضيع فيه الصوت بين الضجيج والخنوع. 

لم يكن وحيداً، فكلُّ شهيدٍ يُزهَرُ به الفقد، وتُزرَعُ به بذرةٌ في قلبِ آخر. هكذا تتوالدُ البطولةُ من رمادِ الشهادة، ويواصلُ المجدُ سيرتَه في وجوهٍ جديدة.

كلما مات سيدٌ، قام سيد! تلك هي سنّةُ الحياةِ في صراعها الأزليِّ مع الموت!، لكنَّ الفرقَ بين السقوطِ والقيامةِ هو العقيدةُ التي تربطُ المصيرَ بربِّ العالمين. 

ليست كلماتٍ تُرددها الشفاه، بل نارٌ تُحرقُ اليأسَ في الصدور، وإيمانٌ يجعلُ من كلِّ جرحٍ شهادةً، ومن كلِّ دمعةٍ نشيداً.  

كان الفارسُ على يقينٍ قديم، لا يكتشف المعنى بل يُجدّد العهد به: أن الحياة ليست سنواتٍ تُعدُّ، بل عقيدةٌ تُحمَل، وفهمٌ يُضاءُ كالقنديلِ في ظلمةِ الجهل، وتوازنٌ بين الروحِ والجسدِ كالجناحينِ يُحلّقُ بهما الطائرُ نحوَ الشمس.

أما النصرُ، فلم يكن رايةً تُرفع، ولا أرضًا تُستعاد، بل نورًا داخليًا يُولد في العيون التي لم تعد تخاف، وفي الأرواح التي تعلّمت كيف تُحبُّ حتى النهاية. 

عندما تُصبحُ الحقيقةُ أثقلَ من الألم، لا يبقى للفارسِ خيارٌ سوى أن يُكمل الطريق، فالذي ذاقَ طَعمَ الخلودِ لا يرضى بالعودةِ إلى القيد، والذي حملَ الرسالةَ لا يسقطُ قبل أن يُتمَّها.

عاد الفارسُ إلى فرسه، ولكن لم يكن هناك دمعٌ ولا حزن!، فقط ابتسامةٌ خفيفةٌ تُخفي وراءها سرَّ الأبطال: أنَّ الموتَ ليس نهايةً، بل عبورٌ إلى حياةٍ أخرى، أكثرُ اتساعاً، أكثرُ حريةً. 

امتطى فرسَه، وانطلقَ نحوَ الأفقِ كالسهمِ الذي لا يعودُ إلا منتصراً. والريحُ كانت تحملُ همساً قديماً: "إنَّ الأرضَ لله يُورثُها من يشاء من عباده، والعاقبةُ للمتقين". 

هكذا، تُكتبُ الملاحمُ بدماءِ الصادقين، وتُخلَّدُ أسماؤهم في صحائف الخلود... فهل أنت منهم؟

جهاد غريب 
يونيو 2025

الثلاثاء، 24 يونيو 2025

خسائرنا الصامتة: سيرة ما لم يُحكى بهدوء!

 
خسائرنا الصامتة: سيرة ما لم يُحكى بهدوء! 

لا يعلو شيء كما يعلو الصمت حين يكون صدى لشيء فقدناه. ليست كل الفجائع نحيبًا. بعضها يتخفّى بين الطيات، كنسمةٍ باردة تمرُّ على الذاكرة، كأثر يدٍ لمستك يومًا ثم اختفت. 

هذا المقال ليست مرثية لما مضى، بل محاولة للإنصات إلى ما لم يُقَل: لتلك اللمسات التي لم تكتمل، للرائحة العتيقة التي بقيت عالقة في جدران الغياب، وللغصّات التي قررت أن تظل في القلب، بلا صوت… فقط أثر.

هناك صمتٌ يعلو فوق كل شيء، صمتٌ يلفُّ التفاصيل الصغيرة كغبار الذكريات على رفٍّ منسي. لا أحد يسمعه إلا حين يتحوّل إلى صوت الخسارة، ذلك الصوت الثقيل الذي يتردّد كصدى في غرفة فارغة. 

تُغمض عينيك فتكتشف أن ما فقدته لم يكن شيئًا، بل كان كل شيء... كان الضوء الذي يمرُّ بين أوراق الشجر في عز الظهيرة، كان الهمس الذي لم تقله، كان الفراغ الذي تركته يدٌ كانت تمسك بك. الخسارة لا تصرخ أبدًا، إنها تتنفس داخل صمتك، كظلٍّ طويل يسحب ذيله على جدار الذاكرة.  

لكننا لا نسمع وقع الفقدان إلا حين نمشي بعيدًا... حين نلتفت، فلا نجد إلا صورًا باهتة وأحلامًا قديمة تفوح منها رائحة الوداع.

كم من رحلاتٍ نعيشها بلا بوّابة عودة؟ نسيرُ ونحن نحمل أحلامنا كحقائبَ خفيفة، لا نعلم أن الخسارة تسير خلفنا بخطواتٍ موزونة، تنتظر اللحظة التي ننظر فيها إلى الوراء فجأةً فلا نجد شيئًا. 

قد تمرُّ السنين قبل أن ندرك أننا كنّا نخسر شيئًا كل يوم، كشجرة تسقط أوراقها بصمت. الانهيار ليس النهاية، بل هو البداية الوحيدة التي تُريك أن كل خطوةٍ كانت تحمل في طيّاتها وداعًا.  

هكذا تبدأ الخسارات الحقيقية: بلا صوت، بلا إعلان. تبدأ حين نشعر بشيء ينقصنا، دون أن نعرف اسمه. شعورٌ يتسرّب، كالهواء من نافذة مغلقة بالكاد.

أتعرف أن بعض الخسائر لا تُحسّ إلا كوجعٍ غامض في العظام؟ خسائر مثل الهواء الذي يمرُّ بين الأصابع، ومثل الألوان التي تبهرنا ثم تبهت دون أن ننتبه. 

قد تكون خسارتك طيفًا من نورٍ مرَّ على حائطٍ ولم يعد، أو كلمةً لم تُقل في الوقت المناسب فتحوّلت إلى شظية في القلب. هناك خسائر لا دموع لها، لأن الدموع تحتاج إلى شكلٍ محدّد، وهذه الخسائر أشبه بضبابٍ يغلف الروح.  

وقد تكون أقسى الأشكال، تلك التي لا تشبه شيئًا. لا دموع، لا ملامح. فقط نبض غريب في العظم، وريحٌ باردة تمرُّ بين عظامك وكأنها تسكنك منذ زمن.

كلّنا رواةٌ سيئون لرحلاتنا. نروي البدايات بحماس، والنهايات بوجع، لكن ماذا عن الوسط؟ عن تلك التفاصيل التي سقطت من الذاكرة كحبات عقدٍ انفرط؟ قد تكون الرحلة كلها مخبأة في اللحظة التي ضحكت فيها دون سبب، أو في الطريق الذي مشيتَه يومًا وحيدًا فظننتَ أنك لن تصل. 

الروايات الناقصة هي الأصدق، لأنها تترك للخسارة مساحةً كي تتنفس، وللقلب مساحةً كي يتذكّر... أو لينسى.

ولأن الذكرى لا تروى كما هي، بل كما نشعر بها، تصبح الحكاية مجتزأة، كأغنية بلا مقطعها الأجمل، وكأن الذاكرة تترك فقط ما يشبه الحنين أو يُشبهنا.

قلبٌ مليء بالأسئلة هو وطنٌ للحبّ العاصف، لكن ماذا حين يجفّ ذلك الحب؟ يصبح كأنهارٍ تحت التراب، تسمع خريرها لكنك لا تراها. 

الأسئلة تبقى كأشجارٍ بلا ظلّ، تحاول أن تسقيها بالإجابات، لكن الإجابات لا تنبت إلا في تربة اليقين، واليقين هو أول ما يموت عندما يغيب الحب. 

يتحوّل القلب إلى مكتبة مهجورة، كل رفٍّ يحمل سؤالًا بلا جواب، وكل جواب كان يومًا حبًا لم يكتمل.  

وكلما سكتَ القلب، ازدادت ضوضاء الأسئلة. الحب جفّ، ولم يعد هناك سوى صدى الأسئلة. والإجابات؟ صامتة كأحجار مدفونة تحت نهرٍ غائر.

ربما لا نملك ترف استعادة ما مضى، لكننا نملك نعمة الفهم. الفقد لا يمحو، لكنه يُعلّم!، يمنحك عينين جديدتين تنظر بهما إلى نفسك، لا إلى من رحل. 

ما يتبقى ليس الوجع، بل الندبة التي تعلّمت كيف تتنفس. والحياة ليست ما نحتفظ به، بل ما تعلمنا أن نودّعه بلطف... دون أن نفقد أنفسنا في الطريق. 

جهاد غريب 
يونيو 2025


الضوء الخفي: رحلة الإنسان بين الألم والحكمة!

 
الضوء الخفي: رحلة الإنسان بين الألم والحكمة!

في زحمة الحياة، نخطئ تفسير الإشارات؛ نظن الأبواب المفتوحة أقفاصًا مغلقة، ونحسب الظلال عدوًا، بينما هي دليلٌ على وجود النور. نتعثر في الصمت، ولا ندرك أنه تمهيدٌ لسماع أنفسنا لأول مرة. 

هذه ليست مجرد كلمات شاعرية، بل حقائق عميقة تُختزل في تجربة كل إنسان يبحث عن معناه.  

الحياة لا تكتب بأقلام ملوّنة، بل بندوب تتركها التجارب، فالألم لا يموت تماماً، بل يتحول إلى حكمةٍ نرتديها تحت الجلد. هذه الفكرة تعيدنا إلى فلسفة "الانكسار الذي يسبق الارتقاء"، فالشجرة التي تتعرّض للعواصف تنمو جذورها أعمق، والإنسان الذي يُجرح يصبح أكثر قدرة على فهم الحياة. 

الذكريات المؤلمة ليست عيوبًا، بل أحرفًا مائلة في كتاب وجودنا، تضيف إليه عمقًا وجمالًا، كالوشم الذي يحكي قصة صاحبه.  

وكما تتحول الجراح إلى حروف، يصبح الفراغ مساحةً تمنح المعنى. كثيرون يخافون الفراغ، يظنونه موتًا أو خواءً. لكنه في الحقيقة ليس عدماً، بل هو المسافة الضرورية بين الحرف ومعناه. 

في الفنون، المساحات الفارغة في اللوحة تُبرز جمال الخطوط، وفي الموسيقى، السكوت بين النوتات يخلق الإيقاع. كذلك في الحياة، لحظات التوقف والتراجع ليست ضعفًا، بل هي فسحة لإعادة الاكتشاف.  

وفي خضم هذا الاكتشاف، ندرك أننا كنا نقف أمام أبواب مفتوحة طوال الوقت دون أن نراها. كم مرة وقفنا أمام فرصٍ لم نعرف أنها موجودة، أو أمام حلولٍ كانت أمامنا منذ البداية؟ لطالما كنا نظن أن علينا أن نطرق بقوة، بينما كل ما كان مطلوبًا هو دفع الباب بخفة. 

الغرف المظلمة في داخلنا ليست سوى مرايا تعكس ما نخاف مواجهته، وعندما نجرؤ على الدخول، نكتشف أن ما ظنناه ضياعًا كان في الحقيقة طريقًا إلى أنفسنا.  

ولا يوجد إنسان عرف طريقه من أول خطوة. الضياع جزء لا يتجزأ من الوصول، والفشل ليس نقيض النجاح، بل مدرسته. حتى الأشياء التي نظنها ضاعت منا، قد تكون قد وُضعت في مكان آخر لتنمو بشكل أفضل، كالبذور التي تُزرع في تربة أكثر خصوبة.  

في النهاية، الحياة لا تُقاس باللحظات المثالية، بل بالمحاولات الصادقة. كلّنا نكتب قصيدتنا بحروف من فرح وألم، ضحك ودموع، لكنها تظل قصيدة فريدة، لأنها ببساطة حكايتنا. 

"إنسان حاول، فكان" - هذه العبارة تختزل فلسفة الوجود؛ فالقيمة ليست في الوصول إلى الكمال، بل في الجرأة على السير. فلربما الضوء الذي نبحث عنه لم يكن مفقودًا، بل كنا نحتاج فقط إلى تعديل نظرتنا.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الجمعة، 20 يونيو 2025

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

 
على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف! 

لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك". وليس الوجود هنا مجرد نبض أو زفير، بل فعلٌ ثائر، وقيامٌ بعد كل سقوط، ومقاومةٌ تشبه يدًا تلامس زهرة برّية تقف وحيدة في مهبّ عاصفة، فمن قلب الانكسار يولد الدليل على أني ما زلتُ هنا... حيٌّ، وإن كُسِر فيّ كل شيء.

الرقم الخارج عن معادلات الظروف "أنا"، قلها ولا تتردد! نعم، أنا الخارج عن أرقام الإحصاءات الباردة التي تُسقط الإنسان من حساباتها، وأنا الذي لم تستطع التقارير أن تحصي خيباته ولا أن تُقدّر كمّ المعارك التي خاضها وهو يبتسم. أنا الذي لم يُسجل ضمن قوائم "الناجين" لأنني لم أنجُ بالطريقة التي أرادوها... بل صنعت نجاتي على مقاسي، بشيء من الجنون، وكثير من الإيمان.

أنا لا أنتمي إلى جداولهم، ولا أحتكم إلى مؤشراتهم التي تُقاس بمعدلات النجاح المعلّبة، فأنا الذي يربط على قلبه كل فجر، كما يربط المحارب خوذته قبل أن يدخل المعركة، ويُلقي نفسه في يوم جديد وكأنه يلقي بنفسه في النهر الجاري، غير آبه بالتيار، لأن فيه شيء من الصخر وشيء من الماء... مقاومٌ وقابل للتشكل معًا.

الحياة ليست نزهة في حدائق الأرقام التي لا تشمّ رائحة الألم، إنها ساحة نزال لا يُسمح فيها بالخذلان إلا للحظة فقط، كالمقاتل الذي ينهض، يلعق جراحه، ويُكمل طريقه كأن شيئًا لم يكن. هذه اللحظة العابرة من الضعف لا تُدوَّن، لأنها لا تُرضي الأرقام، لكنها الحقيقة التي لا تُقال: أن الإنسان يُهزم كل يوم، لكنه لا ينكسر. 

لهذا، لم يكن لي مكان بينهم... أنا لست رقمًا يُقارن، ولا نسبة تُحسب، بل ظاهرة بشرية تمشي على جمر التجربة، وخللٌ مقصود في هندسة التوقعات، وانحرافٌ نبيل عن خطوط الرسم البياني، لأنني اخترت أن أعيش، لا كما يراد لي، بل كما يُملي عليَّ ضميري، وكرامتي، وأحلامي.

لا أنتظر فهمًا من أحد، ولا أُراهن على أن تُقاس تجربتي بمسطرة الآخرين!، فما مررتُ به لا يُدرّس، وما خضته لا يُوثّق. إنني ببساطة... ذاك الإنسان الذي يلبس الخوف كل ليلة كمعطف، ثم يخرج به إلى العالم ويبتسم. لا لأنه لا يشعر، بل لأنه قرر أن يعلو على الشعور، ويمنحه شكلاً آخر: اسمه الصمود.

سأحتضن حياتي كما يحتضن الأعمى بصيص دفء يتسلّل من نورٍ لا يراه، وسأتنفسها كما يتنفس الغريق قبلة الأمل الأخيرة، وسأقاوم، وأحمل رباطة جأشي كدرعٍ لا يُخرقه اليأس، وأعامل كل ما يأتيني على أنه رسالة مشفّرة من القدر، لا عداء فيها بل اختبار... وما بعد الاختبار إلا درس، وما بعد الدرس إلا سعي نحو المعنى.

ليست المقاومة هي النهاية، بل بدايتها!؛ أن تُقاتل لتبقى واقفًا، ثم تُفكّر لتبقى إنسانًا، وأن تصوغ من ألمك فهمًا، ومن صمتك رؤيا، ومن صبرك جسرًا يمتد نحو الآخرين، ولكن... لا إلى أيّ آخرين، بل نحو من يقدّرون نقاء الهواء حين يُعاد تجديده، نحو من يلمسون العطاء لا من ينهشونه!، وحين تُخلق البيئات الطاهرة، لا تكون وحدك فيها، فهناك دائمًا من ينتظر، لكنهم لا يملكون الشرارة الأولى... كن أنت.

وفي لحظات السكون بعد كل هذا الصراع، كنت أُدرك شيئًا أعمق... أن الله لا يضع أحدًا في امتحانٍ إلا إذا رآه أهلاً للفهم، أهلاً للحمل، أهلاً للبقاء في وجه العاصفة دون أن يفقد إنسانيته. ليست الابتلاءات للضعفاء، بل لذوي العقول، لمن طووا الجهل في صدورهم، وعلّقوا على جدران أرواحهم لافتة: "ما زلت أتعلم".

وحين فهمت ذلك، لا يبقى أمامي إلا أن أُكمل... نعم، لا بد أن أعيش، ولو على أشواك تنزف منها خطواتي، وأعلم أن النتيجة غير مضمونة، لأن المسير نفسه جدير بالاحترام، ولأن النور ليس وعدًا، بل احتمال، ولكنني أراهن عليه، فالقادم - في كل حواسي - أجمل. 

فإن كانت الحياة منصفة، فلن تكون النهاية حزينة لمن أعطى، وجاهد، وسعى دون كلل، وبقي وفيًا لنوره الداخلي، ومضى دون أن يساوم على نقائه، ولم يطلب من الحياة سوى أن تمنحه فرصة ليكون على طبيعته... محاربًا لا قاتلًا، واهبًا لا طامعًا، تائهًا لكنه دائم البحث.

لا شيء يُرعبني الآن، حتى غموض الطريق... فأنا لا أطلب مكافآت، ولا أرتدي عباءة المنتظر، إنها لعبة الحياة كما أفهمها، وسياسة الأقدار، وأنا - كإنسان - لن أكون رقعة تتأرجح على صراط العتاب، بل نقطة الضوء التي رفضت أن تنطفئ، وإن غمرها الليل طويلًا.

في النهاية، كل ما أريده أن أصل إلى آخر الدرب دون أن أفقد قدرتي على الحب، على الأمل، على أن أقول للريح: "كنتِ قوية... لكني عبرتك". 

من لا يُهزم داخله، لا يُهزم أبدًا. هكذا، أعيش... لا كنجاة، بل كملحمة.

جهاد غريب 
يونيو 2025


الخميس، 19 يونيو 2025

سُنة الوجود!

 
سُنة الوجود! 

في العمق حيث يتنفس الصدق ويتراقص المعنى على حافة الصمت، هناك يكمن السر. ليس سرًا يُكتشف، بل حقيقةً تُعاش، تُلمس بأطراف الروح قبل أن تُفهم بالعقل. إنه اللحظة التي يتوقف فيها الزمن ليسمح للجوهر بالحديث.

وهذا البوح ليس كلماتٍ تُلقى في الفراغ، بل نبضٌ حيٌ مشدودٌ إلى حبلٍ من يقينٍ لا يتزعزع. إنه الصدق في أنقى صوره، الذي يرفض أن يكون عملةً في سوق التظاهر، أو قناعًا في مهرجان الأقوال. صمتٌ يحمل في طياته عوالمَ من الدلالات، كجمرةٍ متقدةٍ تحت رماد الليالي.

وكما يُنْتج الظلامُ نورَه في هذه الدائرة المقدسة، ينبثق الضوءُ حبرًا يخطُّه الوجودُ على صفحة الزمن. حبرٌ يستلهم سكونَ الأبدية، ويستمد بهاءه من أقباسٍ لا تُطفئها الرياح. في هذه المساحة المقدسة حيث السكينةُ تُنْبتُ جنينَ الإبداع، وحيث الهدوءُ يُخْفي في ثناياه زلزالَ العاصفة. هناك، في تلك الطمأنينة التي تصهر الجزع، تتجلى حزمة ضوء من يقين.

لكن حتى هذا اليقين لا يخلو من اختبار، ففي مواجهة عواصف الذكريات، تقف النفس كشجرةٍ ضاربةٍ في الأرض جذورها. "تعالوا الآن"، تنادي أشباح الماضي، ليس لتسجيل انتصارٍ أو هزيمة، بل لمحاكمةٍ عادلةٍ في محكمة اللحظة الراهنة، وفي هذه المواجهة الشجاعة، يتسلل نور القمر عبر أوراق الماضي، ليرسم على أرض الحاضر ظلال الحكمة.

وبينما لا تزال أصداء المحاكمة تتردد، تُشرق على حافة الأفق، حيث يعانق الضوءُ الغسقَ، ترسم طفلةٌ على رمل الزمن. براءتها كاللحن الذي لا يحتاج إلى كلمات، تتشرب العالمَ كله دون أن تَخْدِشَها الأيام. عصفورٌ يغرد على الغصن، وكأنه يردد أغنيةً قديمةً عن مطرٍ قادم. إنها الحياة في أبسط تجلياتها، تذكيرٌ بأن الجوهر يبقى رغم كل التحولات. 

وفي مفارقةٍ لا تخطئها العين، ينكشف المشهدُ على حقيقةٍ مُرّة.، وهكذا، تتدفق اللحظات من تلك البراءة، لتشكل جدولًا صغيرًا يحمل في مائه ثمار الخبرة وأوراق الأمل. همساتٌ تتحول إلى أغنية، وأغنيةٌ تتحول إلى حكمة. إنه ذلك التدفق الطبيعي للوجود الذي لا يحتاج إلى دليلٍ أو برهان.

غير أن هذا الجدول الهادئ يصب في النهاية بحرًا آخر، حيث يقف الحنين كشاهدٍ على وجوهٍ مرت دون أن تترك أثرًا سوى ظلٍّ يعرج على حافة الهاوية. إنهم أولئك الذين حملوا الحياة كعبءٍ بدلًا من أن يحملوها كهدية، الذين رأوا السقوط قبل أن يجدوا الأرض تحت أقدامهم.

وحتى على حافة الهاوية، حيث يبدو السقوط حتميًا، تبدأ المعجزة. براعمٌ صغيرةٌ تتفتح في قلب العاصفة، كأنها تهمس: "الشتاء مجرد محطة". إنها المفارقة العظيمة: أن نجد القوة في أضعف اللحظات، وأن نكتشف الأمل حيث لا أمل.

الحقيقة التي لا تحتاج إلى برهان: ما يسكن القلب يتحقق، ليس بسحرٍ أو قوة خارقة، بل بذلك القانون القديم الذي يجعل من الرغبة الصادقة بذرةً للواقع. العوائق؟ مجرد أوراق خريفٍ على شجرة الحياة، سقطت لتحل محلها أوراقٌ جديدة.

الصبر هنا ليس انتظارًا سلبيًا، بل حالةٌ من اليقظة الدائمة. إنه ذلك التوتر الخلاق بين الرغبة والتحقق، بين البذرة والثمرة. صمودٌ لا يشبه صمود الجبال، بل يشبه طيران الطيور التي تعرف أن السحب مجرد محطة في طريقها إلى الأعالي.

في النهاية، لسنا مجرد ظلالٍ على جدار الواقع. نحن ذلك الخيط الذهبي في نسيج الوجود، الذي يربط الماضي بالمستقبل، والضعف بالقوة، والفناء بالخلود. إننا تلك المفارقة التي تجمع بين الهشاشة والصلابة، بين الزوال والأبدية.

هذه هي سُنة الوجود: أن يولد النور من العتمة، وأن ينهض المعنى من رحم العدم. ليس صراعًا، بل رقصة. ليس معركة، بل تحول. ليس نهاية، بل بدايةٌ دائمة.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الأربعاء، 18 يونيو 2025

عاشق في محراب الوحدة!

 
عاشق في محراب الوحدة!

أنا وحيدٌ... دائمًا وأبدًا... ها هي ذاكرتي تُطوِي نفسها كملحمةٍ مهجورة، تتنفَّس بين سطورها لوعةٌ لا تموت. ظلٌّ طويلٌ يُلامس الأرضَ ثم يغيب، قطرةُ ندى تترقَّب الفجرَ لتذوبَ في صمت. وشمٌ محفورٌ على جدران الزمن، لا يمحوه ندمٌ، ولا تُنقذه حكايةٌ تُروى بصوتٍ مبحوحٍ كلَّ ليلة، فلا يسمعها سوى الصدى... ويُعيدها إليَّ أكثر وحدةً مما كانت.

ومن قلب هذا الغياب، كنت أبحث عن بارقةِ نور... شمعةً تُضيء طريقي، لكنّ الشموع هنا لا تُشعلُ إلا بالحنين، ولهيبها سرعان ما يتبخّر، ليذكّرني كم كنتُ باردًا دونكِ. دخانٌ يتسلّل في زوايا الغياب، يرسم منكِ ظلالًا تذوب. أبحثُ عن يقينٍ يهديني، فأجد ظلّي يتقدَّمَني... كقمرٍ يتيمٍ في سماءٍ أُطفئت نجومها. حتى الذكريات، تلك الكائنات الهشّة، تتساقطُ من يديّ رملًا... ولا أجمع منها سوى قبضةٍ من غبار.

لم يكن لبرودة هذا الشعور إلا أن تتجسد في كياني... غرفةٌ مهجورةٌ تهبّ فيها رياح النسيان، تطنُّ في زوايا روحي كرعشةٍ نسيها الزمن على نافذة الماضي. كلُّ محاولةٍ لإشعال الدفء تنتهي برقصةِ ظلالٍ على الجدران، ترسمُ وجهَكِ ثم تُمحيه، خيالٌ يلعبه القمرُ مع السحاب.

أشعر ببرودة الوحدة... كروحٍ تُصلّي بلا فتور. الوحدة هنا ليست فراغًا، بل هي كيانٌ يُصلّي بداخلي، أطيافٌ تُناجي الصمت في محرابٍ مهجور. برودتها تُذكّرني بأنّي كجبلٍ من ثلج، أذوبُ قليلًا كلّما مرّت سحابةٌ حالمةٌ فوقي، ثم أعودُ وأتجمَّد. إنها دمعةٌ بلا عين، وصرخةٌ بلا صوت.

رغم البرد، قلبي لا يزال ينبضُ باسمكِ… كأنّ في صميم هذا الجليد شمعةً لا تنطفئ، تذوبُ من حولها طبقاتُ الصقيع، لكنّ لهبها يظلُّ يتلوّى كأفعى مقدسةٍ في معبد الألم. كلّما اشتدّ البرد، ازدادت توهّجًا، تتحدّى الكونَ أن يسرق منّي آخرَ ما تبقّى من دفء.

أنا وحيدٌ... أستمع إلى قلبي، وتُغنّي دقّاتُه ذاكرةً وارفة. يُغنّي، لكنّ أغنيته ليست سوى صدىً لزمنٍ مضى. دقّاته تُقلّب الصفحات كريحٍ عابثةٍ في مكتبةٍ قديمة؛ كلُّ نبضةٍ كلمة، وكلُّ كلمةٍ جرح. يورثني إيّاكِ كإرثٍ من الألم... كشجرةٍ شامخةٍ ترفضُ الموت، جذورها تشرب دمي، وأغصانها تُظلّل أحلامي البعيدة.

من جذورِ الذاكرة، تنبُت صورتكِ في كل زاويةٍ من وحدتي… كلُّ خليةٍ في كياني تحوّلت إلى مرآةٍ صغيرة، تعكسُ ملامحكِ بصدقٍ مُوجِع. حتى الهواءُ الذي أتنفّسه صار يحمل شظايا من صوتكِ، ندىً معلّقًا في شبكةِ عنكبوت، يلمع للحظة، ثم يختفي حين أمدُّ يدي نحوه.

أنتِ هناك… كأشجارٍ شامخةٍ صامدةٍ لا تموت، نُحِتَت من ضوء، وجذوركِ تمتدُّ إلى أعماق روحي، وأوراقُكِ تُسبّح باسمكِ في كلّ ريح. صمودكِ يُشبه كبرياءَ الجبال، لكنّه أيضًا كالليلِ الذي لا ينتهي. أتذكّركِ، فتنبتُ في جوفِ اليأس أجنحةٌ من نار، تُقلعُ بي من وحشتي، وتحملني إليكِ كعصفورٍ مهاجرٍ يعرفُ طريقَ العودة… لكنّ السماءَ هنا بلا أفق.

ثم أعودُ إلى الحقيقةِ الوحيدةِ التي لا تملُّ من تكرارِ نفسها… بحّارٌ عالقٌ في حلمِ اليقظة، أرى جزيرتَكِ في الأفق، لكنّي كلّما اقتربتُ، تتحوّل إلى سراب. الأمواجُ تحملُ رسائلي إليكِ، ثم تعيدُها مبلّلةً بدموعِ الملح، وكأنّ المحيطَ نفسه يرفضُ أن يصلَ حنيني إليكِ.

أنا وحيدٌ... ووحدي مكسورُ الخاطر. كسرُ قلبي ليس ككسرِ الزجاج، بل هو كسرُ المرآة — كلُّ قطعةٍ تُعيدُ رسمَ وجهكِ، وكلُّ جرحٍ يُعيدُ سردَ القصة. حتى الدمعُ صار حبرًا، يكتبُ على وجهي قصيدةَ الغياب. الوحدةُ ليست غيابَ أحدٍ بجواري، بل هي حضورُكِ في كلّ شيءٍ حولي، وحين أمدُّ يدي لا ألمسُ سوى فراغٍ يضحكُ منّي كطفلٍ مُدلَّلٍ لا يفهمُ وجعَ الكبار.

ومع كلِّ ذكرى، تشتعلُ الأجنحةُ التي تركتِها في صدري… كلُّ ذكرى قنديلُ زيتٍ معلَّقٌ في كهفِ القلب، يهتزُّ مع كلّ نفسٍ ولا ينطفئ. الأجنحةُ تحترقُ بي كلّما حلّقتُ عاليًا، لكنَّ الرمادَ المتساقطَ منِّي يزرعُ في الأرضِ بذورَ حنينٍ جديدة، تنمو لتصيرَ سلّمًا نحو سماءٍ لا تريدني.

كلّما تذكّرتكِ... انبثقتْ أجنحةٌ تُطير بي عاليًا وتأخذني إليكِ. الذكرى طائرٌ أسطوريٌّ، ريشُه من لهيب، وعيناه تُضيئان كالنجم! يحملني بعيدًا، لكنّ كلَّ رحلةٍ تنتهي عند حائطٍ من الظنون. أسبحُ في عينيكِ، ثم أعودُ إلى قفصِ وحشتي، عاشقٌ يُحبسُ في مرآةٍ. حتى الأجنحةُ تصيرُ سلاسل، وحتى الحنينُ يصيرُ قيدًا.

كم يتّسعُ هذا الكون بداخلي، لا ليحتويكِ، بل ليحتوي وجعي منكِ. روحي صارت قاعةَ مرايا لا نهائية، كلّما نظرتُ إلى إحداها رأيتُ انعكاسًا مختلفًا للألم نفسه. المرايا تتكاثر، وأنا أتقلّصُ داخلها، حتى صرتُ مجرّد ظلٍّ يتنقّلُ بين انعكاساتٍ لا تنتهي.

يا لهذه الوحدةِ التي تتحوّلُ إلى كونٍ موازٍ! كلُّ نجمةٍ فيه جرح، وكلُّ طريقٍ يُفضي إليكِ. فهل من خلاصٍ غير هذا العذاب الأبدي؟ أم سأظلُّ أرقبُ ظلّي الطويل وهو يكتبُ على جدار الزمن: "أنا وحيدٌ... دائمًا وأبدًا"؟

جهاد غريب 
يونيو 2025

الاثنين، 16 يونيو 2025

الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف!

 
الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف! 

في زوايا الروحِ حيثُ ينسابُ الضوءُ خافتًا، تُولدُ الصحوةُ، كأنّما كنتَ نائمًا في قفصِ التوقعاتِ، ثمّ فجأةً... انكسرتِ القضبانُ. لم يعدْ همس الآخرينَ يخترقُ جدرانَكَ، ولا ظلُّهم يُحدّدُ مسارَكَ!، لقد صِرتَ تُدركُ أنَّ الحياةَ ليستْ استجابةً لضجيجِ العالمِ، بل هيَ إصغاءٌ لصوتِكَ الداخليِّ الذي طالَما غُطّيَ بالرملِ.  

هنا، حيثُ تنتهي كلُّ الحكاياتِ القديمةِ، تبدأ رحلتُك الحقيقيةُ. رحلةٌ لا تُقاسُ بالخطواتِ، بل بالانكساراتِ التي تحوّلتْ إلى جسورٍ!، لم تعدْ تحملُ على كتفيكَ أثقال "ماذا سيقولون؟"، لأنّكَ فهمتَ أخيرًا: أنَّ الكونَ لا يُسجّلُ إنجازاتِ الناسِ، بل يُسجّلُ صدقَهم.  

الآنَ، وأنتَ تُمسكُ بمفتاحِ وجودِكَ، ستكتشفُ أنّ النجاحَ الحقيقيَّ ليسَ في الوصولِ إلى قممِ الآخرينَ، بل في أنْ تُبحرَ في محيطِ ذاتِكَ دونَ خوفٍ!، ستعرفُ أنَّ بعضَ الأرواحِ تُولدُ كالفراشاتِ، خفيفةً، بينما تُفضّلُ غيرُها أنْ تكونَ جذورًا عميقةً... وكلٌّ يسيرُ في وقتِه.  

هذه هيَ الصحوةُ: أنْ تُفيقَ من سباتِ التبعيةِ، وتجدَ نفسَكَ واقفًا في محطّةِ التحوّلِ، حاملًا معكَ فقط ما يُشبهُك، وما يُقرّبُك من نورِ السماءِ. والباقي؟ سيذوبُ كالضبابِ حينَ تشرقُ شمسُ وعيكَ.

الجزء الأول: 
الاستقلال عن الآخرين والتركيز على الذات!  


في يومٍ ما، ستُدركُ أنَّ حريتكَ الحقيقيةَ تبدأ حينَ تُعلن وفاةَ الإنسانِ الذي كانَ ينتظرُ إعجابَ الآخرين، وستشعرُ وكأنّكَ خلعتَ عباءةً ثقيلةً مطرّزةً بأحلامِ غيرِك، وارتديتَ بدلًا منها أجنحةَ الملائكةِ: خفيفةً، حرّةً، لا تخشى البردَ ولا الحرَّ. 

لن تعودَ تسألُ: "هل أنا جيدٌ بما يكفي؟"، لأنّكَ فهمتَ أنَّ السؤالَ نفسه كانَ سجنًا، فالحياةُ ليستْ امتحانًا يُقيّمُه أحدٌ، بل هيَ لوحةٌ ترسمُها أنتَ بألوانِ روحِك. والنجاحُ؟ إنّه ليسَ جائزةً في نهايةِ سباقٍ جماعيٍّ، بل هوَ أنْ تعيشَ اليومَ دونَ خيانةٍ لذاتِك.  

ستتركُ لهم أحكامَهم، مثلَما تتركُ الأمواجُ رغوتَها على الشاطئ. لن تُناقشَ أحدًا في شرعيّتِك، لأنّكَ لم تعدْ بحاجةٍ إلى محكمةِ القبولِ. لقد اكتشفتَ أنَّ التصديقَ الوحيدَ الذي تحتاجُه هوَ ذلكَ الذي يُوقّعُه قلبُك كلّ صباحٍ.  

حتى علاقتُك بالآخرينَ ستختلفُ!، لن تُنفقَ وقتَكَ في تعديلِ مساراتِهم، أو إصلاحِ ما لا يُصلحُ، فالحكمةُ التي تعلّمتَها هيَ: "كلُّ طريقٍ يُنبئُ عن سالكِه". ستحترمُ سرَّ الحياةِ فيهم، وستُكرّسُ طاقتَكَ لبناءِ عالمِك، لا لهدمِ جدرانِهم.  

وستصبحُ كلماتُكَ ثمينةً كالذهبِ، فلا تُلقيها في آذانٍ مغلقةٍ، لأنّكَ عرفتَ أنَّ الصمتَ أمامَ من لا يسمعُ هوَ أعلى درجاتِ البلاغةِ. ستحتفظُ بقوّتكَ لأفكارِك، لأحلامِك، لتلكَ اللحظاتِ التي تُضيءُ فيها كونَكَ الصغيرَ دونَ حاجةٍ إلى شهودٍ.  

لقد تعلمتَ أخيرًا أنَّ أعظمَ ثورةٍ ستقومُ بها هيَ أنْ تعيشَ، كما لو أنّكَ الوحيدُ في هذا العالمِ... ثمّ تكتشفَ أنَّ هذا هو بالضبطِ! ما كانَ العالمُ ينتظرُه منكَ.

الجزء الثاني: 
الصحوة الروحية والنفسية!  

في صمتِ الليلِ، حين تنكسرُ كلُّ الأقنعةِ، تُولدُ اللحظةُ الحاسمةُ: تفتحُ عينيكَ فجأةً على ذاتِك كما هيَ: عاريةً من تبريراتِ الآخرينَ، خاليةً من أوهامِك القديمةِ!، هذه هيَ الصحوةُ التي تنتظرُها الأرواحُ الشجاعةُ: أن تستيقظَ فتُبصرَ نفسَكَ للمرةِ الأولى... وتُحبَّها.  

لن تعودَ تخشى مرآةَ روحِكَ، لأنّكَ الآنَ ترى فيها كلَّ شيءٍ: الجروحَ التي صارتْ حكاياتٍ، والعيوبَ التي صارتْ سِماتٍ، والضعفَ الذي تحوّلَ إلى قوةٍ. لقد قبلتَ تناقضاتِكَ، كأنها فصولُ قصيدةٍ واحدةٍ، فلم تعدْ تحاولُ أن تكونَ "مثاليًا"، بل صِرتَ تبحثُ عن "حقيقيٍّ" فقط.  

ستصبحُ الفوضى خلفَكَ، كأنّكَ تجتازُ بابًا ضخمًا إلى حياةٍ جديدةٍ. ستختارُ السلامَ بوعيٍ، كما تختارُ ثوبًا ناعمًا بعدَ يومٍ طويلٍ. سترفضُ كلَّ ما يُشبهُ الضجيجَ، وستُلقي عن كاهلِكَ أثقالَ العلاقاتِ التي لا تُثمرُ إلاّ التعبَ، لأنّكَ عرفتَ أنَّ السكينةَ ليستْ مكانًا تصلُ إليه، بل هيَ قرارٌ تتّخذهُ كلَّ صباحٍ.  

وفي قلبِ هذه العزلةِ الواعيةِ، ستجدُ نفسَكَ أقربَ ما تكونُ إلى السماءِ. ستُدركُ أنَّ كلَّ هذا التحوّلَ لم يكنْ ممكنًا لولا يدٌ إلهيةٌ تُمسكُ بكَ في الظلامِ. صلاتُك ستتحوّلُ من طقوسٍ إلى محادثاتٍ حميمةٍ، وإيمانُكَ من فكرةٍ إلى ملجأٍ حيٍّ!، وعندما تُغمضُ عينيكَ وتهمسُ: "أنت تكفيني"، ستجدُ أنَّ كلَّ شيءٍ حولَكَ يهدأُ، كأنّما الكونُ كلَّه يُصلّي معكَ.  

هذه هيَ المعجزةُ الحقيقيةُ للصحوةِ: لا أن ترى اللهَ في كلِّ شيءٍ فحسب، بل أن تراهُ في نفسِك أيضًا، حينئذ، لن تعودَ تخشى الضياعَ، لأنّكَ عرفتَ أنَّ كلَّ الطرقِ، حين تُسلكُ بصدقٍ، تؤدي إلى بيتِه.

الجزء الثالث: 
بناء حياةٍ مستحقةٍ والتحررِ من الظلاميين!

ستصبحُ حياتُك ورشةً مقدسةً، تبنى فيها كل يومٍ قطعةً جديدةً من حلمِك. لن تعودَ تقفُ على الرصيفِ تشاهدُ قطارَ الأيامِ يمرُ، بل ستكون أنت القائد الذي يحددُ المحطاتِ والوجهاتِ، لأنك فهمت أخيرًا أن الحياةَ ليستْ منحةً تُمنحُ، بل هيَ تحفةٌ فنيةٌ تُصنعُ بأناملِ الإرادةِ والشجاعةِ.  

سيتغيرُ حولك الناسُ دونَ أن تطلبَ منهم ذلك!، فبعضُ الأرواحِ ستنسحبُ بهدوءٍ، كأوراقِ الخريفِ، لأنها لم تعدْ تجدُ فيكَ ما يروي عطشَها للدراما أو الفراغ، بينما سيقتربُ آخرون، كفراشاتٍ تنجذبُ إلى نورِك الجديدِ. العجيبُ أنكَ لن تبذلَ جهدًا في تصفيةِ علاقاتِك، فالنورُ يطردُ الظلامَ بطبيعتِه، والماءُ العذبُ يرفضُ اختلاطَه بالملحِ.  

لن تراهم بعد اليومَ: أولئك الذين كانوا يجرحونكَ ثمّ يبحثونَ عن دمائِك في الأرضِ، لأنك صِرتَ تسكنُ في مكانٍ أعلى من أيديهم، في قلعةِ الوعيِ التي لا تُقتحمُ. سيحاولونَ في البداية، كالعناكبِ التي تقترب حولَ مصباحٍ مطفأٍ، لكنهم سرعانَ ما سيغيبونَ حين يدركونَ أن النورَ الذي فيك أصبحَ يحترقُ دائمًا.

وستصبحُ مثلَ الشجرةِ التي تطرحُ ثمارَها دونَ أن تسألَ من يأكلُها. ستعطي لأنّ العطاءَ صارَ طبيعتَك الجديدةَ، لا لأنكَ تنتظرُ المقابلَ!، وستفهمُ أن بعضَ الأرواحِ مجردُ مواسمَ عابرةٍ، بينما القليلُ منها فقط سيصبحُ جزءا من جذورِك.  

حين تنظرُ إلى المرآةِ، لن ترى ذلك الشخصَ الذي كانَ يبحثُ عن النورِ في عيونِ الآخرينَ، بل سترى شمسًا صغيرةً تكبرُ يومًا بعد يومٍ، حتى تصلَ إلى ذروتِها!، وعندها، ستدركُ أن التحولَ الحقيقيَّ لم يكنْ في تغييرِ العالمْ حولك، بل في أن تصبحَ أنت العالمْ نفسه.

الجزء الرابع: 
النور الذي تحمله: وصية الروح قبل الرحيل! 

هذهِ ليست نهايةَ الطريقِ، بل هيَ البدايةُ الحقيقيةُ. ما قرأتَه ليس مجردَ كلماتٍ، بل نداء خافتٌ من قلبِكَ إليكَ، يُذكّرك بأنّ الحياةَ تُبنى من الداخلِ إلى الخارجِ!، إنها خارطةُ طريقٍ نحوَ ذاتٍ أكثرَ حريةً، أكثرَ سلامًا، أكثرَ اكتمالًا.  

لقد بدأتْ الرحلةُ حينَ قررتَ أن تخلعَ الأقنعةَ وتستيقظَ!، واستمرتْ حينَ تعلّمتَ أن تقفَ في وسطِ العاصفةِ دونَ أن تنكسرَ، وها هيَ الآنَ تأخذُكَ إلى حيثُ لم تكنْ تتخيلُ أن تصلَ: إلى ذاتِكَ الحقيقيةِ، إلى ذلكَ الجزءِ منكَ الذي كانَ ينتظرُكَ طوالَ هذا الوقتِ، صبورًا، يعلمُ أنك ستعودُ.  

تذكّرْ دائمًا: أنتَ لستَ شجرةً تُقاسُ بظلّها، ولا نهرًا يُقاسُ بعمقِه!، أنتَ أكثرُ من كلِّ المقاييسِ، وأوسعُ من كلِّ التوقعاتِ. النجاحُ هوَ أن تَعيشَ دونَ خوفٍ، أن تُحبَّ دونَ شروطٍ، أن تُعطي دونَ حسابٍ. والسعادةُ ليستْ مكانًا تصلُ إليه، بل هيَ الطريقُ نفسُه حينَ تسيرُ فيهِ بوعيٍ وامتنانٍ.  

لن تكونَ هذهِ الرحلةُ سهلةً، لكنها ستكونُ جميلةً. ستقعُ أحيانًا، لكنكَ ستقعُ إلى الأمامِ. ستبكي أحيانًا، لكنّ دموعَكَ ستُروي بذورَ قوتِك، وستشعرُ أحيانًا بالوحدةِ، لكنّ هذهِ الوحدةَ ستكونُ أكثرَ رفقةً لكَ من كلِّ العلاقاتِ الفارغةِ.  

في النهايةِ، حينَ تنظرُ إلى الوراءِ، لن تندمَ على شيءٍ إلاّ على الأيامِ التي عشتها لغيرِك، والأحلامِ التي أجلتها خوفًا من آراءِ الآخرين!، لكنّ هذهِ الندامةَ نفسها ستكونُ وقودًا لرحلتِك الجديدةِ، حيثُ لا ماضٍ يُثقلُ كاهلك، ولا مستقبلَ يُقلقُك، فقط لحظةٌ حاضرةٌ تعيشها بكلِّ ما فيكَ من نورٍ.  

فكُنْ كما خُلقتَ - بلا قيودٍ تُقيّمُ عطاءَك، ولا شروطٍ تُحدّدُ وجودَك. ببساطة: "أنْ تكون" تكمنُ أعقدُ الحِكمْ، وفي استسلامِكَ لذاتِك يولدُ انتصارُك الأكبر. ليسَ المطلوبُ أن تصيرَ نسخةً من نورٍ آخر، بل أن تعترفَ بأنكَ النورُ ذاته... وهذا يكفي.  

فامْشِ كما يمشي النهرُ نحو بحره، لا تسأل عن المسافة، فكلُّ خطوةٍ في اتجاهِ ذاتِك هي الوصولُ بعينه. كفاكَ حربًا مع نفسكَ، ألقِ السلاحَ واسمح لها أن تتنفَّس، ففي هذا الاسترخاءِ تُبنى العروشُ الحقيقية!، وإذا ما سألكَ الظلامُ: مَن أنت؟، أمسِكْ بصمتِك كشمعةٍ، ودعْ نورَ وجودِك يُجيب. 

جهاد غريب 
يونيو 2025

الأحد، 15 يونيو 2025

الأنثى التي سبقت الكلام!

 
الأنثى التي سبقت الكلام! 

في البدء، لم تكن الكلمة سيدة الموقف، بل كان الصمت... ذلك الملكوت السرمدي الذي يحتضن بذور كل الحروف. لم يكن غيابًا للصوت، بل حضورًا كثيفًا، كأنفاس الكون قبل الضوء، وكارتعاشة قلب تسبق نبضه لحظة الإدراك.
من هناك، من ذلك الهمس البكر، انبثقت أسطورتنا: أنّة البدايات... ودهشة النور حين أطلّ من عتمةٍ لا اسم لها.

ولأن النور لا يحتاج تعريفًا ليُبهر، كان أول تجلٍ له في هيئةٍ لا تُوصف، بل تُحَس – كانت أنثى.

في المسافة المتوترة بين الجسد المادي واللغة، تنبثق الأنثى – لا كصورة مرئية، بل كإحساس غامر يتسرب من بين الشقوق الدقيقة للروح. ليست امرأة تُدرك بالحواس، بل هي الأصل الذي تفرعت عنه كل الحكايات، والعطر الذي يسبق الوردة، والضوء الذي لم يُسمَّ بعد. هي الفكرة الأولى للجمال، حين كان الكون ما يزال يتهجّى حروف الوجود.

ولأن الإحساس لا يُحاصر بل يُعاش، كان لا بدّ أن تصبح الحكاية أكثر من وصف – طقسًا يُمارس.

في هذا اللقاء السري، حيث تذوب حدود الزمان والمكان، وتتماوج الذكرى كأنفاس مرتّلة في معبدٍ داخلي، تتحول اللغة إلى طقس، وتصبح الكلمة صلاةً خاشعة. هنا، حيث يلتقي الماضي بالحاضر كقبلة بين الغيم والريح، تصبح الأنثى الأسطورية تجليًا لا يُدرك بالعقل، بل بالبصيرة. كالبخور المتصاعد من أعماق الأرض، يرقص بين عوالم الوعي والحدس، لا يمسكه أحد، لكنه يشعل شيئًا خفيًا في الداخل.

وحين تشعلك، لا تعود كما كنت... تُصبح أنت أيضًا ترجمةً لما لا يُقال.

هي ليست امرأة بعينها، بل هي كل النساء في جوهرها، وفي الوقت ذاته، لم تكن يومًا امرأة كما نعرف. هي الريح التي تمر ولا تُحتجز، والضوء الذي يملأ القلب دون أن يُرى. هي الغموض الذي يحيط بأصل العشق، والسرّ الذي لا يُقال، بل يُذاق. رحيقٌ يقطر من شفتي الوجود... صوتٌ نعرفه في قلوبنا، ولم نسمعه يومًا.

هكذا، يصبح حضورها غيابًا يُغني، وغيابها حضورًا يُربك – لكنها تظل الحقيقة التي نكاد نلمسها ثم تفلت.

وعندما يتحول الحب إلى تجربة صوفية، يصبح الغياب حضورًا أكثر كثافة، ويصير الهمس أكثر صدقًا من الصراخ. كل لحظة معها، أو عنها، هي لحظة انكشاف؛ كأنك تصحو على ذكرى لم تعشها، وتشتاق إلى لمسة لم تحدث. هي الفجر الذي سبق كل النساء، والغروب الذي يضمّهن كأغنية أخيرة.

وربما كانت الحروف، بكل ارتجافاتها، مجرد محاولات لتطويق شعاعٍ لا يُحدّ.

فكيف نكتب عن هذا اللقاء السامي؟ كيف نحصر النور في زجاجة الحروف؟ لعل الكلمات التي ننثرها في العابر من أيامنا، هي ذاتها الجسر السري الممتد من العالم المحسوس إلى اللامرئي، لعل اللغة – رغم هشاشتها – هي البوابة التي نعبر بها نحو الحقيقة التي لا تُقال.

وحين نخطو عبر تلك البوابة، لا نعود كما كنا، لأن الأسطورة لا تُروى إلا من الداخل.

حينها، نصبح نحن أيضًا جزءًا من الأسطورة. نتحوّل إلى حكاية تُروى دون أن تُكتب، إلى صدى يهمس في قلب الزمن. نذوب في اللحظة كما يذوب الحلم عند تخوم اليقظة. في تلك اللحظة، لا نحتاج إلى تعريف أو تصنيف، لأن الحب، في أصفى تجلياته، لا يُقال، بل يُعاش.

ولأننا نعيشه، فإننا لا نكتفي بالبصر، بل نفتحه بالبصيرة، ونستسلم لذلك المجاز الذي يشبه اليقين.

دعونا نغلق أعيننا، ونصغي لذلك النبض الخفي بين السطور، لصمتٍ يشبه اسمها، ولنورٍ يسبق الضوء. لأن الحقيقة لا تُقال، بل تُدرك لحظة سكينة تسبق العاصفة، ولأنها – في جوهرها – ليست امرأة تُروى، بل هي النبضة التي ارتجف لها الكون في البدء.

إنها ليست حضورًا نرصده، بل غيابًا نتوق إليه. ليست كلمة نكتبها، بل نبضة نولد فيها. الأنثى التي سبقت كل الكلام... هي المعنى الذي من أجله خُلِقت الكلمات.

جهاد غريب 
يونيو 2025


وميض الصمت!

 
وميض الصمت!

ليس على الوجود أن يُعلن حضوره كي يُفهم، فبعض المعاني تسري كما النسيم في الظلال، صامتة، لكنها تغيّر اتجاه الغصن وتحرّك الستارة. وحده من يصغي لما لا يُقال، يدرك أن الصمت ليس فراغًا، بل امتلاء هائل ينتظر من يترجمه.

هكذا تبدأ الحكاية، لا بانفجار ولا بدويّ تصريح، بل بارتجافة خفية في عمق الروح، وفي موضعٍ لا تصل إليه الكلمات، ينبثق النور الأول.

وما إن يولد هذا النور في الأعماق، حتى يبدأ تحوّل صامت، لا تراه العين لكنه يغيّر ترتيب الداخل، وهناك، حيث لا ضجيج، تبدأ جذور الإبداع في الامتداد، لا بعنف، بل بثبات يشبه نسج العنكبوت: دقيق، صبور، لا يُرى وهو يحدث، لكنه يُدهش حين يُكتمل.

ليس الإبداع ابنَ الصدفة ولا وليدَ لحظة ملهمة، بل هو تراكم صبرٍ وتأمل، وهدوء يشبه سكون الجمر تحت الرماد.

ولا يكون الصبرُ سكونًا، بل مقاومة ناعمة، كتلك التي تبديها النفس حين تهبّ عاصفة الندم، أو حين تقف الذاكرة على أطلال يومٍ لم يعد له اسم. هناك، عند خط التماس بين الأمس والحاضر، تنادي الذكريات إلى ساحة العقل، ليس لتُبكي، بل لتُواجه. مواجهة تخلق من الحطام بذورَ حكمة، ومن القسوة هدوءًا قابلًا للزرع.

في ذلك الهدوء، لا تغيب الطفولة. بل تُطلّ فجأة، لا كاقتحام، بل كتذكير حيّ بأن البراءة لم تُمحَ تمامًا.

وكأن النفس، حين تهدأ وتتفكر، تستدعي ما هو أصدق ما مرّ بها: الطفولة. في أعماق الذاكرة، لا تُولد الأفكار فقط، بل تُولد النظرات الأولى، والضحكات التي لم يُفسدها وعي.

في لحظة صفاء نادرة، يطفو على السطح وجهٌ صغير، ربما نسيناه، لكنه لم ينسنا!، وجه يضحك كما لو أن العالم لا يعرف الألم، وجه يُعيد تشكيل الزمن بطريقة لا يفهمها إلا منْ ما زال يحتفظ بشيء من الطفل فيه.

ذاك الطفل الذي يركض، يطارد ظل فراشةٍ غريبة، لا يعبأ بما خلف الأسوار!، فيه يعيش الحاضر النقيّ، كأنه يصنع توازناً دقيقًا بين زمنٍ ينهار، وآخر لم يولد بعد. وعند ضحكته، تذوب صرامة الأيام، ويستعيد العالم لونه الأول، ولكن الضحكة، مهما طال صداها، لا تُلغي الحقيقة. فبين فرحٍ عابر وآخر مؤجل، تمشي الحياة على حافة الحنين.

وبين تلك المشاهد، يمرّ الحنين، متسائلاً: كم من الوجوه عبرت حياتنا دون أن تترك سوى أثر ظلٍّ؟ وجوهٌ أنهكتها الأحمال، حتى صار الوجود حولها أكثر هشاشة من خيط دخان، لكن الحياة لا تسكن في الندم، بل في الإصرار على أن نُشعل شمعةً، حتى وإن سقطت منا ألف مرة.

والشموع لا تضيء وحدها. تأتي الهمسات - همسات الضمير، والحدس، والحكمة غير المعلنة - فتصير تيارًا داخليًّا دافقًا. هناك، حيث تتجمهر الأصوات الخافتة، ينضج الفكر، ويخضرّ القلب، ويجد الإنسان ما يشبه اليقين، ولو مؤقتًا.

وفي مواجهة كل ما يبعثرنا، لا نملك إلا أن نُصغي إلى ذلك الرجاء الصامت في الأعماق. رجاء يشبه شهقة أرض عطشى تتهيأ للمطر، متيقنة أن حتى الغيم المتجهم قد يخفي خلفه بداية لا تشبه ما مضى.

حتى الفوضى، حين تتلبّد كغيومٍ مستعجلة فوق جبين الحياة، لا تكون النهاية!، فكلٌّ يحمل في جوانحه ربيعًا مترددًا، وكل قسوة تخفي وعدًا لا يُقال. ترى البراعم الصغيرة، تتغنى رغم الريح، تعلن أن البقاء لا يحتاج إلى صراخ، بل إلى ثبات لا يُرى.

ولأن الثبات في وجه العواصف لا يخلو من رجاء، فإن الأمنيات تولد لا حين يكون الطريق واضحًا، بل حين يتكثّف الضباب وتتشقق السماء.

حين تنكسر الحسابات الباردة، ويصير المنطق عاجزًا عن شرح اندفاع القلب، تظهر الأمنيات ككائنات خفية تهمس بما لا يُقال، فتتسلل من بين الشكوك، وتغرس بذورها في تربة الرجاء. في نقطة ما من الأعماق، يولد المستحيل من إيمان هادئ لا يعترف بالحواجز.

الأمنيات، حين تسكن القلب لا العقل، تُغيّر قوانين الكون. لا لأن لها قوة سحرية، بل لأن الإنسان حين يؤمن، يزيح بعزيمته ما بدا صلدًا كجدار، فيتداعى أمامه كما تسقط أوراق الخريف بلا ضجيج.

ثم، بعد كل ما حدث وما لم يحدث، نقف للحظة على عتبة صمت طويل!، كأننا ننتظر إشارة من الداخل لا من الخارج، لنفهم أن الانتهاء ليس نهاية، بل تحوّل، وأن ما نجا فينا، هو ما لم نكن نعلم أنه حي.

وحين تنتهي المعركة، أو يبدو أنها انتهت، لا تكون النهاية إلا بداية أخرى. الصمود، إذن، ليس جمودًا، بل خفة داخلية، تجعل الروح تطير فوق سحب لا تتعب من الجريان. في سكونها، ثورة، وفي صبرها، قرار.

فنحن لسنا أدوات تعصف بها رياح العالم، بل نُولد من جديد كلما أُطفئت نار، أو انهار حلم. نحن نبني من ركام البارحة صورة الغد، وننسج من خيوط الألم نسيجًا لا يُرى بالعين، لكنه يحفظ حرارة القلب. نحن الوعد، والجواب، والصدى البعيد.

وكل هذا ليس إلا تذكيرًا بأن في الصمت وميضًا. من يتبعه، يصل، فالصمت، حين يُصغى له جيدًا، لا يهمس فقط… بل يدلّ.

جهاد غريب 
يونيو 2025

السبت، 14 يونيو 2025

نداء ما قبل الانفصال: رسالة في عتمة الغفلة!

 
نداء ما قبل الانفصال: رسالة في عتمة الغفلة!

ليست هذه الكلمات محكمة إدانة ولا صك اتهام، بل هي مرآة هادئة، نضعها برفق أمام بعض النساء، علّها تعكس شيئًا من الضوء على ظلّ قد طال دون أن يُرى. لن أتحدث اليوم بقسوة، ولن ألوّح بأصابع العتاب، بل سأكتب كما تُكتب الرسائل القديمة التي توضع تحت وسادة القلب، تلك التي لا تُقرأ إلا حين يكون الليلُ طويلًا والحياة في منعطف.

في الحقيقة، ليست كل امرأة متزوجة تعرف طعم الخسارة. أقول "بعضهن"، لأني لا أؤمن بالعموم، لكنني أوقن أن هناك من يعبرن سنوات العمر جنبًا إلى جنب مع رجل، دون أن يتذوقن مرارة فقده حتى حين يكون الرحيل أقرب من النفس. والسبب؟ أنهن، في لحظةٍ ما، ينسين أن النعم ليست دائمة، وأن القرب ليس مضمونًا، وأن الحياة لا تفتح ذراعيها دومًا، بل أحيانًا ترفع أكمامها لتظهر قبضتها.

تسير المرأة سنوات مع زوجها، بين فرحٍ وعناء، بين نجاحٍ وتعثر، تراه ينمو، يتشكل، يتألم، يتغير. وربما تلتقي أرواحهما ذات صباحٍ عند نضجٍ مشترك، وربما لا. لكن الإشكال لا يكمن دومًا في اختلاف المفاهيم، بل في انطفاء الإدراك. كثيرٌ من النساء لا يدركن النعمة حين تحضر، ويحسبن أن الخسارة شيء خارجي، بعيد، يأتي فجأة، لا يتسلل بصمت عبر المساحات الفارغة في الحوار.

أن تتصوري أن الخسارة لا تقع، هذا بحد ذاته قصور في الفهم. حين يعيش الرجل مع زوجته سنوات طوال - عشرًا، عشرين، وربما أكثر - يهبها فيها من جهده وماله ووقته وعاطفته، لا بد أن يكون هناك شيء في الميزان، شيء من العرفان. ليس لأن الرجل هو الكفيل والممول، بل لأنه أيضًا الرفيق، والسند، والغطاء الذي احتمت به العائلة من عواصف الزمن. هل يُنسى ذلك لمجرد أن عطاءه خفَّ في مرحلة؟ أو لأنه سقط ذات مرة دون قصد؟

تبدأ المرأة بطلب المزيد، وهذا ليس عيبًا، لكنها حين لا تُجاب، تبدأ بقراءة الرواية من آخر صفحاتها. تنسى الفصول الأولى، تلك التي كُتبت بعرق الصبر، وتغفل عن أن للرجل ظروفًا لا تتشابه، بل تتبدل كما تتبدل الفصول. فإذا لم تغفر له زلّاته الصغيرة، إذا نظرت إليها على أنها عيوب جوهرية، فإنها تضع قدمها الأولى في طريق الخسارة، دون أن تدري.

تتراكم الأسئلة، وتتكثف الاتهامات، ويجد الرجل نفسه محاصرًا لا باللوم فقط، بل بالإحساس بعدم الفهم. وهنا، تبدأ الخسارة الحقيقية، لا في الطلاق، بل قبله بسنوات، حين ينفصل عاطفيًا عن شريكة عمره، فينسحب من قلبها رويدًا، ويترك على الطاولة بقايا حكاية لم تكتمل. وهذه هي الخسارة الأولى التي لا تُسجل في الدفاتر، لكنها تُحفر في الأرواح.

سأتجاوز هنا الحديث عن انعكاسات هذا الانسحاب على الأبناء والأسرة، ليس لأن الأمر لا يستحق، بل لأنني أود أن أضيء على المرأة وحدها، على لحظة غفلتها، على وقوفها في مفترق الطرق دون أن ترى اللافتة التي كانت تنذرها منذ البداية.

حين يغادر الرجل عاطفيًا، لا يأخذ معه فقط أسراره وأفكاره، بل يأخذ الحوار أيضًا. ينهار الجسر الممتد بين روحين، وتخفت الأصوات، ويحل الصمت محل الكلام! وفي ذلك الانهيار، خسارة فادحة لا تدركها المرأة إلا حين تعود ذات مساء ولا تجد سوى الظلال.

صحيح أن كثيرًا من الرجال يملكون طاقة صبر محدودة، وأنهم حين تتجاوز المشكلات خطوطهم الحمراء، يبدأون فعليًا في التفكير في الانفصال، ثم يمضون فيه بخطى هادئة. والطلاق، في النهاية، لا يكون سوى خاتمة لرسالة طويلة من الخسارات الصغيرة، التي لو قُرئت في حينها، لو فُهمت بإمعان، لما وصلت القصة إلى هذا المشهد الأخير.

وإن وصلت المرأة إلى خانة "المطلقات"، تبدأ تسأل: لماذا هانت العشرة؟ لماذا لم يتحملني؟ لماذا لم يستوعبني؟ لكنها - للأسف - تسأل بعد فوات الوقت، وبعد أن أخذتها العزّة بالرفض، وأغلقت نوافذ العقل، وفتحت أبواب الكبرياء.

وحين تهدأ العاصفة، ويعود صوت الذات في قلبها، تبدأ تتلمس الخسارة بأطراف أصابعها. لكنها، في الغالب، تصل إلى طريقٍ بلا عودة، حيث لا يمكن إعادة الأيام إلى سيرتها الأولى.

لذلك، وجب على المرأة أن تعيد تعريف الخسارة. أن لا تراها فقط في لحظة الفقد، بل في اللحظات التي سبقتها، في كل غفلة، وكل تجاهل، وكل سؤالٍ أُلقي دون أن يُنتظر جوابه.

الحياة الزوجية ليست سوقًا تُقطف فيه المكاسب فقط. هي طريق طويل، مليء بالمطبّات والتعثرات والانتظارات. هي نهرٌ، إن توقف جريانه، لن تعود له الحياة بزخات الندم المتأخر. الرجل، مثلها تمامًا، يحتاج من يلتقط تنهيدته، من يفهم صمته، من لا يزن الحب بميزان الهدايا والمكافآت فقط، بل بوزن المواقف وقت الضيق.

ومع نهاية كل حكاية تبدأ أخرى، وليس أقسى على النفس من أن تُدرك الحقيقة متأخرة، كمن يسقي زهرة ذابلة بعد فوات الأوان. لهذا، إن أرادت المرأة أن تصون دفء بيتها، وتحفظ نبض الحب في قلبه، فعليها أن تصغي إلى صمت التفاصيل، وتقرأ ما بين سطور الأيام، لا ما يُقال فقط. 

عليها أن تدرك أن الحوار ليس مجرد كلمات تُقال في الفراغ، بل هو جسر هش، يُبنى بكفتي الصبر والنية، ويُهدم حين يُهمل، لا حين يُكسر. لا تجعلي من كل عثرة على الطريق طبول حرب، فالرجل - وإن بدا قويًا - يتعب، يُخطئ، يضيع أحيانًا بين ضغوط الحياة، وينسى أن يُعبّر لا لأنه لا يشعر، بل لأنه خائف من ألا يُفهم. 

سامحيه كما تودين أن يُسامحك، فالقلوب، كالنوافذ، لا تبقى مشرعة ما لم تُفتح بمحبة كل صباح. أعيدي النظر دومًا في الرحلة، لا في نتائجها فقط، فالحياة ليست ميزان ربح وخسارة، بل هي فسيفساء من مواقف صغيرة تصنع المعنى الكبير. 

كوني له رفيقة لا خصمًا، حليفة لا قاضية، واذكري أن الرجل لا يحتاج إلى من تُراجعه الحساب، بل من تُشاطره الحلم. الحب لا يسقط فجأة، بل يذبل كما تذبل الزهرة التي تُنسى في الزاوية، فلا تشتكي جفافه إن كنتِ قد تركتِه بلا سقي، بلا كلمة، بلا احتضان. 

لا تنتظري أن تدق الخسارة بابك لتستيقظي، فبعض الطرق لا يُمكن العودة منها، وبعض الأبواب لا تُفتح مرتين.

جهاد غريب 
يونيو 2025

فنُّ الصَّمتِ.. عندما يَصبحُ السُّكوتُ أقوى من الكلام!

 
فنُّ الصَّمتِ.. عندما يَصبحُ السُّكوتُ أقوى من الكلام!

في لحظاتِ المُواجهةِ والحِواراتِ المَصيرية، حيث تَعلو الأصواتُ وتتشابكُ الآراءُ كأمواجٍ مُتلاطمةٍ، نَجدُ أنفُسَنا أمامَ خِيارَين لا ثالثَ لهُما: إمَّا أن نَنغمسَ في سَيلٍ من الكلماتِ المُتدفِّقةِ كالنَّهرِ الجارِف، أو أن نَختارَ دَربَ الحُكماءِ الَّذين أدرَكوا أنَّ الصَّمتَ قد يكونُ أبلَغَ من كلِّ خِطاب! فالصَّمتُ ليسَ فَراغًا ولا هُروبًا، بل هو فَضاءٌ واسِعٌ تُزرَعُ فيه بُذورُ الفِكرِ العَميق، ومَسرَحٌ تُعادُ عليه كِتابةُ المَشهَدِ من جديدٍ لصالِحِكَ.

يَظنُّ الكثيرونَ أنَّ الإقناعَ يَعني الإكثارَ من الكلامِ والدِّفاعَ المُستميتَ عن الرأي، غيرَ أنَّ الحِكمةَ الخالدةَ تُخبرُنا أنَّ: "كُلَّما زادَ الكلامُ، ضَعُفَ الوَقْعُ". تَخيَّلْ معي لِلحظةٍ أنَّكَ طَرَحتَ فكرتَكَ بوُضوحٍ وثِقة، ثمَّ انهمَرَ عليكَ سَيلٌ من الاعتراضاتِ والانتقادات. هُنا تَكمُنُ اللحظةُ الفاصِلة: فإذا انجرفتْ وراءَ رغبتِك في الردِّ السريع، فإنَّكَ دُونَ أن تَشعُرَ تُفرِّغُ كَلِمتَكَ من مَضمونِها، وتَهبُ الآخرينَ مفاتيحَ التَّحكُّمِ في مَشاعِرِكَ وردودِ أفعالِكَ. أمَّا إذا اخترتَ الصَّمتَ الواعي، فإنَّكَ تَحتفِظُ بحُجَّتِكَ كاملةً في أذهانِهِم، كشَمسٍ ساطعةٍ لا تُحْجَبُ بسَحابِ الكلماتِ العابِرة.

وإذا أردنا الغَوصَ أكثرَ في أعماقِ هذه الاستراتيجيَّة، فَلنتخيَّلْ معًا أنَّكَ ألقَيْتَ حَجَرَ الفِكرةِ في بُركَةِ الحوارِ الهادِئة، ثمَّ وقفتَ صامتًا تُراقِبُ تَموُّجاتِ الماءِ وهي تَتصاعدُ ثمَّ تَختفي. في هذهِ اللحظةِ بالذَّاتِ يبدأُ السِّحرُ بالحُدوث؛ فبدلًا من أن تَكونَ طَرَفًا في مَعركةٍ كلاميَّةٍ عَقيمَة، تُصبِحُ شاهِدًا على تَحوُّلٍ مُدهِش: يبدأُ الآخرونَ بسماعِ صدى كلماتِهم أنفسِها، فيُدرِكونَ فجأةً حِدَّةَ أو سَطحيَّةَ ردودِهم، ويَشعُرونَ أنَّهم أمامَ شَخصيَّةٍ غيرِ تقليديَّة، لا تَنفعِلُ بسهولة، فتَزدادُ هَيبتُكَ في أعيُنِهم، والأهمُّ من ذلكَ كلِّه، أنَّ الصَّمتَ يُحوِّلُهم من مُهاجِمينَ إلى مُفكِّرين، لأنَّ الطبيعةَ البشريَّةَ لا تُقاوِمُ الفَراغ، وسُرعانَ ما يَسعى الطَّرفُ الآخرُ خلالَ ساعاتٍ قَليلةٍ لِمَلءِ هذا الصَّمتِ بكلامٍ جديدٍ أكثرَ هُدوءًا وتَقَبُّلًا.

لكنْ ماذا لو تَجاوَزَ الأمرُ الحُدودَ المُتوقَّعة؟ ماذا لو انتشَرَ السِّرُّ أو تَحوَّرَ الكلامُ خارجَ الدائرةِ المُحدَّدة؟ في الحقيقة، هذا ليسَ سيناريو افتراضيًّا، بل هو واقِعٌ لا بُدَّ من التَّعامُلِ معهُ بحِكمة! ففي النِّقاشاتِ العائليَّةِ والاجتماعيَّةِ خاصَّةً، لا يُمكنُ أبدًا حَبسُ الكلامِ في دائرةِ الأشخاصِ المُباشرين. بعضُ المعلوماتِ سَتَتَسرَّب، وبعضُ الآراءِ سَتَتحوَّر، وهذا ليسَ دليلَ فَشَلٍ كما يَظنُّ البعض، بل هو اختبارٌ حقيقيٌّ لِثِقتِكَ بنفسِكَ وقُدرتِكَ على إدارةِ المواقف. بدلًا من إهدارِ الطَّاقةِ في لَومِ الآخرين، يُمكنُ تَحويلُ هذا التَّسريبِ إلى فُرصةٍ ذَهبيَّة؛ فغالبًا ما يعودُ إليكَ الحديثُ من أطرافٍ أُخرى بآراءٍ أقلَّ تَشَدُّدًا، لأنَّ الصَّمتَ مَنَحَهم وقتًا ثمينًا للتَّفكير بدلَ التَّصعيد.

ولكي نَنتقِلَ من التَّنظيرِ إلى التَّطبيق، هناكَ قواعدُ ذهبيَّةٌ لا بُدَّ من مُراعاتِها عندَ اعتمادِ استراتيجيَّةِ الصَّمت: لا تُفاوِضْ إلَّا إذا جاءَ الرَّدُّ على شكلِ أسئلةٍ أو استِفسارات، فهذه فُرصتُكَ للإجابةِ بوُضوحٍ. ثِقْ بأنَّ أربعًا وعِشرينَ ساعةً كفيلةٌ بإحداثِ تَغييرٍ جَذريٍّ؛ فالعقلُ البشريُّ لا يُقاوِمُ الغُموضَ الإيجابيّ، وسَيعودُ الطَّرفُ الآخرُ خلالَ يومٍ واحدٍ بِموقِفٍ مُختلِف، لأنَّ صمتَكَ جَعلَهُ يَشُكُّ في صِحَّةِ رَدِّه الأوَّل. تَذكَّرْ دائمًا أنَّ الشَّرحَ والتَّبريرَ الزَّائدَ يَسرِقُ مِنكَ قُوَّتَكَ، فامنَحْهُم الفُرصَةَ لِيَنهَزِموا أنفُسَهم بأنفُسِهم.

وفي الختام، نَعودُ إلى حِكمةِ سون تزو في فنِّ الحرب: "إذا أردتَ أن يُهزَمَ عَدوُّكَ، اترُكْهُ يَنهزِمْ نَفسَهُ". فالصَّمتُ هو تلكَ الأرضُ الخَصبةُ الَّتي تَبتلِعُ أعاصيرَهم، ثم تُخرِجُ منها زُهورَ التَّفاهُمِ والاحترام. إنَّهُ فَنُّ النُّبَلاءِ ودِرعُ الحُكماءِ، وهو ليسَ هُروبًا من المُواجَهة، بل ذُروةُ المُواجَهةِ نَفسِها. فهل أنتَ مُستعدٌّ لأن تُجرِّبَ قُوَّةَ الصَّمت، وتَكتشِفَ كيفَ يُمكنُ للسُّكوتِ أن يَكونَ أبلَغَ من كلِّ كلام؟


جهاد غريب 
يونيو 2025

خِبَاءُ اللَّحْظَةِ: سَرَدِيَّاتُ الْوُجُودِ الْخَفِيَّةِ!

 
خِبَاءُ اللَّحْظَةِ: سَرَدِيَّاتُ الْوُجُودِ الْخَفِيَّةِ! 

(1)
حينَ يَسْكُنُكَ الوجودُ خِفْيةً!


هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي...
يَنْزَفُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِنَا كَالرِّمَالِ الحَارَّةِ،
وَنَحْنُ نَسْعَى خَلْفَ أَعْمَاقِهِ،
كَغَوَّاصِينَ فِي مُحِيطِ اللَّحْظَاتِ.

هُنَاكَ،
تَحْتَ سَطْحِ السَّاعَاتِ المُتَكَاسِلَةِ،
تَكْمُنُ أَسْرَارُ الوُجُودِ:
لَمْسَةُ نَدًى عَلَى وَرَقَةٍ،
صَمْتُ الكَلِمَاتِ قَبْلَ أَنْ تُولَدَ،
وَرَعْشَةُ القَلْبِ عِنْدَمَا تُحَاوِرُ السَّمَاءُ الأَرْضَ
بِأَلْوَانِ الغُرُوبِ.

الجَمَالُ لَيْسَ مَكَانًا نَبْلُغُهُ،
بَلْ هُوَ حَالَةٌ نَنْصَهِرُ فِيهَا كَالشَّمْعِ؛
نَذُوبُ فِي ضَحْكَةٍ لَمْ نَسْمَعْهَا قَطُّ،
أَوْ فِي عَيْنَيْنِ تَحْمِلَانِ أَسْئِلَةَ البِدَايَاتِ.

نَحْنُ لَسْنَا سُكَّانَ الزَّمَنِ،
بَلْ سُكَّانُ تِلْكَ الشَّظِيَّةِ الَّتِي تَتَعَثَّرُ فِيهَا الأَنْفَاسُ،
وَتُصْبِحُ الأَشْيَاءُ البَسِيطَةُ...
مِثْلَ حَبَّةِ قَمْحٍ — كِتَابًا مُقَدَّسًا.

أَتَذْكُرُ يَوْمًا...
لَمَسْتَ فِيهِ الحَيَاةَ بِرِجْلٍ عَارِيَةٍ؟
يَوْمًا شَمِمْتَ فِيهِ خُطُوَاتِ المَطَرِ،
أَوْ أَنْصَتَّ إِلَى صَوْتِ القَمَرِ
وَهُوَ يَحْكِي لِلنُّجُومِ حِكَايَاتِهِ السَّرِّيَّةِ؟

العَالَمُ يُنَاجِينَا بِصَوْتٍ أَخْفَضَ مِنَ الهَمْسِ،
بِلُغَةٍ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا مَنْ يَرْكَعُ عَلَى جَبِينِ اللَّيْلِ،
وَيَفْتَحُ كَفَّيْهِ لِصُبْحٍ جَدِيدٍ...
كَطِفْلٍ يُقْبِلُ عَلَى أَحْلَامِهِ دُونَ خَوْفٍ.

لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الحَقِيقَةِ،
فَقَدْ تَاهَتْ بَيْنَ أَشْطَارِ قَصِيدَةٍ.
اِسْأَلْنِي عَنْ يَدٍ دَافِئَةٍ كَسَرْبِ الحَمَامِ،
عَنْ صَبَاحٍ يَتَعلَّقُ بِشُعَاعٍ وَاحِدٍ،
عَنْ قَلْبٍ يَرْقُصُ...
حِينَ تُنَادِيهِ الرِّيحُ بِاسْمِهِ المَنْسِيِّ.

الحَيَاةُ تَخْتَبِئُ فِي التَّفَاصِيلِ:
فِي غُصُونٍ تَتَكَسَّرُ تَحْتَ وَقْعِ الثَّلْجِ،
فِي نَظْرَتَيْنِ تَلْتَقِيَانِ دُونَ مَوَاعِيدَ،
فِي زَفْرَةٍ تُسْكِبُهَا القُدُورُ قَبْلَ الغَلَيَانِ.

عِشْ كَأَنَّكَ تُحَاوِرُ الوُجُودَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ:
اِشْرَبِ القَهْوَةَ كَأَنَّهَا آخِرُ مَاءٍ عَلَى الأَرْضِ،
اِحْضُنِ اللَّيْلَ كَأَنَّهُ وَطَنٌ يَهْرُبُ مِنْ بَيْنِ أَضْلُعِكَ،
وَاقْرَأْ كِتَابَ العَالَمِ
بِعَيْنَيْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ سَيُغَادِرُ قَرِيبًا.

لَنْ تَبْقَى إِلَّا...
تِلْكَ اللَّحَظَاتُ الَّتِي أَخَذَتْكَ إِلَى حَافَةِ المَسَاءِ:
لَحْظَةٌ صَافِيَةٌ كَنَدًى عَلَى زُجَاجِ القَدَرِ،
تَرْكُضُ فِيهَا كَالطِّفْلِ الَّذِي...
يَرَى أَحْجَارَ البَحْرِ تَتَحَوَّلُ إِلَى ذَهَبٍ،
وَتَنْتَهِي بِكَ إِلَى نَفْسِكَ...
حَيْثُ تَسْكُنُ، أَخِيرًا، فِي جَسَدِ اللَّحْظَةِ.

(2)
حين يُوشوشك الحاضر!


في زحامِ الأيّامِ، تنسلُّ اللحظاتُ...
كنسماتٍ تخطفُها أجنحةُ الوقت،
نُحاوِلُ قَبضَها فتَصيرَ رملًا بينَ أصابعِ السّاعات.

نركضُ في سباقٍ لا خِطامَ له،
ننسى أنّ الحياةَ ليستْ عنوانًا عريضًا،
بل كلماتٌ صغيرةٌ تتساقطُ بينَ الفواصلِ:
ضحكةٌ تنبُتُ فجأةً كزَهرةٍ في صحراءِ الهَمّ،
نغمةُ صوتٍ حنونٍ تَمسحُ التّعبَ عن غُربةِ الأيّام،
أو شمسٌ تغيبُ خجلةً وتتركُ أثرَها على جبينِ الغيم.

فنُّ اللّحظةِ ليسَ ترفًا،
بل نَبضٌ نحاولُ إيقافَهُ لنسترجِعَ أنفاسَنا.
نحنُ لسْنا سوى مرآةٍ تعكِسُ أسرارَ الوجود،
كلُّ جمالٍ نراهُ هو ارتدادٌ لجمالٍ كامِنٍ فينا.
العينُ التي ترى نجمةً في ظُلمة،
هي نفسُها التي ترى دمعةً تتدفّأُ في عينيْ غريب.

الجمالُ لا يصرخُ... إنّه يتسرْبلُ بثوبِ الخفاء:
رائحةُ قهوةٍ تتراقصُ في شارعٍ مهجور،
خطواتٌ تقطعُ صمتَ الليلِ كتمزيقةِ ورق،
أو نظرةُ طفلٍ يُحاولُ فهمَ لغةِ البسْطة.
لا تطلبْ منَ الحياةِ أنْ تتكلّم...
اسمعْ صمتَها، ففيه إجاباتٌ أعمقُ من كلّ الكلمات.

كلُّ لحظةٍ هي وحدةٌ لا تُشبهُ أختَها:
الشمسُ تغيبُ كلَّ مساء،
لكنّ عينيْكَ لا ترى نفسَ البقعةِ المضيوفة،
لأنّك أنتَ... لستَ من كنت.
أنْ تحبِسَ اللحظةَ، هو أنْ تُقبّلَ ظلَّك العابر،
أنْ تعترفَ بأنّك وُجِدتَ هنا...
ولم تكنْ قطُّ قبلَ الآن.

الحواسُّ تتحوّلُ إلى أبوابٍ مشرَّعة:
العينُ تلتهمُ الألوانَ كنحلةٍ تشربُ رحيقَ الوجود،
الأُذُنُ تسمعُ خفَقاتِ الورقةِ قبلَ أن تسقط،
والجِلدُ يسجدُ لرقّةِ النسيم...
كأنّ الحياةَ تُرسِلُ إليكَ رسالةً سرّية:
"لا تخَفْ... أنا أُحاورُ جسدَك قبلَ أن أرحل".

حتّى الألمُ يمتلكُ وجهًا جميلاً...
يفتحُ فيكَ بؤرةَ ضوءٍ لكلِّ ما هو إنسانيّ.
والانتظارُ... ذاك الوحشُ الرقيق،
يُعلّمُكَ أن تسكتَ حتّى تسمعَ دقّاتِ قلبِ الزمن.
نحنُ لسْنا فقراءَ إلى الجمال،
بل إلى نظرةٍ ترفضُ السّطح،
نظرةٍ تغوصُ في الأسفلِ...
لتصعدَ بكلمةٍ: "أنتَ حيّ."

أنْ تتمهّلَ في عالمٍ يركضُ كالسُّكّرِ المنثور...
هذه أعظمُ ثورة.
أنْ تَركَعَ لتجمعَ شظايا اللحظة:
ورقةٌ تسقُطُ كصلاة،
صوتٌ يتكسَّرُ على جدارِ الذكرى،
أو حجرٌ يُشبهُ قلبًا قديمًا.
العجائبُ لا تدقُّ الأبواب...
إنّها تمرُّ بخطواتِ القطاة،
وتتركُ خلفَها أثرًا من ندى...
لكي تعرفَ أنّك لم تكنْ وحدَك.

لن تكونَ الحياةُ أعظمَ ممّا عشتَ:
رشفةُ قهوةٍ تذوبُ فيها أسرارُ الصباح،
حديثٌ عن لاشيءَ...
يبقى كنقشٍ على جدارِ الرّوح،
سماءٌ تلتهمُها عيناكَ قبلَ أن تعودَ إلى أرقامٍ لا تعرفُ الرّحمة.
الحياةُ ليستْ ما نبنيهِ...
بل ما ننساهُ فيصيرُ جذورًا.

مَن عاشَ اللحظةَ بكلّ عُريِها،
لا يخشى الفقدَ...
لأنّ ما ذاقَهُ صارَ دمًا يجري في عُروقِ الزمن.
الجمالُ ليسَ ما نراهُ...
بل ما نحمِلُهُ في صمتِنا حين تنتهي اللعبة.
وَحْدَهُ الحَاضِرُ يَمْلِكُ سِرَّ الخُلُودِ..
فَفِيهِ تَتَفَتَّحُ الزُّهُورُ الَّتِي نَسِينَا أَنَّنَا زَرَعْنَاهَا،
وَفِيهِ يُنْصِتُ القَلْبُ لِوَقْعِ خُطَاهُ فِي الطَّرِيقِ إِلَى نَفْسِهِ.

(3)
سِيَرُ المَوَاجِيدِ الخَفِيَّة!


تُدَثِّرُنَا الأَيَّامُ بِأَكْفَانِهَا المُسَرْوَبَةِ،
وَنَحْنُ نَرْكُضُ خَلْفَ غَدٍ وَهْمِيٍّ...
نَشْرَبُ الوَقْتَ كَالسَّمِّ فِي قَلْبِ العُجَالَةِ،
حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظْنَا عَلَى حَافَّةِ اللَّحْظَةِ،
وَجَدْنَاهَا قَدْ صَارَتْ رَمْلًا بَيْنَ أَضْلُعِنَا.

لَكِنَّ الحَيَاةَ تَنْبُتُ فَجْأَةً...
كَضَحْكَةٍ تَخْرِقُ جِلْدَ الوَقْتِ،
كَغُرُوبٍ يَسْكُبُ نَفْسَهُ فِي فَمِ البَحْرِ،
كَخَطْوَةٍ تَتَوَقَّفُ لِتُحَاوِرَ وَرَقَةً سَاقِطَةً...
هَذِهِ هِيَ المَوَاجِيدُ الخَفِيَّةُ:
لُغَةٌ تَتَكَلَّمُ بِهَا الأَشْيَاءُ البَسِيطَةُ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ.

فَنُّ الحَاضِرِ لَيْسَ هُرُوبًا...
بَلْ هُوَ غَوْصٌ فِي أَحْشَاءِ الوَقْتِ:
أَنْ تَشُمَّ رَائِحَةَ الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ تَبْكِيَهَا السَّمَاءُ، 
أَنْ تَسْمَعَ وَشْوَشَةَ القَهْوَةِ تَتَصَاعَدُ فِي الصَّبَاحِ البَاكِرِ،
أَنْ تَلْتَقِطَ بِعَيْنَيْكَ ارْتِعَاشَاتِ النُّورِ عَلَى جَبِينِ البُسْتَانِ.
الحَيَاةُ تُرْسِلُ رَسَائِلَهَا بِصَوْتٍ أَقَلَّ مِنْ هَمْسِ الجَنَاحِ...
فَمَنْ يَنْحَنِي... يَسْمَعُ.

نَحْنُ لَسْنَا سِوَى أَوْرَاقٍ تَتَقَلَّبُ فِي رِيحِ الزَّمَنِ،
نَخَافُ أَنْ نَسْقُطَ...
غَافِلِينَ أَنَّ السُّقُوطَ هُوَ الوَحِيدُ الَّذِي يُعَلِّمُنَا الطَّيَرَانَ.
الجَمَالُ لَيْسَ مَكَانًا نَصِلُ إِلَيْهِ،
بَلْ هُوَ حَالَةٌ نَسْكُبُ فِيهَا أَنْفُسَنَا:
نَخْبِزُ الخُبْزَ كَأَنَّهُ آخِرُ مَا تَبَقَّى مِنْ قُدْسِيَّتِنَا،
نُحَاوِرُ الغَرِيبَ كَأَنَّهُ كِتَابٌ مَفْتُوحٌ عَلَى أَسْرَارِ العَالَمِ،
نَمْشِي فِي الشَّارِعِ كَأَنَّنَا نَمْشِي عَلَى جِلْدِ قَلْبٍ ضَخْمٍ.

حَتَّى الأَلَمُ... يُمْسِي جَمِيلًا حِينَ نَفْهَمُهُ:
كُلُّ جُرْحٍ هُوَ بَابٌ،
كُلُّ دَمْعَةٍ نَهْرٌ يَجْرِي إِلَى مَحَطَّةِ الفَهْمِ.
وَالانْتِظَارُ... لَيْسَ فَرَاغًا،
بَلْ هُوَ مَسَاحَةٌ تَتَنَفَّسُ فِيهَا الأَشْيَاءُ الصَّغِيرَةُ:
نَمْلَةٌ تَحْمِلُ أَثَرَهَا عَلَى ظَهْرِهَا،
أَوْ يُسْرَى لَيْلِيَّةٌ تُحَاوِرُ زُجَاجَ النَّافِذَةِ.

العَالَمُ يَتَكَلَّمُ دَائِمًا...
بِطَرِيقَةٍ أَقْرَبُ إِلَى الصَّمْتِ.
فَمَنْ يَتَوَقَّفْ عَنِ الكَلَامِ...
يَسْمَعْ دَقَّاتِ قَلْبِ الوُجُودِ:
خُطُوَاتٌ عَلَى دَرَجٍ عَتِيقٍ،
صَدَى أُغْنِيَةٍ بَعِيدَةٍ تَتَأَرْجَحُ عَلَى حَبْلٍ وَاحِدٍ،
رَائِحَةُ خُبْزٍ تَنْسَابُ مِنْ بَيْتٍ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا فِيهِ.  

لَنْ نَذْكُرَ عِنْدَ المَوْتِ إِلَّا اللَّحَظَاتِ الَّتِي عِشْنَاهَا بِكَثَافَةِ الأَبَدِ:
لَحْظَةٌ كَانَتْ فِيهَا يَدُ أُمِّي تَعْجِنُ الذِّكْرَى وَالحَنِينَ،
قُبْلَةٌ أَخَذَتْنَا إِلَى حَدِّ الكَوْنِ... ثُمَّ تَرَكَتْنَا نَنْزِفُ نُجُومًا،
صَمْتٌ كَانَ أَبْهَى مِنْ كُلِّ الكَلِمَاتِ.
الحَيَاةُ لَيْسَتْ مَا نَصْنَعُهُ...
بَلْ مَا يَصْنَعُنَا حِينَ نَنْسَى أَنْ نَصْنَعَ.

كُلُّ لَحْظَةٍ عِشْتَهَا بِعُمْقٍ...
تَصِيرُ جِسْمًا آخَرَ يَنْضَحُ مِنْ جَسَدِكَ:
نُورٌ فِي عَيْنَيْكَ حِينَ تَبْسِمُ،
رَجْفَةٌ فِي يَدَيْكَ حِينَ تُحَاوِرُ الوَجَعَ،
أَوْ صَوْتٌ فِي حَنْجَرَتِكَ يَعْرِفُ أَنَّهُ سَيَمُوتُ...
فَيَتَحَوَّلُ إِلَى أُغْنِيَةٍ.

الزَّمَنُ لَا يَمْضِي...
إِنَّمَا نَحْنُ مَنْ يَسْقُطُ فِيهِ كَحَبَّةِ ضَوْءٍ تَسْتَعِرُ فِي العَتَمَةِ.
وَحْدَهُ مَنْ يَحْتَضِنُ الحَاضِرَ كَأَنَّهُ النَّفَسُ الأَخِير،
يَخْلُدُ... لِأَنَّهُ عَاشَ مَرَّةً وَاحِدَةً كَأَلْفِ حَيَاة.

جهاد غريب 
يونيو 2025

جراحُ الماضي: سكونٌ يُنبتُ زهرَ الحاضر!

 
جراحُ الماضي: سكونٌ يُنبتُ زهرَ الحاضر!

احتفظ بجراحك في أعماقك، كاللآلئ المكنونة في صدَفِ الزمن، أو كالكنوز المدفونة في باطن الأرض، لا تصل إليها إلا يدُ التأمل الحذرة. لا تتركها تطفو على السطح فتتحول إلى أمواجٍ تعكر صفوك، أو أعاصيرَ تعصفُ بهدوئك. فالجراح ليست عدوًّا، لكنها إن خرجت من أعماقها، أصبحت سيفًا يجرحُ حاضرَك، وسحابةً تحجبُ شمس اللحظة الراهنة.
هي صفحاتٌ من ملحمة وجودك، لا تمزقها ولا تُحرقها، لكن لا تضعها في مقدمةِ رفوفِ وعيك. دعها نائمةً في كهوف الذاكرة، فكلُ يقظةٍ لها ثمن، وكل نبشٍ لها يوقظ ألمًا نسي كيف ينام.

لا تفتح صناديق الزمن المغلقة، ولا تنبش القبور القديمة، فما دفنه الزمن ليس من حقك إعادته. جراح الماضي ندوبٌ على جذع شجرةٍ عتيقة، تحكي قصة صمود، لكنها لا تمنع الأغصان من النمو. هي ظلالٌ، إن طاردتها طاردتك، وإن وقفت أمامها طوَّلت ظلها عليك. اتركها حيث استقرت، كأوراق خريفٍ تُغذِّي أرضًا جديدة، أو أمواجٍ هادئة في بحيرة النسيان.

لا تكن سجّان نفسك، ولا تحوِّل ألمك إلى سلسلةٍ تُقيد خطواتك، ولا تجعل ذكرياتك سجنًا تُحبس فيه فرحك. فدفن الجراح ليس نسيانًا ولا إنكارًا، بل هو فنٌّ رفيع لتحويل الألم إلى حكمة، وحبس الضجيج في غرفة التأمل. احملها كوشم داخلي، لا كجرحٍ مفتوح ينزف طاقة لحظتك. احملها كعلامةٍ صامتة تذكّرك بأنك مررت بالعاصفة ونجوت، لا كجرس إنذارٍ يوقظك كلما ابتسمت للحياة.

الماضي لن يرحل إن ظللتَ تمسك بذيله، ولن يختفي إن ظللت تحدق في مرآته، لكنه سيتلاشى إن أرخيت قبضتك، ووجهت نظرك إلى النافذة التي تطل على مستقبلك. فلتكن ذاكرتك كالسماء: تحتفظ بالغيوم لكنها لا تمنع الشمس من السطوع. تذكّر أن كلما أسرعت في دفن أحزانك، أسرع زهر الأمل في البزوغ، وكلما أبحت لجراحك أن تُحدث ضجيجًا، طال أمد الشتاء في قلبك.

ليس المهم كم مرة جرحك الماضي، بل كم مرة علمك أن تلتئم. الجراح ليست عائقًا، بل هي الجسر الذي يعبر عليه الحاضر إلى مستقبل لا يشبه الأمس. فليكن ألمك بذرةً لا شوكة، ومعلمًا لا سجانًا. وليكن صبرك على الجراح إعلانًا لولادة إنسان جديد، يتنفس الحب رغم كل شيء.

وفي النهاية، تذكَّر أن الاحتفاظ بالجراح لا يعني أن نُخفيها عن الحياة، بل أن نُمسك بها برفقٍ، نعلّمها كيف تصمت حين نريد أن نعيش. لأن أعظم انتصاراتك، ليست في نسيان الألم، بل في قدرتك على أن تبتسم رغم وجوده.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الجمعة، 13 يونيو 2025

النور الذي لا يُحجَب!

 
النور الذي لا يُحجَب!

ليست السماءُ مجرد علوٍّ في المكان، بل هي سُلمُ الروح إلى اللانهاية، والنور الذي ينبعث منها ليس ضوءًا فيزيائيًّا يُقاس بعدد الشموس، بل هو نداءٌ وجوديٌّ يُحرِّكُ الظلام الكامن في الأعماق. حين نمد أيدينا نحو هذا النور، لا نطلب شيئًا ماديًّا، بل نطلب أن تُمسحَ ذنوبُنا بقطرةٍ من ذلك الندى الإلهي الذي يُذيبُ الصدأ عن المرايا المُعتِمة في صدورنا.

وإذا أنصتنا لنداء الغيب المتغلغل في أعماق الحضور، سنفهم: ما هو النور إلا اللغة التي يتحدث بها الغيب إلى الشهادة؟ إنه يخترق الحجب بلا استئذان، لأنه - ببساطة - لا يعترف بالحواجز. حين تتبع هداه، فأنت لا تسير في خطٍّ مستقيم، بل تصعد في دوامةٍ وجوديةٍ تذوب فيها الأوهام واحدةً تلو الأخرى. النور هنا ليس مجرَّدَ دليل، بل هو المحوُ الأخير للحدود بين العبد وربه. فالله لا يغفر لأنك تبت، بل يغفر لأنك عرفتَ أن المغفرة جزءٌ من نوره الذي لا ينقطع.

وحين يخترق هذا النور قلب الإنسان، يولد فيه وعيٌ جديد يجعلنا ندرك أن الرحمة ليست شيئًا خارجيًا يفعله الله، بل هي فيضٌ دائم من ذاته الرحمن، فعندما يقول القرآن: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، فهو يخبرنا أن الكون كله محاطٌ بغشاءٍ رحميٍّ لا يُرى. كلُّ همٍّ يتبدد، وكلُّ قلقٍ يذوب، ليس لأن المشكلة زالت، بل لأنك دخلتَ في حقلِ الجاذبية الرحيم. هنا، يصبح القلقُ غريبًا مثل عصفورٍ يحاول الطيران في الفضاء: لا شيء يمنعه، لكنه يفقد معنى السقوط أساسًا، وعندما نذوب في هذا الحقل اللطيف، نكتشف لحظةً لا تُقاس بالزمن، بل بالتحوُّل.

السكينة ليست غيابَ الاضطراب، بل هي الاضطرابُ نفسه وقد تحوّل إلى نشيد!، مثل بحرٍ هائجٍ يكتشف أبدًا أن أمواجه تسبيحاتٌ خفيةٌ في يد الخالق. عندما تنحسر المخاوف، لا تختفي، بل تتحول إلى وقودٍ للروح، لهذا، فإن من يجد الله، لا يصبح بلا هموم، بل يصبح بلا علاقةٍ مع اليأس، كأنما القلب يكتشف أن الخوف كان مجرد وهمٍ ناتجٍ عن نسيانِ اتصاله بذلك النور الأزلي، وعند هذا المفترق، تبدأ كيمياء الروح بالتحرك في أعماقنا دون أن نشعر.

السماء لا تُعطينا نورًا، بل تُذكّرنا أن النور سُخّر لنا، وأن المغفرة والرحمة والسكينة ليست هباتٍ ننتظرها من بعيد، بل هي عوالمُ فطرية ننتمي إليها باليقين والرجاء. كلُّ ما علينا هو أن نرفع أيدينا لله، لا كإيماءةٍ عابرة، بل كطلبٍ صادقٍ للمساعدة. وستأتينا الاستجابة حتمًا، لا لأننا نستحق، بل لأن الله يُحب أن يُذكّره عباده بأنهم ما زالوا على الطريق.

النور لا يُهدى، بل يُكتشف. والله يُطلب، وفي الطلبِ ذِكر، وفي الذكرِ حياة.

وهكذا، يصبح القلقُ مجرد ظلٍّ مؤقتٍ في لوحةِ الوجود، بينما الروح - التي التقت بنورها - تُدرك أنها كانت، دائمًا، في حِضْنِ الرحمن.

في نهاية كل بحث، لا نصل إلى الله كاكتشافٍ جديد، بل نعود إليه كذاكرةٍ قديمة كانت مطموسة بالضجيج. النور ليس طارئًا، بل هو الأصل، ونحن السحابة العابرة. لهذا، كل لحظة يقظة، كل التفاتة صادقة نحو السماء، ليست عبورًا إلى الله، بل عودة إلى ذواتنا كما خُلِقَتْ: من نور، وفي نور، وإلى نور. وما نراه في الخارج ليس سوى انعكاسٍ لما تذكَّرناه في الداخل.

فما أكرم هذا النور الذي لا يُحجب، وما أحنّ هذا الربّ الذي لا ينسى عباده، حتى حين ينسونه.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الحبّ: نداء الروح في صمت الكون!

 
الحبّ: نداء الروح في صمت الكون!

في زمنٍ يلهث وراء التفسيرات، ويختزل المشاعر في معادلات، يظلُّ الحبُّ لغزًا يُضاء من داخله، كشمعةٍ تشتعل في كهفٍ سحيق. لا يُقاس بالكمّ، ولا يُوزن بالمنطق، بل هو كالنسمة التي تمرُّ بين الأصابع، تُحسّها لكنك لا تملكها. إنه ذلك السرّ الذي يُقلب القلب رأسًا على عقب، فيجعل من الضعف قوّة، ومن الفناء خلودًا.  

هذا الحبُّ لا يُفسّر، لا يُختبر، لا يُقاس ولا يُحاصَر في معادلة، كأنه نغمةٌ خرجت من حنجرة كوكبٍ لا نعرف اسمه بعد. ليس تجريبًا عقليًّا ولا رغبةً مؤقتة، بل هو ذوقٌ سماويّ، إشراقٌ وُلد في مجرّة الأرواح قبل أن تُسكب في أجساد. لا تُدركه العيون التي أرهقها غبار المقارنات، ولا تسمعه الآذان التي ألفت نشاز الجراح. هذا الحبّ كالنجم، لا يظهر إلا في ليلٍ كثيف، حين تُطفأ الأنوار كلها ويبقى وميضُ الحقيقة وحده يرشدنا.  

هو أكثر من إعجاب، أكثر من شغفٍ ينهار عند أول صمت، إنه وطنٌ من لحمٍ ودم، يُبنى فينا لا فوقنا، يُزهر في حطامنا لا على أطرافنا. عندما ينهار العالم، يصبح هو حدودنا الجديدة، لغةُ النجاة وهمس النجوم في سماء أرواحنا. وإن لم يسمعه الناس؟ فكيف يسمع همس المجرة من تعوّد صخب الخراب؟ كيف يفقه الرقص فوق رماد الحروب، من لم يعرف سوى الزحف في ظلال الخوف؟  

لا حاجة في الحبّ للأقنعة، ولا تُستجدى الأصالة كصدقة. من تشبّه بغيره ليُحب، فقد خان روحه أولًا. فالحبُّ زهرةٌ لا تنمو في أرض التنازل، بل تُروى بجذورٍ تعرف تمامًا من أين جاءت وإلى أين تنتمي. حين أقول "أحبك"، لا أعدُّ لكَ نجمات السماء، بل أقول: فيك نغمةٌ تسكنني، تشبهني ولا تُشبه أحدًا. أنت مأواي في الخفاء، الذي لا يُرى ولا يُمسك، بل يُحَسّ كما تُحَسُّ الصلاة في صدر المتعبين.  

لا يحتاج حبُّنا إلى تأشيرة دخول، لأنه لم يخرج من حدود الروح أصلًا. لا يُفتَّش في المطارات، ولا يُقيد في سجلات الوافدين. إنه نداءٌ خفيّ، عهدٌ غير مكتوب، يسكننا حتى ونحن نثور، نغضب، نخاف. تلك الروح التي دخلتنا دون استئذان، صارت تسكننا أكثر مما نسكن أجسادنا، حتى بات العناق يبدأ قبل أن تلتقي الأذرع.  

ولأن الخلود ليس حكرًا على الزمن، فإن حبّنا يسكن في كل شيء. إنه الهواء في رئتيّ: إذا حضر، تنفست الحياة، وإذا غاب، اختنق المعنى. لا أحتاج إلى حضورك المادي، لأنك تسكن تفاصيل اليوم كله، من رائحة الفجر إلى شهقة المساء. حضورك لا يُطفأ كضوءٍ في غرفة، بل هو يدٌ ربّت على قلبي فغيّرت شكله إلى ما يشبهك.  

أنت الوطن الذي لا يُرى على الخرائط، لكنه يُحمل في العظام كما يُحمل الإرث في الدم. أنت المدى الذي أهرب منه إليه، والنداء الذي يشبه صلاةً تخرج من صدرٍ مُتعب، وتعود إليه بالطمأنينة. صوتك رنينٌ يُعيد تشكيل هذا الوجود كلما اختلطت الملامح. فحبّنا لا يموت، لا يُختصر، لا يتراجع، بل ينبض كأنه قلبٌ جديد وُضع لنا داخل أجسادٍ قديمة. ولو خذلتنا الحياة، يبقى فينا هذا النبض الواحد، يوقظنا من انطفاء، ويُقسم أن النهاية ليست لنا.  

ربما لن يفهم العالمُ سرَّ هذا الحبّ، ولن تصل إليه خرائط العقل أو بوصلات المنطق. لكنّه يبقى كالماء في الصحراء، يُنبت الحياة حيث لا أثر لها. هو النبض الذي لا يُرى، لكنه يُسمع في صمت الليالي، في همسات الأرواح التي تعرف أن الحبَّ ليس مجرّد كلمة، بل هو البصمة التي تتركها الأبدية على قلوبنا العابرة. فليذهبْ العالمُ إلى غايته، وليبقَ الحبُّ شجرةً تنمو في قلوبنا، تُثمرُ نورًا حتى في أحلك العواصف.

جهاد غريب 
يونيو 2025

ظلال الصبر على جدار الوقت!

  ظلال الصبر على جدار الوقت!  في دهاليز الروح، تتراقص الظلال، وتسكن الشمس السوداء عظامي. نورٌ مقلوب، يمتص الدفء، ويترك خلفه صقيعًا وجوديًا....