خسائرنا الصامتة: سيرة ما لم يُحكى بهدوء!
لا يعلو شيء كما يعلو الصمت حين يكون صدى لشيء فقدناه. ليست كل الفجائع نحيبًا. بعضها يتخفّى بين الطيات، كنسمةٍ باردة تمرُّ على الذاكرة، كأثر يدٍ لمستك يومًا ثم اختفت.
هذا المقال ليست مرثية لما مضى، بل محاولة للإنصات إلى ما لم يُقَل: لتلك اللمسات التي لم تكتمل، للرائحة العتيقة التي بقيت عالقة في جدران الغياب، وللغصّات التي قررت أن تظل في القلب، بلا صوت… فقط أثر.
هناك صمتٌ يعلو فوق كل شيء، صمتٌ يلفُّ التفاصيل الصغيرة كغبار الذكريات على رفٍّ منسي. لا أحد يسمعه إلا حين يتحوّل إلى صوت الخسارة، ذلك الصوت الثقيل الذي يتردّد كصدى في غرفة فارغة.
تُغمض عينيك فتكتشف أن ما فقدته لم يكن شيئًا، بل كان كل شيء... كان الضوء الذي يمرُّ بين أوراق الشجر في عز الظهيرة، كان الهمس الذي لم تقله، كان الفراغ الذي تركته يدٌ كانت تمسك بك. الخسارة لا تصرخ أبدًا، إنها تتنفس داخل صمتك، كظلٍّ طويل يسحب ذيله على جدار الذاكرة.
لكننا لا نسمع وقع الفقدان إلا حين نمشي بعيدًا... حين نلتفت، فلا نجد إلا صورًا باهتة وأحلامًا قديمة تفوح منها رائحة الوداع.
كم من رحلاتٍ نعيشها بلا بوّابة عودة؟ نسيرُ ونحن نحمل أحلامنا كحقائبَ خفيفة، لا نعلم أن الخسارة تسير خلفنا بخطواتٍ موزونة، تنتظر اللحظة التي ننظر فيها إلى الوراء فجأةً فلا نجد شيئًا.
قد تمرُّ السنين قبل أن ندرك أننا كنّا نخسر شيئًا كل يوم، كشجرة تسقط أوراقها بصمت. الانهيار ليس النهاية، بل هو البداية الوحيدة التي تُريك أن كل خطوةٍ كانت تحمل في طيّاتها وداعًا.
هكذا تبدأ الخسارات الحقيقية: بلا صوت، بلا إعلان. تبدأ حين نشعر بشيء ينقصنا، دون أن نعرف اسمه. شعورٌ يتسرّب، كالهواء من نافذة مغلقة بالكاد.
أتعرف أن بعض الخسائر لا تُحسّ إلا كوجعٍ غامض في العظام؟ خسائر مثل الهواء الذي يمرُّ بين الأصابع، ومثل الألوان التي تبهرنا ثم تبهت دون أن ننتبه.
قد تكون خسارتك طيفًا من نورٍ مرَّ على حائطٍ ولم يعد، أو كلمةً لم تُقل في الوقت المناسب فتحوّلت إلى شظية في القلب. هناك خسائر لا دموع لها، لأن الدموع تحتاج إلى شكلٍ محدّد، وهذه الخسائر أشبه بضبابٍ يغلف الروح.
وقد تكون أقسى الأشكال، تلك التي لا تشبه شيئًا. لا دموع، لا ملامح. فقط نبض غريب في العظم، وريحٌ باردة تمرُّ بين عظامك وكأنها تسكنك منذ زمن.
كلّنا رواةٌ سيئون لرحلاتنا. نروي البدايات بحماس، والنهايات بوجع، لكن ماذا عن الوسط؟ عن تلك التفاصيل التي سقطت من الذاكرة كحبات عقدٍ انفرط؟ قد تكون الرحلة كلها مخبأة في اللحظة التي ضحكت فيها دون سبب، أو في الطريق الذي مشيتَه يومًا وحيدًا فظننتَ أنك لن تصل.
الروايات الناقصة هي الأصدق، لأنها تترك للخسارة مساحةً كي تتنفس، وللقلب مساحةً كي يتذكّر... أو لينسى.
ولأن الذكرى لا تروى كما هي، بل كما نشعر بها، تصبح الحكاية مجتزأة، كأغنية بلا مقطعها الأجمل، وكأن الذاكرة تترك فقط ما يشبه الحنين أو يُشبهنا.
قلبٌ مليء بالأسئلة هو وطنٌ للحبّ العاصف، لكن ماذا حين يجفّ ذلك الحب؟ يصبح كأنهارٍ تحت التراب، تسمع خريرها لكنك لا تراها.
الأسئلة تبقى كأشجارٍ بلا ظلّ، تحاول أن تسقيها بالإجابات، لكن الإجابات لا تنبت إلا في تربة اليقين، واليقين هو أول ما يموت عندما يغيب الحب.
يتحوّل القلب إلى مكتبة مهجورة، كل رفٍّ يحمل سؤالًا بلا جواب، وكل جواب كان يومًا حبًا لم يكتمل.
وكلما سكتَ القلب، ازدادت ضوضاء الأسئلة. الحب جفّ، ولم يعد هناك سوى صدى الأسئلة. والإجابات؟ صامتة كأحجار مدفونة تحت نهرٍ غائر.
ربما لا نملك ترف استعادة ما مضى، لكننا نملك نعمة الفهم. الفقد لا يمحو، لكنه يُعلّم!، يمنحك عينين جديدتين تنظر بهما إلى نفسك، لا إلى من رحل.
ما يتبقى ليس الوجع، بل الندبة التي تعلّمت كيف تتنفس. والحياة ليست ما نحتفظ به، بل ما تعلمنا أن نودّعه بلطف... دون أن نفقد أنفسنا في الطريق.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق