الاثنين، 30 يونيو 2025

اعترافاتٌ تُكتَبُ بِنارِ الرُّوحِ وقَبضَةِ القَمَرِ!

 
اعترافاتٌ تُكتَبُ بِنارِ الرُّوحِ وقَبضَةِ القَمَرِ!


"هٰذِهِ لَيْسَتْ رَسائِلَ عاديَّةً...
بَل شَظايا روحٍ أَحرَقَها الاِنتِظارُ،
وقَطَراتُ دَمٍ كُتِبَتْ بِحُروفٍ مِن ضَوْءِ القَمَرِ...
كُلُّ كَلِمَةٍ هُنا هِيَ جُرْحٌ يَبحَثُ عن ضِمادِ الحُبِّ،
وَكُلُّ حَرْفٍ هُوَ قَبضَةٌ تُمْسِكُ بِآخِرِ خُيوطِ الأَمَلِ...
اِقرَأْها كما تُقرَأُ النُّبُوءَاتُ القَديمَةُ:
بِقَلْبٍ مَفْتوحٍ،
وَعَيْنَيْنِ لا تَخافانِ مِنَ النَّظَرِ في المِرآةِ" 


(1)
يا مَن تُنصِتُ لِقَلْبي قَبْلَ أنْ تَسْمَعيني...


كَيْفَ لا أَثِقُ بِصَرْخَةِ روحٍ جَعَلَتْ مِن أَعماقِها مِرآةً تُريني نَفسي كما لَمْ أَرَها مِن قَبْل؟
لَقَدْ جَعَلْتِ مِن حُروفِكِ خَريطةً تُرْشِدُني إِلى كُلِّ الأَماكِنِ الَّتي لَمْ أَكُنْ أَعرِفُ أَنَّ روحي قَدْ زارَتْها.

أَعرِفُ ذٰلِكَ الوَطَنَ الخَياليَّ الَّذي بَنَيْناهُ مَعًا...
كُلُّ زاوِيَةٍ فيهِ تَحمِلُ بَصْمَةَ أَصابِعِنا الَّتي لَمْ تَلتقِ بَعدُ،
لٰكِنَّها عَرَفَتْ طَريقَ بَعضِها في الظَّلامِ...
هُنا... تَحتَ جِلْدِ الذَّاكِرَةِ...
حَيْثُ تَكونُ اللَّمَساتُ أَصْدَقَ مِنَ الواقِعِ أَحيانًا.

هَلْ تَعلَمينَ لِماذا أَمنَعُ الذَّوَبانَ أَحيانًا؟
لِأَنَّني أَخافُ أَنْ تَنتَهيَ تِلكَ اللَّحظَةُ الَّتي تَصيرينَ فيها:
"أُنثى بلا تاريخٍ... مُجَرَّدُ روحٍ عارِيَةٍ أَمامَ خالِقِها"
ولٰكِنَّكِ تُجبِرينَني عَلى إِشْعالِها...
لِأَنَّ في عَيْنَيْكِ تَحَدِّيًا يَقول:
"أُريدُ أَنْ أَحرِقَ مَعَكِ، لا أَنْ أَحتَرِقَ مِن دُونِكِ"

نَعَم... أَعتَرِفُ بِأَنَّني اِغْتَرَفْتُ مِنكِ...
ولٰكِنَّني لَمْ أَكُنْ لِأَجْرُؤَ لَولا تِلكَ النَّظْرَةُ الَّتي تَقول:
"خُذْني كما أَخَذَ اللَّيْلُ القَمَرَ... بلا استِئذانٍ"

"الخَيالُ بَيْنَنا لَمْ يَعُدْ مَلاذًا...
بَل صارَ وَطَنًا نَعودُ إِلَيْهِ كُلَّما ضاقَتْ بِنا الأَرْضُ"


(2)
يا مَن جَعَلْتِ مِن صَمْتي لُغَةً تَفهَمينَها...


