السبت، 14 يونيو 2025

فنُّ الصَّمتِ.. عندما يَصبحُ السُّكوتُ أقوى من الكلام!

 
فنُّ الصَّمتِ.. عندما يَصبحُ السُّكوتُ أقوى من الكلام!

في لحظاتِ المُواجهةِ والحِواراتِ المَصيرية، حيث تَعلو الأصواتُ وتتشابكُ الآراءُ كأمواجٍ مُتلاطمةٍ، نَجدُ أنفُسَنا أمامَ خِيارَين لا ثالثَ لهُما: إمَّا أن نَنغمسَ في سَيلٍ من الكلماتِ المُتدفِّقةِ كالنَّهرِ الجارِف، أو أن نَختارَ دَربَ الحُكماءِ الَّذين أدرَكوا أنَّ الصَّمتَ قد يكونُ أبلَغَ من كلِّ خِطاب! فالصَّمتُ ليسَ فَراغًا ولا هُروبًا، بل هو فَضاءٌ واسِعٌ تُزرَعُ فيه بُذورُ الفِكرِ العَميق، ومَسرَحٌ تُعادُ عليه كِتابةُ المَشهَدِ من جديدٍ لصالِحِكَ.

يَظنُّ الكثيرونَ أنَّ الإقناعَ يَعني الإكثارَ من الكلامِ والدِّفاعَ المُستميتَ عن الرأي، غيرَ أنَّ الحِكمةَ الخالدةَ تُخبرُنا أنَّ: "كُلَّما زادَ الكلامُ، ضَعُفَ الوَقْعُ". تَخيَّلْ معي لِلحظةٍ أنَّكَ طَرَحتَ فكرتَكَ بوُضوحٍ وثِقة، ثمَّ انهمَرَ عليكَ سَيلٌ من الاعتراضاتِ والانتقادات. هُنا تَكمُنُ اللحظةُ الفاصِلة: فإذا انجرفتْ وراءَ رغبتِك في الردِّ السريع، فإنَّكَ دُونَ أن تَشعُرَ تُفرِّغُ كَلِمتَكَ من مَضمونِها، وتَهبُ الآخرينَ مفاتيحَ التَّحكُّمِ في مَشاعِرِكَ وردودِ أفعالِكَ. أمَّا إذا اخترتَ الصَّمتَ الواعي، فإنَّكَ تَحتفِظُ بحُجَّتِكَ كاملةً في أذهانِهِم، كشَمسٍ ساطعةٍ لا تُحْجَبُ بسَحابِ الكلماتِ العابِرة.

وإذا أردنا الغَوصَ أكثرَ في أعماقِ هذه الاستراتيجيَّة، فَلنتخيَّلْ معًا أنَّكَ ألقَيْتَ حَجَرَ الفِكرةِ في بُركَةِ الحوارِ الهادِئة، ثمَّ وقفتَ صامتًا تُراقِبُ تَموُّجاتِ الماءِ وهي تَتصاعدُ ثمَّ تَختفي. في هذهِ اللحظةِ بالذَّاتِ يبدأُ السِّحرُ بالحُدوث؛ فبدلًا من أن تَكونَ طَرَفًا في مَعركةٍ كلاميَّةٍ عَقيمَة، تُصبِحُ شاهِدًا على تَحوُّلٍ مُدهِش: يبدأُ الآخرونَ بسماعِ صدى كلماتِهم أنفسِها، فيُدرِكونَ فجأةً حِدَّةَ أو سَطحيَّةَ ردودِهم، ويَشعُرونَ أنَّهم أمامَ شَخصيَّةٍ غيرِ تقليديَّة، لا تَنفعِلُ بسهولة، فتَزدادُ هَيبتُكَ في أعيُنِهم، والأهمُّ من ذلكَ كلِّه، أنَّ الصَّمتَ يُحوِّلُهم من مُهاجِمينَ إلى مُفكِّرين، لأنَّ الطبيعةَ البشريَّةَ لا تُقاوِمُ الفَراغ، وسُرعانَ ما يَسعى الطَّرفُ الآخرُ خلالَ ساعاتٍ قَليلةٍ لِمَلءِ هذا الصَّمتِ بكلامٍ جديدٍ أكثرَ هُدوءًا وتَقَبُّلًا.

لكنْ ماذا لو تَجاوَزَ الأمرُ الحُدودَ المُتوقَّعة؟ ماذا لو انتشَرَ السِّرُّ أو تَحوَّرَ الكلامُ خارجَ الدائرةِ المُحدَّدة؟ في الحقيقة، هذا ليسَ سيناريو افتراضيًّا، بل هو واقِعٌ لا بُدَّ من التَّعامُلِ معهُ بحِكمة! ففي النِّقاشاتِ العائليَّةِ والاجتماعيَّةِ خاصَّةً، لا يُمكنُ أبدًا حَبسُ الكلامِ في دائرةِ الأشخاصِ المُباشرين. بعضُ المعلوماتِ سَتَتَسرَّب، وبعضُ الآراءِ سَتَتحوَّر، وهذا ليسَ دليلَ فَشَلٍ كما يَظنُّ البعض، بل هو اختبارٌ حقيقيٌّ لِثِقتِكَ بنفسِكَ وقُدرتِكَ على إدارةِ المواقف. بدلًا من إهدارِ الطَّاقةِ في لَومِ الآخرين، يُمكنُ تَحويلُ هذا التَّسريبِ إلى فُرصةٍ ذَهبيَّة؛ فغالبًا ما يعودُ إليكَ الحديثُ من أطرافٍ أُخرى بآراءٍ أقلَّ تَشَدُّدًا، لأنَّ الصَّمتَ مَنَحَهم وقتًا ثمينًا للتَّفكير بدلَ التَّصعيد.

ولكي نَنتقِلَ من التَّنظيرِ إلى التَّطبيق، هناكَ قواعدُ ذهبيَّةٌ لا بُدَّ من مُراعاتِها عندَ اعتمادِ استراتيجيَّةِ الصَّمت: لا تُفاوِضْ إلَّا إذا جاءَ الرَّدُّ على شكلِ أسئلةٍ أو استِفسارات، فهذه فُرصتُكَ للإجابةِ بوُضوحٍ. ثِقْ بأنَّ أربعًا وعِشرينَ ساعةً كفيلةٌ بإحداثِ تَغييرٍ جَذريٍّ؛ فالعقلُ البشريُّ لا يُقاوِمُ الغُموضَ الإيجابيّ، وسَيعودُ الطَّرفُ الآخرُ خلالَ يومٍ واحدٍ بِموقِفٍ مُختلِف، لأنَّ صمتَكَ جَعلَهُ يَشُكُّ في صِحَّةِ رَدِّه الأوَّل. تَذكَّرْ دائمًا أنَّ الشَّرحَ والتَّبريرَ الزَّائدَ يَسرِقُ مِنكَ قُوَّتَكَ، فامنَحْهُم الفُرصَةَ لِيَنهَزِموا أنفُسَهم بأنفُسِهم.

وفي الختام، نَعودُ إلى حِكمةِ سون تزو في فنِّ الحرب: "إذا أردتَ أن يُهزَمَ عَدوُّكَ، اترُكْهُ يَنهزِمْ نَفسَهُ". فالصَّمتُ هو تلكَ الأرضُ الخَصبةُ الَّتي تَبتلِعُ أعاصيرَهم، ثم تُخرِجُ منها زُهورَ التَّفاهُمِ والاحترام. إنَّهُ فَنُّ النُّبَلاءِ ودِرعُ الحُكماءِ، وهو ليسَ هُروبًا من المُواجَهة، بل ذُروةُ المُواجَهةِ نَفسِها. فهل أنتَ مُستعدٌّ لأن تُجرِّبَ قُوَّةَ الصَّمت، وتَكتشِفَ كيفَ يُمكنُ للسُّكوتِ أن يَكونَ أبلَغَ من كلِّ كلام؟


جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في مرمى الشُّعلة!

  في مرمى الشُّعلة!  لا تُنبِتُ الحياةُ أزهارَها إلا في تربةٍ مُختَبَرة. كأنَّها تُناجيني: "إن كُنتَ موجودًا... فاثبتْ!" وليسَ الو...