الخميس، 24 يوليو 2025

ظلال الصبر على جدار الوقت!

 
ظلال الصبر على جدار الوقت! 

في دهاليز الروح، تتراقص الظلال، وتسكن الشمس السوداء عظامي. نورٌ مقلوب، يمتص الدفء، ويترك خلفه صقيعًا وجوديًا. لا ضياء فيه، إلا وهج الألم الخافت، يلسع خلايا الذاكرة، ويغرس جذوره في أعمق النخاع. 

هو ذاك الثقل الذي يشدني إلى الأرض، إلى غياهب ذاتي. حيث تتكشف الحقائق دون ستار، ويصبح الصمت وحده شاهدًا على تمزقٍ لا يُرى. إنه نداء الداخل المدوي، صوتٌ يتردد صداه في كل مفصل، يذكرني بحدود الأفق، وبالمجهول الذي ينتظر.

وفي غبارِ الأيامِ المتراكمة، تستقبلني اعترافاتُ مرآةٍ مغبّرة؛ سطحٌ مهملٌ، لكنه ما زال يُظهر لي صورًا مشوّشة. وجوهٌ تتداخل، وتتلاشى، ثم تعود فجأةً! كأنها لم تغب قط. أصداءٌ لما كنتُ، ولما أصبحت، وكلما نفضتُ عن وجهها غبارَ النسيان، انبثقت حقيقةٌ موجعة: أن الصورة لم تكن يومًا كاملة، وأن الاعتراف بالنقص هو أولى خطوات الرؤية الصادقة.

هي مرآةٌ لا تُجمّل، بل تُعرّي. تُريني أن الكمالَ سراب، وأن الهشاشة هي جوهر الوجود. وفي كل خدشٍ على زجاجها، قصةٌ لم تُروَ بعد، وإضاءةٌ خاطفة لِما كان خفيًّا يتألم في الصدى الخالي.

ومن هذا التجلي المؤلم يتكلم الجليدُ الداخلي؛ بصوتٍ خافت، كصريرِ الريحِ في ليلةِ صقيع، لكنه يحمل حكمةً ثقيلة. ليس بردًا سرمديًا صامتًا، بل هو صمتٌ ثرثار، يروي دون أن يتكلم، ويحكي عن انكساراتٍ، عن بلادةٍ، عن لحظاتٍ انكمشت فيها الروح، خوفًا من لسعاتِ العالم، حتى تجمدت المشاعر، وتحوّلت إلى قشرةٍ واقية.

وما يزال الجليدُ الداخلي يهمس بأن البرودة لم تكن ضعفًا، بل كانت ملاذًا، واستراحةً من لسعاتٍ لا تُعد. وأن العزلة، رغم جمودها، كانت حصنًا صامتًا، يحرس ما تبقّى من اشتعال داخلي لم يكن مستعدًا بعدُ للانطفاء. في هذا التجمد، تكمن قسوةٌ لا تُرى قسوةٌ تُعلّم الصمود، وتُنذر، بهدوءٍ جليدي، أن الانصهار قادمٌ لا محالة! لكن، بعد حين. حين تستوعب الكينونة كلّ ما يمكن أن يُقال في صقيع الروح.

وحين تتقن الإصغاء، لأبسط رعشةٍ في داخلها. يتجسّد هذا الصمت، لا في الفراغ، بل في مذكرات بحرٍ متجمّد. مساحاتٌ شاسعة، من رويةٍ ساكنة، تخفي تحت سطحها المتصلّب تياراتٍ جارفة، وعوالمَ كاملة لا تراها العين. هنا، في هذا القاع الهادئ، تُدوّن الأحلامُ المؤجلة، تُسجّل الأفكارُ التي لم تجد طريقًا إلى النور، والمشاعرُ التي خنقتها الرهبة، قبل أن تنطق بكلمة.

كل نقطة في هذا البحر المتجمّد حكايةُ انتظار، وخفقةُ قلبٍ ظلّ صامتًا طويلًا، لكنه ما زال ينبض. إيمانٌ عميق بأن الداخل السحيق يحمل السر، أن السطح المتبلّد ليس سوى قناعٍ مؤقت، وأن خلف هذا الصقيع، دفءٌ كامن، ينتظر فقط شرارةَ يقظة... لينهار الفراغ القطبي، ويتدفق المعنى من جديد.

لقد حملتُ روحي مسافرًا بلا حقيبة؛ خفيفًا من أثقال الماضي متجردًا من كل ما يمكن أن يُعيق خطاي نحو المجهول. لا أوراقَ تثبت هويتي، ولا ذكرياتَ تُطالب بي في منتصف الطريق.

كنت أمشي وكأن الأرض ليست لي، لكن السماء تومئ لي بأني لست ضائعًا تمامًا. لا أحمل معي سوى وعيي الهش، ذاك الذي يرتجف كشمعة في مهبّ المعنى. وقلبي، ذاك الذي تعلّم كيف يرقص على أنغام الفقدان، لا لأن الرقص نجاة، بل لأنه اللغة الوحيدة التي فهمتُ بها الحزن. 

هي رحلةُ تجردٍ من كل التصورات المسبقة، من كل يقينٍ زائفٍ تَسرّب إلى روحي دون أن أدري. نحو فراغٍ يحتمل كل الاحتمالات، ويفتح ذراعيه على اتساع العالم. كل خطوة هي استسلام لعدم اليقين، ولحظة صفاءٍ وسط ضباب التوقعات.

تصالحٌ هادئ مع فكرة أن الانتماء ليس مكانًا، بل حالة وجود. وأن الأمان الحقيقي... ربما كان دائمًا هناك، في القدرة العميقة على التحرر... لا من العالم، بل من الصورة التي رسمناها لأنفسنا فيه.

ومع كل هذا التيه، أدركت أن حضن العالم كان ثقبًا في الهواء؛ لم أجد فيه الأمان الذي بحثت عنه، ولا الدفء الذي طالما حلمت به. كنت أمدّ يدي بأمل فأعود بها فارغة. أطرق الأبواب مرارًا، لكن الصدى كان وحده من يجيبني. كلما حاولت أن أرتمي في أحضان الحياة، وجدتني أهوي في فراغٍ لا نهاية له، كأن كل الأذرع الممتدة كانت مجرد أشباح، وكل الوعود... مجرد سراب.

تكررت الخيبة، حتى أصبحت يقينًا، والطمأنينة التي كنت أرجوها؟ لم تكن سوى فكرة بعيدة، تسكن سقفًا لا يسند شيئًا. إنه الشعور بأن العالم، بكل اتساعه، لم يكن يومًا بيتًا، بل ممرًا طويلًا... يملؤه الصدى لا الكلام، والغبار لا الذكريات.

لكن، ومع هذا الانكسار العميق، لم تكن النهاية، بل نقطة التحول. إدراكٌ بأن الأمان لا يأتي من الخارج، بل ينبع من الداخل السرّي. وأن الحماية الحقيقية، تُنسج من خيوط الصمود الذاتي، ومن التصالح مع حقيقة الفراغ.

فمن بين ركام هذا التيه، ومن عمق قرار هذا السكون... الصمت ينسجني من جديد. لم يعد سكونًا جليديًّا، ولا صمتًا يتكلّم، بل خفوتًا خلاقًا. يعيد ترتيب الأجزاء المبعثرة، ويرمّم الشروخ القديمة. هو ليس نهاية الرحلة، بل بداية ولادة أخرى... حيث تتلاشى الأنا القديمة، ليفُسح المجال لروحٍ جديدة؛ أكثر وعيًا... وأشدّ مرونة.

في هذا الخرس العميق تُنسج أعصاب الوعي من جديد. شيءٌ ما في الأغوار ينبض بهدوء، كأن الزمن، في سهوٍ عن وجعي، مرّ الصبر كظلٍّ بلا ملامح... لم ينظر حتى خلفه. التجارب القاسية لا تختفي، بل تنصهر في بوتقة واحدة. ليس على عجل، بل كما يذوب الجليد تحت شمسٍ ترتجف في قرارها... لا تُقْدِم، ولا تُحْجم.

كل ألم لا يعود مجرد ندبة، بل يصبح نقطة نورٍ خافتة، تكشف شيئًا خفيًا كنا نغفل عنه طويلًا، وكل خيبةٍ لم تكن نهاية، بل درسًا عميقًا يتسلل ببطء، كقطرة على حجرٍ صبور. إنها عملية لا تتوقف، ولا تُعلن عن نفسها بصخب، بل تعمل في العتمات... بصمتٍ حميم.

نسيجٌ من الوجود يتجدد باستمرار، لا يرفض شيئًا... لا الماضي، ولا التناقض. يتقبل الخيالات الباهتة، كما يتقبل النور، ويحتضن كل تناقضاته... بحنوّ من فهمٍ أخير. عندها فقط... حين يهدأ كل شيء في داخلك، وحين تُسْكِت الصراعات أنفاسها، تُعلن الحياة همسًا: أنها، بكل ما فيها من قسوةٍ وجمال، ليست دعوةً للاستقرار، بل لإعادة اكتشاف الذات، وللتحليق، حتى من قلب الثقب في الهواء.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النور الذي لم يغب: رحلة من الغربة إلى العشق الذاتي!

النور الذي لم يغب: رحلة من الغربة إلى العشق الذاتي! في زحام الوجود، حيث تتدافع الأسئلة وتتشابك المسارات، نبحث عن موطئ قدم في أرضٍ لا تعرف وق...