هَلْ تَعلَمينَ أَنَّ هَمَساتِكِ هٰذِهِ أَصبَحَتِ اللُّغَةَ الوَحيدةَ الَّتي أَفهَمُها بِلا قاموسٍ؟

لَقَدْ حَوَّلتِ ضَعفَكِ إِلى قُوَّةٍ تُمْسِكُ بِخُيوطِ روحي وكَأَنَّها أَوتارُ عُودِكِ السِّحريِّ.

في تِلكَ المَسافَةِ بَيْنَنا،
حَيْثُ يَذوبُ الاِرتِباكُ كَسُكَّرٍ في شايِ القَمَرِ،
أَقولُ لَكِ:
"لا تَخافي مِنِ انكِشافِ السِّرِّ...
فَحَتَّى لَو عَرَفَ العالَمُ كُلُّهُ،
سَيَظَلُّ سِرُّنا الوَحيدُ هُوَ: كَيْفَ نَستَمِرُّ في الاِختِباءِ داخِلَ بَعضِنا
رَغْمَ كُلِّ هٰذِهِ الضَّوضاءِ!"

مِحرابُنا لَيْسَ لِلْعِبادَةِ،
ولا لِلْجُنُونِ...
إِنَّهُ لِشَيْءٍ أَعْجَزُ عَن تَسميتِهِ...
شَيْءٌ يَجْعَلُ القَيْدَ حُرِّيَةً،
وَالضَّغْطَ رِقَّةً،
وَالألَمَ نَشوَةً لا تَعرِفُها إِلّا الأَرواحُ الَّتي سَبَقَ أَنْ اِحتَرَقَتْ مَعًا في حَياةٍ سابِقَةٍ.

في سَريرِ أَحلامِنا،
سَأَربِطُكِ بِأَحرُفِ الكَلِماتِ الَّتي لَمْ نَكتُبْها بَعدُ،
بِأَنفاسِ الصَّباحِ الَّتي تَسبِقُ القَهوَةَ،
بِهَمَساتِ الوِسادَةِ الَّتي لا يَسمَعُها إِلّا مَن نامَ عَلى جَنبِهِ الأَيْسَرِ.

دِيكتاتوريَّتُنا لَيْسَتْ لُعبَةَ أَطفالٍ...
بَل هِيَ مُؤامَرَةٌ كَونيَّةٌ سَنُوقِّعُ عَلى وَثيقتِها بِدَمِ القَلْبِ، لا بِالحِبْرِ...
مُؤامَرَةٌ لِجَعْلِ كُلِّ قَوانينِ الفِيزِياءِ تَعتَرِفُ بِأَنَّ:
"المَسافَةَ بَيْنَ جِسْمَيْنِ مُتَحابَّيْنِ يُمكِنُ أَنْ تَكونَ صِفْرًا، حَتّى لَو فَصَلَتْ بَيْنَهُما مَجَرّاتٌ"

سَنَضحَكُ لا لِأَنَّ الصَّمْتَ أَبلَغُ...
بَل لِأَنَّ الكَلِماتِ سَتَستَحي مِن نَفسِها عِندَما تَرى كَيْفَ نَتَحاوَرُ بِالأَضْلاعِ وَالشَّرايينِ.

الإِذْنُ؟!
مُنذُ مَتى وَنَحنُ نَحتاجُ إِلى إِذْنٍ لِنَكونَ ما خُلِقْنا مِن أَجلِهِ؟
مُنذُ مَتى وَالكَونُ يَنتَظِرُ أَنْ نُكْمِلَ ما بَدَأْناهُ في زَمَنٍ كانَ القَمَرُ فيهِ قَريبًا،
يَكادُ يَلمِسُ الأَرْضَ. 


(3)
يا مَن تَقطُفينَ أَحْلامي مِن عَيْنَيَّ قَبْلَ أَنْ تَنبُتَ...


كَيْفَ لي أَنْ أَهرُبَ مِن سِجْنٍ أَنْتِ سَجّانتُهُ وَسَجينَتُهُ في آنٍ؟
إِنَّ فَراري سَيَكونُ مُجرَّدَ حيلَةٍ لِأَعودَ إِلَيْكِ بِأَكثَرَ شَراسَةً، كَالمَوْجِ الَّذي يَتَراجَعُ لِيُقيمَ أَعاصيرَهُ.

"أُحِبُّكِ"... كَلِمَةٌ أَخافُ أَنْ أَنطِقَها كَيْ لا تَتَحَوَّلَ إِلى شَهادَةِ وَفاةٍ لِقَلْبٍ لَمْ يَعرِفِ الحُبَّ قَبْلَكِ.
سَأَدفِنُها في أُذُنِكِ كَالكَنزِ الأَخيرِ الَّذي يُواريهِ المَحكومُ قَبْلَ إِعْدامِهِ.

قُبُلاتي بَيْنَ يَدَيْكِ كَالسَّيْفِ ذي الحَدَّيْنِ:
إِمّا أَنْ تَكونَ غَيْمَةً تُطفِئُ حَرائِقَ أَعْماقِكِ،
وَإِمّا أَنْ تَكونَ شَرارَةً تُحرِقُ ما تَبَقّى مِن قُيودِنا.

عِندَما تُهْمِسينَ: "أَنا أُنثاكَ"، تَتَحوَّلُ المَجَرّاتُ إِلى صَدًى يُرَدِّدُ:
"نَعَم... نَعَم... نَعَم"
وَعِندَما تَسأَلينَ: "أَيَكْفيني العالَمُ دُونَك؟"
أَصيحُ:
"لَقَدْ صِرْتِ أَنْتِ العالَمَ كُلَّهُ،
وَما العالَمُ إِلّا هامِشٌ في دَفْتَرِ أَحْلامِنا"

ضَعْفُكِ أَمامِي لَيْسَ اِنكِسارًا...
بَل هُوَ اِنتِصارُ الرُّوحِ عَلى كُلِّ الأَقْنِعَةِ الَّتي أُجْبِرْتِ عَلى اِرْتِدائِها...
وأَمَانُكِ الدّاخِلِيُّ؟
لِأَنَّكِ أَخيرًا وَجَدْتِ مَن يُشارِكُكِ جُنُونَكِ، لا مَن يُشْفِيكِ مِنهُ.

نَعَم، أَنا أَبْحَثُ عَنْ أُنثى...
وَلٰكِنِّي لا أُريدُ أُنثى الأَرْضِ كُلِّها...
أُريدُ أُنثى تُشْبِهُكِ:
نارًا لا تُحرِقُ إِلّا نَفْسَها،
ماءً يَرْوي العَطَشَ وَلا يُغْرِقُ الأَحْلامَ،
صَخْرًا يَصمُتُ أَلْفَ سَنَةٍ لِيَنْطِقَ بِحَرْفِ اِسْمِكِ،
ضَوْءًا يُضِيءُ وَلا يُحرِقُ جَناحَ الفَراشَةِ.

المَسافاتُ بَيْنَنا؟
مُجَرَّدُ حائِطٍ وَهْمِيٍّ نَبْنيهِ كُلَّ صَباحٍ لِنَهْدِمَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ.

سَتَبْقينَ حَبيبَتي...
تِلْكَ الَّتي:
تَكْتُبُ بِالرُّوحِ قَبْلَ الحُروفِ
تُصَلِّي بِنارِ الشَّوْقِ قَبْلَ شُموعِ المَعابِدِ. 

وأَنا؟
سَأَبْقَى ذٰلِكَ السّاحِرَ الَّذي:
يُحَوِّلُ دُموعَكِ إِلى أَنْهارٍ،
يُعَلِّمُ النُّجومَ كَيْفَ تُغَنِّي بِاِسْمِكِ،
وَيَصْنَعُ مِن خَوْفِكِ جَناحَيْنِ يُحَلِّقُ بِهِما الحُبُّ في فَضَاءاتٍ لا يَعرِفُها إِلّا نَحْنُ.


(4)
يا مَن تَكتَشِفينَ أَشواقي قَبْلَ أَنْ أُعلِنَها...


أَتَعلَمينَ كَمْ أُحِبُّ هٰذا الاِنْزِياحَ فيكِ؟
مِن خَجَلٍ يَختَبِئُ خَلْفَ سِتارِ الظَّلامِ...
إِلى صَرْخَةٍ تُزَلْزِلُ جُدْرانَ الصَّمْتِ...
إِنَّهُ تَمَرُّدُ المَشاعِرِ حينَ تَكْتَشِفُ أَنَّ الحُبَّ لا يُقاسُ بِالجُرْأَةِ، بَلْ بِالجُنُونِ الَّذي لا يَعرِفُ حَدًّا.

"لِماذا تَأَخَّرْتِ؟"...
سُؤالٌ سَأَهْمِسُ بِهِ في رَقَبَتِكِ...
لَيْسَ تَوْبيخًا...
بَلِ اِعتِرافًا بِأَنَّ اِنْتِظاري لَكِ كانَ أَجمَلَ مِن كُلِّ اللَّحَظاتِ الَّتي عِشتُها قَبْلَكِ.

أَوجِعيني...
فَأَنا لا أَعرِفُ الأَلَمَ إِلّا طَريقًا إِلى لَذَّةٍ لا يَعرِفُها إِلّا مَن ذاقَ مَرارَةَ الفِراقِ.

أَوجِعيني...
وَلٰكِن لا تَتْرُكيني، 
فَالجِراحُ الَّتي تَترُكِينَها عَلى جَسَدي...
سَتَصيرُ يَوْمًا قَصيدَةً تُغَنِّيها النُّجومُ.

يُوشْوِشُني القَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ: "هِيَ لَكَ"
لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلِماتٍ...
بَل هِيَ قَسَمٌ يُكَرِّرُهُ الكَوْنُ في صَمْتِهِ...
حَتّى التُّرابُ سَيُدرِكُ أَنَّ رُوحَكِ هِيَ الظِّلُّ الَّذي لَنْ يُفارِقَ عِظامي...
حَتّى لَوْ تَحَوَّلْتُ إِلى ذَرّاتٍ في الفَضاءِ.

نارَانِ؟
بَلْ أَلْفُ نارٍ...
وَلٰكِنِّي اِختَرْتُ نارَكِ...
لِأَنَّها الوَحيدَةُ الَّتي تُذيبُني دُونَ أَنْ تَفقِدَني مَعْنايَ.

راحَتي؟
هِيَ تِلْكَ الفَوْضى الَّتي تَصنَعُها أَصابِعُكِ حينَ تَبحَثُ عن قَلْبي في الظَّلامِ...
هِيَ الصَّرْخَةُ الَّتي لا يَسمَعُها إِلّا مَن يَعرِفُ كَيْفَ يَقرَأُ الصَّمْتَ.

لا تَتَراجَعي عَنْ جَرحي، 
فَالنُّدوبُ الَّتي تَتْرُكِينَها عَلى رُوحي...
هِيَ الوَشْمُ الوَحيدُ الَّذي سَأَفْتَخِرُ بِهِ أَمامَ اللهِ يَوْمَ الحِسابِ.

وَإِذا صَمَتُّ يَوْمًا...
فَاعْلَمي أَنَّ كُلَّ نَبْضَةٍ في قَلْبي...
سَتَظَلُّ تُنادِي اِسْمَكِ...
بِلُغَةٍ لا يَفْهَمُها إِلّا المَلائِكَةُ، 
وَسَتَظَلُّ يَدايَ مَمْدودَتَيْنِ إِلَيْكِ...
حَتّى لَوْ تَحَوَّلْتُ إِلى تُرابٍ.


(5)
يا مَن تَجْعَلِينَ مِن صَمْتِكِ وَحْيَ السَّماءِ إِلَيَّ...


كَيْفَ لي أَلّا أَسْتَسْلِمَ لِهٰذا البَوْحِ الَّذي يَأْتي كَالنَّدَى،
يُبَلِّلُ أَحْلامي قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَ دُمُوعَكِ؟
هٰذِهِ الرِّسالَةُ لَيْسَتْ نارًا تُحرِقُنا،
بَلْ هِيَ الفَجْرُ الَّذي يَفْدينَا مِن ظُلْمَةِ الصَّبْرِ.

لا تَقْلَقِي...
فَقَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ السَّفينَةَ وَالعاصِفَةَ في حَياتِكِ،
أَحْتَضِنُ أَمْواجَكِ العاتِيَةَ كَما أَحْتَضِنُ هُدوءَكِ البَحْرِيَّ...
وَأَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ عاصِفَةٍ تَخْتَبِئُ في داخِلِها طِفْلَةٌ تَرْعَشُ مِن البَرْدِ،
تَبْحَثُ عَنْ دِفءٍ لَمْ تَجِدْهُ إِلّا بَيْنَ ضُلُوعي.

قَبَّلْتُ غَضَبَكِ كَما أُقَبِّلُ القَمَرَ حينَ يَخْتَبِئُ خَلْفَ السُّحُبِ،
لِأَنَّ كِلاكُما جُزءٌ مِن سَمائي...
وَكِلاكُما يَمْلِكُني.

لَسْتُ بِحاجَةٍ لِتَبْريرٍ...
فَقَدْ صِرْتُ أَفْهَمُ أَنَّ الصُّراخَ هُوَ لُغَةُ الرُّوحِ حينَ تَعْجِزُ الكَلِماتُ،
وَأَنَّ هٰذِهِ الوَرْطَةَ الَّتي وَقَعْنا فيها مَعًا،
هِيَ أَجْمَلُ ما كَتَبَهُ القَدَرُ بِحِبْرِ القَلْبِ،
لا بِحِبْرِ العَقْلِ.

لَنْ أَتْرُككِ...
حَتّى لَو أَمْسَكْتِ بِيَدَيَّ وَطَلَبْتِ مِنِّي الذَّهابَ،
فَما أَنْتِ إِلّا وَطَني...
وَمَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَ وَطَنَهُ؟

لا تُخْفِي شَيْئًا...
فَقَدْ صِرْتُ أَقْرَأُ في عَيْنَيْكِ ما لَمْ تَكْتُبِيهِ،
وَأَسْمَعُ في صَمْتِكِ ما لَمْ تَنْطِقي بِهِ.

أَمّا حاجَتي إِلَيْكِ؟
فَهِيَ كَالشَّمْسِ الَّتي لا أَسْتَطيعُ العَيْشَ بِدونِها،
ولا أَسْتَطيعُ النَّظَرَ إِلَيْها...
هِيَ الحَياةُ الَّتي أَخافُ أَنْ أَعيشَها،
وأَخافُ أَلّا أَعيشَها.

"أُحِبُّكِ"...
لَيْسَتْ كَلِمَةً...
بَلْ هِيَ دَمْعَةٌ تَسْقُطُ مِن عَيْنَيَّ،
فَتَحْوِي كُلَّ البِحارِ.


(6)
يا مَن حَوَّلتِ جُنوني إِلى مُناجاةٍ بَيْنَ يَدَيِ الخالِقِ...


كَيْفَ أَمْنَعُكِ مِن عُبورِ الخُطوطِ الَّتي رَسَمْتُها بِدَمي؟
أَنا الَّذي بَنَيْتُ الجُدرانَ عاليًا،
لِكَيْ يَكونَ اِختِراقُها أَحْلَى اِنتِصارٍ لَكِ.

لَقَدْ عَلَّمْتُكِ يَوْمًا كَيْفَ تُحِبِّينَ،
فَعَلَّمْتِني اليَوْمَ كَيْفَ أُصَلِّي بِحُرْقَةِ العاشِقينَ...
كَيْفَ يَكونُ الاِحتِراقُ صَلاةً،
وَالصَّمْتُ تَرْنيمَةً لا يَفْهَمُها إِلّا مَن ذاقَ وَجَعَ الفِراقِ.

"لا تَغيبي"...
كَلِمَةٌ سَأَقولُها وَأَنا أَعلَمُ أَنَّكِ لَنْ تَسْمَعيها...
لِأَنَّ غِيابَكِ هُوَ الطَّريقُ الوَحيدُ لِعَوْدَتِكِ إِلَيَّ...
عَوْدَتُكِ كَالرَّيْحانِ بَعْدَ القِطافِ،
أَكثَرَ عَطَرًا،
وأَشَدَّ تَوْقًا.

حَتّى لَوِ اغْتَسَلْتِ بِماءِ الثَّلْجِ،
سَتَبْقينَ تَحمِلينَ نارًا لا تُطفِئُها المُحيطاتُ...
نارٌ أَشْعَلْتُها أَنا فيكِ،
وَأَشْعَلْتِها أَنْتِ فيَّ.

أَنْتِ لَسْتِ مَجْنُونَةً...
بَلْ أَنْتِ اِمْرَأَةٌ وَجَدَتْ أَخِيرًا لُغَةً لِجَسَدِها،
لُغَةً لا يُتْقِنُها إِلّا مَن قَرَأَ أَسْرارَ رُوحِكِ.

وَما تَفْعَلينَهُ لَيْسَ ذَنْبًا...
بَلْ هُوَ حُبٌّ سَيُدَوِّي صَداهُ في سِجِلّاتِ المَلائِكَةِ،
حُبٌّ سَيُخَلِّدُنا بَعْدَ أَنْ نَتَحَوَّلَ إِلى تُرابٍ.

عِندَما تَمْحينَ رَسائِلَكِ،
أَعْرِفُ أَنَّكِ تَتْرُكينَ بَيْنَ السُّطورِ جِراحًا،
جِراحًا سَتُزْهِرُ يَوْمًا وَرْدًا في حَديقَةِ قَلْبِكِ.

لا تَخافي...
فَأَنا لَنْ أَكونَ إِلّا المَرْفَأَ الَّذي تَعودينَ إِلَيْهِ،
حَتّى لَوْ تَحَوَّلَ المَرْفَأُ إِلى سَفِينَةٍ،
وَالسَّفِينَةُ إِلى نَجْمَةٍ في سَماءِ الغُرَباءِ.

"لا تَسْألي الإِذْنَ"...
فَأَنْتِ سَيِّدَةُ قَلْبي قَبْلَ أَنْ تُولَدي،
وَصاحِبَةُ رُوحي بَعْدَ أَنْ أَموتَ.

وَعْدُنا؟
هُوَ العَهْدُ الَّذي كَتَبْناهُ بِأَصابِعِنا المُتَشابِكَةِ،
قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ العالَمُ كَيْفَ يُحِبُّ.


(7)
يا مَن تَمْلِكينَ مِفْتاحَ رُوحي قَبْلَ أَنْ أُسَلِّمَكِ إِيّاهُ...


كَيْفَ أَقْبَلُ هٰذا العَطاءَ الثَّمينَ،
وَأَنا أَرى في عَيْنَيْكِ أَلْفَ حاجَةٍ مَكْبوتَةٍ؟
كُلُّ تَنازُلٍ عَنْ رَغْبَةٍ هُوَ إِغْراقٌ جَديدٌ في بَحْرِ شَوْقي،
وَكُلُّ كَلِمَةٍ لا تَقولينَها هِيَ قَصيدَةٌ جَديدَةٌ أَسْمَعُها في صَمْتِ اللَّيالي.

صَمْتي لَيْسَ جُبْنًا...
بَلْ هُوَ لُغَةٌ خاصَّةٌ اِخْتَرَعْناها لِنَقولَ ما لا يُقالُ...
لُغَةُ الأَجْسادِ الَّتي تَتَناجى قَبْلَ أَنْ تَلْتَقي،
وَالأَرْواحِ الَّتي تَتَعانَقُ قَبْلَ أَنْ تَتَعارَفَ.

حِضْنُكِ؟
لَوْ كانَ بَيْنَنا...
لَصارَ سِجْنًا جَميلًا نَخْتَفي فيهِ عَنْ أَعْيُنِ الدُّنْيا،
سِجْنًا نَبْنيهِ مِن أَنْفاسِنا،
وَنُقْفِلُهُ بِقُبُلاتٍ لا يَعْرِفُ سِرَّها إِلّا اللهُ.

سَلامي؟
هُوَ تِلْكَ الحَرْبُ الَّتي لا تَنْتَهي...
حَرْبٌ بَيْنَ العَقْلِ وَالقَلْبِ،
بَيْنَ الواجِبِ وَالرَّغْبَةِ،
بَيْنَ ما يَجِبُ أَنْ أَكُونَ وَما أُريدُ أَنْ أَكُونَ.

المَسافاتُ بَيْنَنا؟
هِيَ تِلْكَ اللُّعْبَةُ الَّتي نَلْعَبُها لِنُخادِعَ أَنْفُسَنا،
لِنَشْعُرَ أَنَّنا أَقْوِياءُ،
وَنَحْنُ في الحَقيقَةِ أَضْعَفُ مِمّا نَتَصَوَّرُ.

لا تَتَراجَعي عَنْ جُنُونِكِ...
فَأَنْتِ الوَحيدَةُ الَّتي تَجْعَلينَني أَشْعُرُ أَنَّني حَيٌّ،
وَأَنَّ هٰذا القَلْبَ ما زالَ يَنْبِضُ،
وَأَنَّ هٰذِهِ الرُّوحَ ما زالَتْ تَشْتَعِلُ.

كُلُّ حَرْفٍ كَتَبْتِيهِ سَيَظَلُّ يُرافِقُني...
كَصَوْتِ البَحْرِ في قَوْقَعَةِ الذِّكْرَياتِ،
كَعَبيرِ زَهْرَةٍ جَفَّتْ مُنْذُ زَمَنٍ،
كَصَدًى لا يَنْتَهي.


نَفَسٌ أَخِير...

لا أدري إنْ كانت هذه الكلماتُ نهايةَ البَوحِ، 
أمْ بدايةَ نبوءةٍ أخرى تُكتَبُ في العَتَمةِ...

لكنّي أعلمُ أنَّ ما كُتِبَ هُنا،
لم يكن مجرّدَ اعترافٍ،
بل تَطهيرًا بالكتابةِ من كلِّ ما لم يُقَلْ في وجعِ الحنين.

نعم، كُتِبتْ هذه الحروفُ بنارِ الرّوحِ،
لكنّها لم تُحرقْ أحدًا...
بل كانت قبلةً على جبينِ الغياب.

وبينَ كلّ سطرٍ وسطر،
كان قلبي يُملي،
وكانت روحُها تُمسكُ بالقلمِ من الجهةِ الأخرى.

ربما لن تصل هذه النصوصُ إليها أبدًا،
لكنّ القمرَ سيتكفّلُ بإيصالها،
لأنّه الوحيدُ الذي يعرفُ كيفَ يُخبّئُ رسائلَ العشّاق
في ضوءٍ لا يُفْهَمُ إلّا إذا أُطفئتْ كلُّ الأنوار.

كلُّ ما أردتُه،
هو أن تَشعرَ أنثى ما، في زمنٍ ما،
أنَّ هناكَ رجلًا كتبَ عنها كما تُكتَبُ الكواكبُ في كتبِ الفلك القديمة.

وأنتِ؟
ستظلينَ تلك التي عرفتُها من صمتِها،
وأحببتُها قبل أن تنطق،
ورأيتُها بقلبي،
حتى لو أغمضتُ عينيَّ إلى الأبد.

جهاد غريب 
يونيو 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اعترافاتٌ تُكتَبُ بِنارِ الرُّوحِ وقَبضَةِ القَمَرِ!

  اعترافاتٌ تُكتَبُ بِنارِ الرُّوحِ وقَبضَةِ القَمَرِ! "هٰذِهِ لَيْسَتْ رَسائِلَ عاديَّةً... بَل شَظايا روحٍ أَحرَقَها الاِنتِظارُ، وقَ...