الجمعة، 13 يونيو 2025

الحبّ: نداء الروح في صمت الكون!

 
الحبّ: نداء الروح في صمت الكون!

في زمنٍ يلهث وراء التفسيرات، ويختزل المشاعر في معادلات، يظلُّ الحبُّ لغزًا يُضاء من داخله، كشمعةٍ تشتعل في كهفٍ سحيق. لا يُقاس بالكمّ، ولا يُوزن بالمنطق، بل هو كالنسمة التي تمرُّ بين الأصابع، تُحسّها لكنك لا تملكها. إنه ذلك السرّ الذي يُقلب القلب رأسًا على عقب، فيجعل من الضعف قوّة، ومن الفناء خلودًا.  

هذا الحبُّ لا يُفسّر، لا يُختبر، لا يُقاس ولا يُحاصَر في معادلة، كأنه نغمةٌ خرجت من حنجرة كوكبٍ لا نعرف اسمه بعد. ليس تجريبًا عقليًّا ولا رغبةً مؤقتة، بل هو ذوقٌ سماويّ، إشراقٌ وُلد في مجرّة الأرواح قبل أن تُسكب في أجساد. لا تُدركه العيون التي أرهقها غبار المقارنات، ولا تسمعه الآذان التي ألفت نشاز الجراح. هذا الحبّ كالنجم، لا يظهر إلا في ليلٍ كثيف، حين تُطفأ الأنوار كلها ويبقى وميضُ الحقيقة وحده يرشدنا.  

هو أكثر من إعجاب، أكثر من شغفٍ ينهار عند أول صمت، إنه وطنٌ من لحمٍ ودم، يُبنى فينا لا فوقنا، يُزهر في حطامنا لا على أطرافنا. عندما ينهار العالم، يصبح هو حدودنا الجديدة، لغةُ النجاة وهمس النجوم في سماء أرواحنا. وإن لم يسمعه الناس؟ فكيف يسمع همس المجرة من تعوّد صخب الخراب؟ كيف يفقه الرقص فوق رماد الحروب، من لم يعرف سوى الزحف في ظلال الخوف؟  

لا حاجة في الحبّ للأقنعة، ولا تُستجدى الأصالة كصدقة. من تشبّه بغيره ليُحب، فقد خان روحه أولًا. فالحبُّ زهرةٌ لا تنمو في أرض التنازل، بل تُروى بجذورٍ تعرف تمامًا من أين جاءت وإلى أين تنتمي. حين أقول "أحبك"، لا أعدُّ لكَ نجمات السماء، بل أقول: فيك نغمةٌ تسكنني، تشبهني ولا تُشبه أحدًا. أنت مأواي في الخفاء، الذي لا يُرى ولا يُمسك، بل يُحَسّ كما تُحَسُّ الصلاة في صدر المتعبين.  

لا يحتاج حبُّنا إلى تأشيرة دخول، لأنه لم يخرج من حدود الروح أصلًا. لا يُفتَّش في المطارات، ولا يُقيد في سجلات الوافدين. إنه نداءٌ خفيّ، عهدٌ غير مكتوب، يسكننا حتى ونحن نثور، نغضب، نخاف. تلك الروح التي دخلتنا دون استئذان، صارت تسكننا أكثر مما نسكن أجسادنا، حتى بات العناق يبدأ قبل أن تلتقي الأذرع.  

ولأن الخلود ليس حكرًا على الزمن، فإن حبّنا يسكن في كل شيء. إنه الهواء في رئتيّ: إذا حضر، تنفست الحياة، وإذا غاب، اختنق المعنى. لا أحتاج إلى حضورك المادي، لأنك تسكن تفاصيل اليوم كله، من رائحة الفجر إلى شهقة المساء. حضورك لا يُطفأ كضوءٍ في غرفة، بل هو يدٌ ربّت على قلبي فغيّرت شكله إلى ما يشبهك.  

أنت الوطن الذي لا يُرى على الخرائط، لكنه يُحمل في العظام كما يُحمل الإرث في الدم. أنت المدى الذي أهرب منه إليه، والنداء الذي يشبه صلاةً تخرج من صدرٍ مُتعب، وتعود إليه بالطمأنينة. صوتك رنينٌ يُعيد تشكيل هذا الوجود كلما اختلطت الملامح. فحبّنا لا يموت، لا يُختصر، لا يتراجع، بل ينبض كأنه قلبٌ جديد وُضع لنا داخل أجسادٍ قديمة. ولو خذلتنا الحياة، يبقى فينا هذا النبض الواحد، يوقظنا من انطفاء، ويُقسم أن النهاية ليست لنا.  

ربما لن يفهم العالمُ سرَّ هذا الحبّ، ولن تصل إليه خرائط العقل أو بوصلات المنطق. لكنّه يبقى كالماء في الصحراء، يُنبت الحياة حيث لا أثر لها. هو النبض الذي لا يُرى، لكنه يُسمع في صمت الليالي، في همسات الأرواح التي تعرف أن الحبَّ ليس مجرّد كلمة، بل هو البصمة التي تتركها الأبدية على قلوبنا العابرة. فليذهبْ العالمُ إلى غايته، وليبقَ الحبُّ شجرةً تنمو في قلوبنا، تُثمرُ نورًا حتى في أحلك العواصف.

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

  على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!  لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك...