الأحد، 15 يونيو 2025

وميض الصمت!

 
وميض الصمت!

ليس على الوجود أن يُعلن حضوره كي يُفهم، فبعض المعاني تسري كما النسيم في الظلال، صامتة، لكنها تغيّر اتجاه الغصن وتحرّك الستارة. وحده من يصغي لما لا يُقال، يدرك أن الصمت ليس فراغًا، بل امتلاء هائل ينتظر من يترجمه.

هكذا تبدأ الحكاية، لا بانفجار ولا بدويّ تصريح، بل بارتجافة خفية في عمق الروح، وفي موضعٍ لا تصل إليه الكلمات، ينبثق النور الأول.

وما إن يولد هذا النور في الأعماق، حتى يبدأ تحوّل صامت، لا تراه العين لكنه يغيّر ترتيب الداخل، وهناك، حيث لا ضجيج، تبدأ جذور الإبداع في الامتداد، لا بعنف، بل بثبات يشبه نسج العنكبوت: دقيق، صبور، لا يُرى وهو يحدث، لكنه يُدهش حين يُكتمل.

ليس الإبداع ابنَ الصدفة ولا وليدَ لحظة ملهمة، بل هو تراكم صبرٍ وتأمل، وهدوء يشبه سكون الجمر تحت الرماد.

ولا يكون الصبرُ سكونًا، بل مقاومة ناعمة، كتلك التي تبديها النفس حين تهبّ عاصفة الندم، أو حين تقف الذاكرة على أطلال يومٍ لم يعد له اسم. هناك، عند خط التماس بين الأمس والحاضر، تنادي الذكريات إلى ساحة العقل، ليس لتُبكي، بل لتُواجه. مواجهة تخلق من الحطام بذورَ حكمة، ومن القسوة هدوءًا قابلًا للزرع.

في ذلك الهدوء، لا تغيب الطفولة. بل تُطلّ فجأة، لا كاقتحام، بل كتذكير حيّ بأن البراءة لم تُمحَ تمامًا.

وكأن النفس، حين تهدأ وتتفكر، تستدعي ما هو أصدق ما مرّ بها: الطفولة. في أعماق الذاكرة، لا تُولد الأفكار فقط، بل تُولد النظرات الأولى، والضحكات التي لم يُفسدها وعي.

في لحظة صفاء نادرة، يطفو على السطح وجهٌ صغير، ربما نسيناه، لكنه لم ينسنا!، وجه يضحك كما لو أن العالم لا يعرف الألم، وجه يُعيد تشكيل الزمن بطريقة لا يفهمها إلا منْ ما زال يحتفظ بشيء من الطفل فيه.

ذاك الطفل الذي يركض، يطارد ظل فراشةٍ غريبة، لا يعبأ بما خلف الأسوار!، فيه يعيش الحاضر النقيّ، كأنه يصنع توازناً دقيقًا بين زمنٍ ينهار، وآخر لم يولد بعد. وعند ضحكته، تذوب صرامة الأيام، ويستعيد العالم لونه الأول، ولكن الضحكة، مهما طال صداها، لا تُلغي الحقيقة. فبين فرحٍ عابر وآخر مؤجل، تمشي الحياة على حافة الحنين.

وبين تلك المشاهد، يمرّ الحنين، متسائلاً: كم من الوجوه عبرت حياتنا دون أن تترك سوى أثر ظلٍّ؟ وجوهٌ أنهكتها الأحمال، حتى صار الوجود حولها أكثر هشاشة من خيط دخان، لكن الحياة لا تسكن في الندم، بل في الإصرار على أن نُشعل شمعةً، حتى وإن سقطت منا ألف مرة.

والشموع لا تضيء وحدها. تأتي الهمسات - همسات الضمير، والحدس، والحكمة غير المعلنة - فتصير تيارًا داخليًّا دافقًا. هناك، حيث تتجمهر الأصوات الخافتة، ينضج الفكر، ويخضرّ القلب، ويجد الإنسان ما يشبه اليقين، ولو مؤقتًا.

وفي مواجهة كل ما يبعثرنا، لا نملك إلا أن نُصغي إلى ذلك الرجاء الصامت في الأعماق. رجاء يشبه شهقة أرض عطشى تتهيأ للمطر، متيقنة أن حتى الغيم المتجهم قد يخفي خلفه بداية لا تشبه ما مضى.

حتى الفوضى، حين تتلبّد كغيومٍ مستعجلة فوق جبين الحياة، لا تكون النهاية!، فكلٌّ يحمل في جوانحه ربيعًا مترددًا، وكل قسوة تخفي وعدًا لا يُقال. ترى البراعم الصغيرة، تتغنى رغم الريح، تعلن أن البقاء لا يحتاج إلى صراخ، بل إلى ثبات لا يُرى.

ولأن الثبات في وجه العواصف لا يخلو من رجاء، فإن الأمنيات تولد لا حين يكون الطريق واضحًا، بل حين يتكثّف الضباب وتتشقق السماء.

حين تنكسر الحسابات الباردة، ويصير المنطق عاجزًا عن شرح اندفاع القلب، تظهر الأمنيات ككائنات خفية تهمس بما لا يُقال، فتتسلل من بين الشكوك، وتغرس بذورها في تربة الرجاء. في نقطة ما من الأعماق، يولد المستحيل من إيمان هادئ لا يعترف بالحواجز.

الأمنيات، حين تسكن القلب لا العقل، تُغيّر قوانين الكون. لا لأن لها قوة سحرية، بل لأن الإنسان حين يؤمن، يزيح بعزيمته ما بدا صلدًا كجدار، فيتداعى أمامه كما تسقط أوراق الخريف بلا ضجيج.

ثم، بعد كل ما حدث وما لم يحدث، نقف للحظة على عتبة صمت طويل!، كأننا ننتظر إشارة من الداخل لا من الخارج، لنفهم أن الانتهاء ليس نهاية، بل تحوّل، وأن ما نجا فينا، هو ما لم نكن نعلم أنه حي.

وحين تنتهي المعركة، أو يبدو أنها انتهت، لا تكون النهاية إلا بداية أخرى. الصمود، إذن، ليس جمودًا، بل خفة داخلية، تجعل الروح تطير فوق سحب لا تتعب من الجريان. في سكونها، ثورة، وفي صبرها، قرار.

فنحن لسنا أدوات تعصف بها رياح العالم، بل نُولد من جديد كلما أُطفئت نار، أو انهار حلم. نحن نبني من ركام البارحة صورة الغد، وننسج من خيوط الألم نسيجًا لا يُرى بالعين، لكنه يحفظ حرارة القلب. نحن الوعد، والجواب، والصدى البعيد.

وكل هذا ليس إلا تذكيرًا بأن في الصمت وميضًا. من يتبعه، يصل، فالصمت، حين يُصغى له جيدًا، لا يهمس فقط… بل يدلّ.

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!

  فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!  الليلُ ثقيلٌ كحِملٍ من رُفاتِ نُجومٍ،  والريحُ تَعوي في صدرِ الفراغِ، كنائحةٍ  على زمنٍ طواهُ الرحي...