قوة العطاء والتحمل: رحلة إنسانية ملهمة!
في مدينة لا تُذكر على الخرائط!، لأنها تعيش داخل صدور ساكنيها، رجلٌ يعمل بلا توقف. لا شمس توقفه، ولا عتمة تخيفه، لا جرس ساعة يوقظه لأنه لم يخلد أصلًا إلى النوم. يُقال إنه وُلد وفي يده مفكرة مهترئة، يخطّ فيها مهام الغد قبل أن يتعلم نطق اسمه.
كان يعمل كأن الكون يتكئ على كتفيه، وكأن الأمل لا يتنفس إلا عبر أنفاسه المتقطعة. حين تسأله "لماذا؟"، لا يجيب. فقط يبتسم تلك الابتسامة التي تشبه استراحة حجرٍ على جانب جبل، قبل أن يتدحرج من جديد نحو القاع.
الناس قالوا عنه أشياء كثيرة. بعضهم اعتبره خارقًا، وآخرون ظنوه بليد الشعور، لكنه كان ببساطة إنسانًا، يحمل في داخله فرنًا دائم الاشتعال اسمه "الإرادة"، يخبز فيه أيامه المليئة بالوجع والاحتمال.
يقطع الطريق بعينين مغمضتين، لا عن ضعف بصر، بل لأنه يعرف المدينة من عدد الخطوات التي مشاها وهو يحمل طفله، ووجع ظهره، وفاتورة الكهرباء المؤجلة في جيبٍ مثقوب بالأمل.
في إحدى المرات، قال لصديقه ساخرًا: "أنا لا أعيش، أنا جدول مهام يمشي على قدمين". ضحك، لكن تلك الضحكة كانت أشبه بتنهيدة شخص يتذكر أنه نسي أن يحزن.
ومع ذلك، ثمة عظمة لا تُرى في قدرة المرء على توزيع نفسه بين أدوار لا تنتهي: أبٌ في الصباح، موظف في الظهيرة، طباخ بعد المغرب، ومستمع محترف في ساعات الضياع. هو ذلك البطل الذي لا تذكره الأساطير، لأنه ببساطة لا يملك عباءة، فقط قميصًا مبقعًا بحليب الأطفال.
تقول السيريالية: "كل شيء ممكن في الحلم". لكن الواقع أكثر غرابة، ففيه امرأة تُدير شركة ومطبخًا ومشاعر متقلبة لطفلين ومراهق، وتفعل كل هذا دون أن تفقد ظلال عينيها. أليست هذه سريالية الحياة اليومية؟
وفي خضم هذه الحياة المتشابكة، هناك من لا يطلب شيئًا، فقط يعطي. يمنحك نصف برتقالته ولا يقول لك إنه لم يأكل منذ يومين. يرسل لك رسالة "هل تحتاج شيئًا؟" في ذروة تعبه. هو الذي يختبئ خلف عبارة "أنا بخير" بينما كل خلاياه تصرخ "أنا منهك".
ولعل أجمل ما في هؤلاء الناس، أنهم لا يرون أنفسهم عظماء. هم فقط يسيرون. كما لو أن العطاء هو تنفسهم، والتحمل هو نغمة قلبهم. كأن وجودهم بحد ذاته نوع من الموسيقى التي لا تسمعها إلا الأرواح المتعبة.
وليس هذا كل شيء، فهناك نوع نادر من البشر، يمتلكون شيئًا أغرب من الصبر أو العطاء. لديهم بصيرة. ترى فيك ما لم تره أنت يومًا. ينظر إليك، لا بعين الواقع، بل بعين الإمكانية. هو لا يرى رجلًا مهزومًا، بل فنانًا نائمًا. لا يرى فتاةً يائسة، بل قائدة مقيدة بالخوف. وجودهم في حياتنا كأنك وجدت مرآةً تعكسك كما يجب، لا كما أنت.
وقد تسأل: "لماذا يفعلون كل هذا؟" لا أحد يعرف. ربما لأنهم يخافون أن ينطفئ العالم إن لم يبقَ فيه مَن يضيء. أو لأنهم عقدوا اتفاقًا سريًا مع الحياة: "لن نشتكي، فقط دعينا نحاول".
وأحيانًا، وسط هذا العطاء اللامحدود، يتسلل إليهم الشك، كفأرٍ في سقف الليل، يسألهم: "ألا يراك أحد؟ ألا تتعب؟" فيبتسمون بمرارة كوميديا سوداء، كما لو أن الحياة مشهد مسرحي طويل، والجمهور خرج في الاستراحة ولم يعد.
لكنهم يستمرون، لأنهم إذا توقفوا، سيتوقف شيء آخر. شيء أكبر من المهام والروتين. شيء اسمه الإنسانية.
هذه ليست قصة بطولات خيالية. هذه مذكرات غير مكتوبة لمن قرروا أن يكونوا الركيزة التي لا تنهار، والماء الذي لا يشتكي من الظمأ، والمصباح الذي يحترق ليهدي غيره.
إنها ليست رحلة عادية، بل نشيدٌ سرّي لأبطال مجهولين، أبطال لا يحاربون بالبنادق، بل بالصبر، ولا ينتصرون في ساحات القتال، بل في ممرات الحياة اليومية.
هؤلاء هم الذين تستند عليهم الحياة في صمت... وتبتسم لهم الأقدار في الخفاء.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق