الجمعة، 13 يونيو 2025

النور الذي لا يُحجَب!

 
النور الذي لا يُحجَب!

ليست السماءُ مجرد علوٍّ في المكان، بل هي سُلمُ الروح إلى اللانهاية، والنور الذي ينبعث منها ليس ضوءًا فيزيائيًّا يُقاس بعدد الشموس، بل هو نداءٌ وجوديٌّ يُحرِّكُ الظلام الكامن في الأعماق. حين نمد أيدينا نحو هذا النور، لا نطلب شيئًا ماديًّا، بل نطلب أن تُمسحَ ذنوبُنا بقطرةٍ من ذلك الندى الإلهي الذي يُذيبُ الصدأ عن المرايا المُعتِمة في صدورنا.

وإذا أنصتنا لنداء الغيب المتغلغل في أعماق الحضور، سنفهم: ما هو النور إلا اللغة التي يتحدث بها الغيب إلى الشهادة؟ إنه يخترق الحجب بلا استئذان، لأنه - ببساطة - لا يعترف بالحواجز. حين تتبع هداه، فأنت لا تسير في خطٍّ مستقيم، بل تصعد في دوامةٍ وجوديةٍ تذوب فيها الأوهام واحدةً تلو الأخرى. النور هنا ليس مجرَّدَ دليل، بل هو المحوُ الأخير للحدود بين العبد وربه. فالله لا يغفر لأنك تبت، بل يغفر لأنك عرفتَ أن المغفرة جزءٌ من نوره الذي لا ينقطع.

وحين يخترق هذا النور قلب الإنسان، يولد فيه وعيٌ جديد يجعلنا ندرك أن الرحمة ليست شيئًا خارجيًا يفعله الله، بل هي فيضٌ دائم من ذاته الرحمن، فعندما يقول القرآن: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، فهو يخبرنا أن الكون كله محاطٌ بغشاءٍ رحميٍّ لا يُرى. كلُّ همٍّ يتبدد، وكلُّ قلقٍ يذوب، ليس لأن المشكلة زالت، بل لأنك دخلتَ في حقلِ الجاذبية الرحيم. هنا، يصبح القلقُ غريبًا مثل عصفورٍ يحاول الطيران في الفضاء: لا شيء يمنعه، لكنه يفقد معنى السقوط أساسًا، وعندما نذوب في هذا الحقل اللطيف، نكتشف لحظةً لا تُقاس بالزمن، بل بالتحوُّل.

السكينة ليست غيابَ الاضطراب، بل هي الاضطرابُ نفسه وقد تحوّل إلى نشيد!، مثل بحرٍ هائجٍ يكتشف أبدًا أن أمواجه تسبيحاتٌ خفيةٌ في يد الخالق. عندما تنحسر المخاوف، لا تختفي، بل تتحول إلى وقودٍ للروح، لهذا، فإن من يجد الله، لا يصبح بلا هموم، بل يصبح بلا علاقةٍ مع اليأس، كأنما القلب يكتشف أن الخوف كان مجرد وهمٍ ناتجٍ عن نسيانِ اتصاله بذلك النور الأزلي، وعند هذا المفترق، تبدأ كيمياء الروح بالتحرك في أعماقنا دون أن نشعر.

السماء لا تُعطينا نورًا، بل تُذكّرنا أن النور سُخّر لنا، وأن المغفرة والرحمة والسكينة ليست هباتٍ ننتظرها من بعيد، بل هي عوالمُ فطرية ننتمي إليها باليقين والرجاء. كلُّ ما علينا هو أن نرفع أيدينا لله، لا كإيماءةٍ عابرة، بل كطلبٍ صادقٍ للمساعدة. وستأتينا الاستجابة حتمًا، لا لأننا نستحق، بل لأن الله يُحب أن يُذكّره عباده بأنهم ما زالوا على الطريق.

النور لا يُهدى، بل يُكتشف. والله يُطلب، وفي الطلبِ ذِكر، وفي الذكرِ حياة.

وهكذا، يصبح القلقُ مجرد ظلٍّ مؤقتٍ في لوحةِ الوجود، بينما الروح - التي التقت بنورها - تُدرك أنها كانت، دائمًا، في حِضْنِ الرحمن.

في نهاية كل بحث، لا نصل إلى الله كاكتشافٍ جديد، بل نعود إليه كذاكرةٍ قديمة كانت مطموسة بالضجيج. النور ليس طارئًا، بل هو الأصل، ونحن السحابة العابرة. لهذا، كل لحظة يقظة، كل التفاتة صادقة نحو السماء، ليست عبورًا إلى الله، بل عودة إلى ذواتنا كما خُلِقَتْ: من نور، وفي نور، وإلى نور. وما نراه في الخارج ليس سوى انعكاسٍ لما تذكَّرناه في الداخل.

فما أكرم هذا النور الذي لا يُحجب، وما أحنّ هذا الربّ الذي لا ينسى عباده، حتى حين ينسونه.

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة في أعماق المشاعر والعلاقات!

  رحلة في أعماق المشاعر والعلاقات!  عندما تتحدث المشاعر... أحيانًا، لا نحتاج إلى تفسير ما نشعر به، ولا إلى تحليل ما بين السطور، فبعض الكلمات...