الأربعاء، 25 يونيو 2025

ملحمة العودة: دماء على صهيل الخلود!

 
ملحمة العودة: دماء على صهيل الخلود!

كان الليلُ ثقيلاً كالحِملِ القديم، وكانت الريحُ تعوي في الفراغِ كأنها تندبُ زمنًا طواه الرحيل. هناك، على حافةِ الأفقِ حيثُ يمتزجُ الدمُ بالتراب، وقفَ الفارسُ يُقبِّلُ فرسَه الأخيرَ قبلةَ الوداع. 

كان صهيلُها ينبعثُ كترنيمةٍ مقدسة، تغسلُ جراحَ الأرضِ وتُنشِدُ الخلود. انكبَّ عليها بحزنٍ كسيرِ الأجنحة، وقلبُه يتفطرُ بين ضلوعه كزجاجِ المعابدِ المُحطَّم. 

لكنَّه خرجَ في ثباتٍ عجيب، ثباتِ الجبالِ التي تُناجي العواصفَ ولا تسقط. لماذا كلُّ هذا الثبات؟ لأنَّه يعرفُ حقيقةً كُتبتْ بدمِ الشهداء: سيعودُ حتماً.. سيعود!   

كان الوقتُ يتمددُ في صمته كأنه ينتظرُ قراراً من السماء. وكل شيءٍ، حتى الغبارُ العالقُ في الهواء، بدا وكأنه يُصغي لصمتِ الفارسِ، كأنّه توقّفَ انتظارًا للحظةٍ لا تتكرر. 

وبين خفقةِ قلبٍ وآهةِ تراب، بدأ المشهدُ يتحوَّل... فالقلوبُ المتعبةُ تبحثُ عن نبضٍ جديد، والنفوسُ التائهةُ تحتاجُ من يدلّها على المعنى حين تغيبُ البوصلة. 

التفَّ الناسُ حوله كأنهم حباتُ مسبحةٍ مبعثرة، تبحثُ عن خيطِ النورِ الذي يربطُها بالسماء. في عيونهم، كان الخوفُ يُصارعُ الأمل، وفي قلوبهم، كان السؤالُ الكبيرُ يُدقُّ كجرسٍ معلقٍ بين الموتِ والحياة: "هل من مغيث؟ هل من خلاص؟" 

لكنَّ الفارسَ رفعَ رأسه إلى الأعلى، وكأنه يرى ما لا يرون، وقالَ كلمتَه التي اهتزَّتْ لها الأرض: "الله حيٌّ لا يموت، الباقي الذي لا يزول، وحده الذي سيجزي الشاكرين!"   

كانت الكلمةُ كالسيفِ المُشرعِ في وجهِ الظلام، وكالصاعقةِ التي تُذكِّي جمرَ الإرادة. شيءٌ مهولٌ وعظيمٌ كان يولدُ في تلك اللحظة: التضحيةُ! تلك التي تُقدَّمُ بلا تردد، كأنها قطرةُ ماءٍ في بحرِ الخلود! 

ففي عمق كلِّ إنسانٍ رغبةٌ في البقاء، وحنينٌ إلى الحياة، ورجاءٌ في النجاة... حبُّ النفسِ؟ نعم، لكنَّ حبَّ ما هو أعظمُ من النفسِ يدفعُك إلى أن تُهرقَ دمك في ترابِ المعركة.

هنا، أدركَ الفارسُ معنى التحررِ الحقيقي: تحررُ العقلِ من الخوف، والروحِ من العبودية، والجسدِ من قيودِ الفناء.

ومن وهجِ تلك اللحظةِ، خرجَ المعنى من رحمِ المعركة. لم تعدِ الأرضُ ساحةَ قتالٍ فقط، بل صارت مهدًا يولدُ فيه وعيُ الأمم، وتُسقى فيه جذورُ التاريخ بعرقِ الشجعان. 

وقفَ الفارسُ في منتصفِ الطريقِ بين ماضٍ ينزفُ ومستقبلٍ يُولد، كأنّه هو الميزانُ بينهما، وكلماته كانت الكفّة التي رجّحت الحقّ في زمنٍ يضيع فيه الصوت بين الضجيج والخنوع. 

لم يكن وحيداً، فكلُّ شهيدٍ يُزهَرُ به الفقد، وتُزرَعُ به بذرةٌ في قلبِ آخر. هكذا تتوالدُ البطولةُ من رمادِ الشهادة، ويواصلُ المجدُ سيرتَه في وجوهٍ جديدة.

كلما مات سيدٌ، قام سيد! تلك هي سنّةُ الحياةِ في صراعها الأزليِّ مع الموت!، لكنَّ الفرقَ بين السقوطِ والقيامةِ هو العقيدةُ التي تربطُ المصيرَ بربِّ العالمين. 

ليست كلماتٍ تُرددها الشفاه، بل نارٌ تُحرقُ اليأسَ في الصدور، وإيمانٌ يجعلُ من كلِّ جرحٍ شهادةً، ومن كلِّ دمعةٍ نشيداً.  

كان الفارسُ على يقينٍ قديم، لا يكتشف المعنى بل يُجدّد العهد به: أن الحياة ليست سنواتٍ تُعدُّ، بل عقيدةٌ تُحمَل، وفهمٌ يُضاءُ كالقنديلِ في ظلمةِ الجهل، وتوازنٌ بين الروحِ والجسدِ كالجناحينِ يُحلّقُ بهما الطائرُ نحوَ الشمس.

أما النصرُ، فلم يكن رايةً تُرفع، ولا أرضًا تُستعاد، بل نورًا داخليًا يُولد في العيون التي لم تعد تخاف، وفي الأرواح التي تعلّمت كيف تُحبُّ حتى النهاية. 

عندما تُصبحُ الحقيقةُ أثقلَ من الألم، لا يبقى للفارسِ خيارٌ سوى أن يُكمل الطريق، فالذي ذاقَ طَعمَ الخلودِ لا يرضى بالعودةِ إلى القيد، والذي حملَ الرسالةَ لا يسقطُ قبل أن يُتمَّها.

عاد الفارسُ إلى فرسه، ولكن لم يكن هناك دمعٌ ولا حزن!، فقط ابتسامةٌ خفيفةٌ تُخفي وراءها سرَّ الأبطال: أنَّ الموتَ ليس نهايةً، بل عبورٌ إلى حياةٍ أخرى، أكثرُ اتساعاً، أكثرُ حريةً. 

امتطى فرسَه، وانطلقَ نحوَ الأفقِ كالسهمِ الذي لا يعودُ إلا منتصراً. والريحُ كانت تحملُ همساً قديماً: "إنَّ الأرضَ لله يُورثُها من يشاء من عباده، والعاقبةُ للمتقين". 

هكذا، تُكتبُ الملاحمُ بدماءِ الصادقين، وتُخلَّدُ أسماؤهم في صحائف الخلود... فهل أنت منهم؟

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!

  فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!  الليلُ ثقيلٌ كحِملٍ من رُفاتِ نُجومٍ،  والريحُ تَعوي في صدرِ الفراغِ، كنائحةٍ  على زمنٍ طواهُ الرحي...