الجمعة، 20 يونيو 2025

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

 
على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف! 

لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك". وليس الوجود هنا مجرد نبض أو زفير، بل فعلٌ ثائر، وقيامٌ بعد كل سقوط، ومقاومةٌ تشبه يدًا تلامس زهرة برّية تقف وحيدة في مهبّ عاصفة، فمن قلب الانكسار يولد الدليل على أني ما زلتُ هنا... حيٌّ، وإن كُسِر فيّ كل شيء.

الرقم الخارج عن معادلات الظروف "أنا"، قلها ولا تتردد! نعم، أنا الخارج عن أرقام الإحصاءات الباردة التي تُسقط الإنسان من حساباتها، وأنا الذي لم تستطع التقارير أن تحصي خيباته ولا أن تُقدّر كمّ المعارك التي خاضها وهو يبتسم. أنا الذي لم يُسجل ضمن قوائم "الناجين" لأنني لم أنجُ بالطريقة التي أرادوها... بل صنعت نجاتي على مقاسي، بشيء من الجنون، وكثير من الإيمان.

أنا لا أنتمي إلى جداولهم، ولا أحتكم إلى مؤشراتهم التي تُقاس بمعدلات النجاح المعلّبة، فأنا الذي يربط على قلبه كل فجر، كما يربط المحارب خوذته قبل أن يدخل المعركة، ويُلقي نفسه في يوم جديد وكأنه يلقي بنفسه في النهر الجاري، غير آبه بالتيار، لأن فيه شيء من الصخر وشيء من الماء... مقاومٌ وقابل للتشكل معًا.

الحياة ليست نزهة في حدائق الأرقام التي لا تشمّ رائحة الألم، إنها ساحة نزال لا يُسمح فيها بالخذلان إلا للحظة فقط، كالمقاتل الذي ينهض، يلعق جراحه، ويُكمل طريقه كأن شيئًا لم يكن. هذه اللحظة العابرة من الضعف لا تُدوَّن، لأنها لا تُرضي الأرقام، لكنها الحقيقة التي لا تُقال: أن الإنسان يُهزم كل يوم، لكنه لا ينكسر. 

لهذا، لم يكن لي مكان بينهم... أنا لست رقمًا يُقارن، ولا نسبة تُحسب، بل ظاهرة بشرية تمشي على جمر التجربة، وخللٌ مقصود في هندسة التوقعات، وانحرافٌ نبيل عن خطوط الرسم البياني، لأنني اخترت أن أعيش، لا كما يراد لي، بل كما يُملي عليَّ ضميري، وكرامتي، وأحلامي.

لا أنتظر فهمًا من أحد، ولا أُراهن على أن تُقاس تجربتي بمسطرة الآخرين!، فما مررتُ به لا يُدرّس، وما خضته لا يُوثّق. إنني ببساطة... ذاك الإنسان الذي يلبس الخوف كل ليلة كمعطف، ثم يخرج به إلى العالم ويبتسم. لا لأنه لا يشعر، بل لأنه قرر أن يعلو على الشعور، ويمنحه شكلاً آخر: اسمه الصمود.

سأحتضن حياتي كما يحتضن الأعمى بصيص دفء يتسلّل من نورٍ لا يراه، وسأتنفسها كما يتنفس الغريق قبلة الأمل الأخيرة، وسأقاوم، وأحمل رباطة جأشي كدرعٍ لا يُخرقه اليأس، وأعامل كل ما يأتيني على أنه رسالة مشفّرة من القدر، لا عداء فيها بل اختبار... وما بعد الاختبار إلا درس، وما بعد الدرس إلا سعي نحو المعنى.

ليست المقاومة هي النهاية، بل بدايتها!؛ أن تُقاتل لتبقى واقفًا، ثم تُفكّر لتبقى إنسانًا، وأن تصوغ من ألمك فهمًا، ومن صمتك رؤيا، ومن صبرك جسرًا يمتد نحو الآخرين، ولكن... لا إلى أيّ آخرين، بل نحو من يقدّرون نقاء الهواء حين يُعاد تجديده، نحو من يلمسون العطاء لا من ينهشونه!، وحين تُخلق البيئات الطاهرة، لا تكون وحدك فيها، فهناك دائمًا من ينتظر، لكنهم لا يملكون الشرارة الأولى... كن أنت.

وفي لحظات السكون بعد كل هذا الصراع، كنت أُدرك شيئًا أعمق... أن الله لا يضع أحدًا في امتحانٍ إلا إذا رآه أهلاً للفهم، أهلاً للحمل، أهلاً للبقاء في وجه العاصفة دون أن يفقد إنسانيته. ليست الابتلاءات للضعفاء، بل لذوي العقول، لمن طووا الجهل في صدورهم، وعلّقوا على جدران أرواحهم لافتة: "ما زلت أتعلم".

وحين فهمت ذلك، لا يبقى أمامي إلا أن أُكمل... نعم، لا بد أن أعيش، ولو على أشواك تنزف منها خطواتي، وأعلم أن النتيجة غير مضمونة، لأن المسير نفسه جدير بالاحترام، ولأن النور ليس وعدًا، بل احتمال، ولكنني أراهن عليه، فالقادم - في كل حواسي - أجمل. 

فإن كانت الحياة منصفة، فلن تكون النهاية حزينة لمن أعطى، وجاهد، وسعى دون كلل، وبقي وفيًا لنوره الداخلي، ومضى دون أن يساوم على نقائه، ولم يطلب من الحياة سوى أن تمنحه فرصة ليكون على طبيعته... محاربًا لا قاتلًا، واهبًا لا طامعًا، تائهًا لكنه دائم البحث.

لا شيء يُرعبني الآن، حتى غموض الطريق... فأنا لا أطلب مكافآت، ولا أرتدي عباءة المنتظر، إنها لعبة الحياة كما أفهمها، وسياسة الأقدار، وأنا - كإنسان - لن أكون رقعة تتأرجح على صراط العتاب، بل نقطة الضوء التي رفضت أن تنطفئ، وإن غمرها الليل طويلًا.

في النهاية، كل ما أريده أن أصل إلى آخر الدرب دون أن أفقد قدرتي على الحب، على الأمل، على أن أقول للريح: "كنتِ قوية... لكني عبرتك". 

من لا يُهزم داخله، لا يُهزم أبدًا. هكذا، أعيش... لا كنجاة، بل كملحمة.

جهاد غريب 
يونيو 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

  على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!  لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك...