الرحلة الداخلية: بين سطوة البصيرة وحاجز الكلمة!
في عزلة البصيرة، يتكشّف للإنسان ما لم يكن مرئيًا حين كانت الحياة تندفع من حوله كعاصفة!، ومن مفارقات هذه الرحلة نحو الداخل أن يبلغ المرء من الوضوح مع ذاته حدًّا يُصبح فيه التواصل مع الآخرين عبئًا لا حاجة له.
الفهم العميق للنفس، في ظاهره، هبة، لكنه في عمقه المجهول قد يتحوّل إلى سجن ذهني محكم، تُغلق أبوابه من الداخل باسم الاكتفاء، وتُعلّق على جدرانه عبارات العزلة المغلفة بالحكمة.
هنا، يُولد ما يمكن تسميته بالاستبصار الوجودي، حين لا تكتفي النفس برؤية ذاتها، بل تبدأ بفك شيفرة دوافعها، والتنبؤ بردود أفعالها، بل وحتى صياغة الردود المتوقعة ممن حولها.
يصبح المرء قادراً على تشخيص حالته الداخلية بتفصيلٍ حادّ، ويقرأ النصائح قبل أن تُقال، ويُحاور الغير في داخله قبل أن ينطق أحدهم بكلمة.
ذلك الصدى الخارجي المأمول يُستبدل بصوت داخلي يشبهه كثيرًا، فيفقد الآخر دوره ويبهت الحضور الإنساني أمام سطوة المعرفة الذاتية.
لكن الغرابة لا تقف هنا، بل تتعمق حين يشعر الإنسان بأن ذاته باتت تكتفي بنفسها، قادرة على تضميد جراحها ومواساتها، تضيء ظلامها الخاص، وتجد في داخلها مشاعل تُرشدها، حتى دون الحاجة إلى إشارات خارجية.
حوار داخلي متواصل، مثل نهر لا يتوقف، يروي عطش الروح في مواسم الجفاف، ومع هذا، تنشأ حاجة دفينة، كأنها صوت فطري يعود من طفولة الإنسان الأولى: الحاجة إلى البوح، إلى الفضفضة، إلى أن يشعر أن هناك من يسمع، لا ليُعلّق، بل ليحضر. لا ليُصلح، بل ليكون.
وهنا يكمن التناقض المؤلم!، فعندما يقرر أن يتحدث، تعترضه جدران التوقع. يعرف سلفًا ما سيُقال، ويكاد يسمع النصيحة المكررة تتسلل إليه قبل أن يُكمل الجملة، فيشعر بثقل التعبير، وكأن كلماته مفرغة من القيمة!، ليس لأن معاناته تافهة، بل لأن الرد المتوقع صار مألوفًا، كوجبة قديمة يعاد تقديمها في كل مناسبة.
هذه النصائح، مهما حَسُنت نواياها، لا تروي عطش البوح، بل تزيده عطشًا، لأن الإنسان في لحظة ضعفه لا يطلب الحل، بل الحضن الرمزي، الاعتراف، الصمت المتفهّم، النظرة التي لا تُسأل ولا تُجيب.
ومع كل ذلك، يبدو الفهم العميق للذات وكأنه تحرر. معرفة مكامن القوة والضعف، وإدراك آليات التفكير، والقدرة على قيادة المشاعر إلى برّ الأمان.
لكن هذا التحرر ذاته يُمكن أن يتحول إلى قيد آخر: قيد العزلة العاطفية!، تلك العزلة التي تُخفي تحتها يقينًا داخليًا يقول إن لا أحد سيضيف جديدًا. فهل يكفي أن نُدرك الحلول؟ أم أننا نحتاج إلى أن يشارِكنا الآخرون طريقنا إليها، حتى لو مشوا معنا بصمت؟
ربما في لحظة ما، يتضح أن الحكمة لا تكمن في اختيار الداخل على حساب الخارج، ولا العكس، بل في إعادة اكتشاف التوازن المفقود بين الاثنين.
الفهم الذاتي ليس نهاية الرحلة، بل بداية نضج مختلف!، نضج يعرف أن الآخر لا يُنتظر منه أن يكون مدهشًا أو مُلهِمًا، بل صادقًا، ربما لا يأتي هذا الآخر بفكرة جديدة، لكنه يأتي بحضوره، بحقيقته، وبلمسة إنسانية تُكمل ما تعجز الذات، في عزّ بصيرتها، عن منحه لنفسها.
وهكذا، تمضي رحلة الفهم الذاتي كمسار بطولي نحو نور داخلي يشق عتمة الوعي!، لكنها، في الوقت نفسه، تَنسج خيوط عزلتها الرقيقة حول الروح، فتجعل الكلمات تبدو فقيرة، والتواصل يبدو مُعادًا، وكأنك تقرأ من كتاب تعرف نهايته.
غير أن التحدي الحقيقي لا يكمن في إسكات هذا النور، بل في السماح له بأن يُطلّ من نوافذه الصغيرة نحو الخارج، دون أن يتوقع شيئًا محددًا. يكفي أن نُجرّب البوح دون انتظار معجزة، لأن المعجزة الحقيقية قد تكمن في أن تجد نفسك مفهومًا، حتى من شخصٍ لم يقل شيئًا.
ففي لحظة الصدق الإنساني، حيث يعترف كلٌّ منّا بألمه أمام الآخر، دون أقنعة، دون نصائح، دون محاولات تبرير أو تفسير… قد يولد نوعٌ جديد من الفهم!، فهم لا يُلغي بصيرتنا الداخلية، بل يؤنس وحدتها، ويمنحها ظلًّا بشريًا لا يمكن للوعي، مهما بلغ من عمق، أن يصنعه وحده.
ربما كان السؤال الأهم هو: كيف نحافظ على ذلك الضوء الداخلي حيًّا، دون أن نحجبه عن الشمس الخارجية؟ كيف لا يتحوّل فهمنا لأنفسنا إلى حصنٍ نختبئ فيه، بل إلى جسرٍ نعبر به إلى الآخر؟
وحده هذا الجسر كفيل بأن يُحوّل العزلة إلى حوار، والبصيرة إلى حضور، والمعرفة إلى معنى مشترك.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق