حين يختبر الرزق… وتختبر القلوب!
في الحياة، لا يُختَبر الإنسان دومًا في جسده أو صحته، بل كثيرًا ما يكون الامتحان الحقيقي في أرزاقه؛ في تلك اللحظات التي تُحبس فيها النِعم، وتضيق فيها السبل، ويقف المرء بين حاجته للعطاء وعجزه عن الوفاء. عندها، لا يُقاس الصبر بكلمات تُقال، بل بأيام تُعاش، وبمشاعر تُكتم، وبأحلام تؤجل رغم استحقاقها.
ثمة رجال ونساء يعيشون وهم يرفعون رؤوسهم شامخة رغم الخواء في جيوبهم، لأن الكبرياء الصادق لا تصنعه الأموال، بل يُولَد من الوفاء والكرامة والإيمان بأن الرزق بيد الله وحده. إنهم يمضون في أيامهم دون أن يُظهروا ضعفًا، رغم أن ما يُخفونه في صدورهم أثقل من أن يُروى في حديث عابر.
وليس الابتلاء في ضيق الحال مجرد حرمان مادي، بل هو امتحان لليد حين تعجز، وللنفس حين تضيق، وللقلب حين يرى مَن يحب ولا يستطيع أن يُفرحه. لأن الألم الحقيقي ليس أن يجوع المرء، بل أن يشعر بأنه لا يملك ما يمنحه لمن ينتظر منه بسمة، أو لمسة دفء، أو هدية صغيرة تُبهج قلبًا بريئًا.
وحين تأتي الأعياد ويأتي النجاح وتأتي المناسبات التي خُلقت للفرح، تصبح هذه الأيام عند بعض الناس محطة تأمل موجعة، لا لأنهم لا يحبون الفرح، بل لأنهم لا يستطيعون منحه كما يستحقه من حولهم. فتغدو الفرحة مؤجلة، والصوت مكتومًا، ويعلو الصمت بين الكلمات كأنه يقول: "لسنا بخير تمامًا… لكننا نحاول".
ومع ذلك، لا يفقد هؤلاء الناس إنسانيتهم، لأن من تعلّم أن يمنح الحنان حين لا يملك الهدايا، قد وهب أعظم ما يُمكن أن يُعطى، ومن علّم أبناءه معنى الصبر الكريم، والثقة برحمة الله، وعلّق قلوبهم بالرضا لا بالتذمر، فهو يزرع فيهم ما لا تزرعه الأسواق ولا المال.
في اختبار الرزق، تتكشّف معادن النفوس، فهناك من يثور ويشكو ويقسو، وهناك من يسكن ويتضرع ويصبر، وهناك من يرى في كل قلةٍ فرصةً للتطهر من التعلق، وفي كل حرمانٍ تربيةً للنفس على أن لا تجعل الدنيا مقياسًا للقيمة، ولا المال برهانًا على الحب.
الحياة، في جوهرها، ليست سباقًا نحو الامتلاك، بل مسيرة نحو الفهم. نحو أن ندرك أن الله يرزقنا أحيانًا ليختبر شكرنا، ويمنع عنا ليختبر يقيننا، ويؤخر عنا ليُطيل وقوفنا على باب رحمته.
ليست كل الأرزاق مالاً، وليست كل العطايا تُشترى. فالإنسان حين لا يملك أن يفرح من يحب، قد يمنحهم ما هو أعمق من الهدايا: الحنان، والدعاء، والقدوة، والكرامة، فالفقر الحقيقي هو الفقر في المشاعر، لا في الجيوب، والحرمان القاسي هو حرمان الرحمة، لا حرمان المال.
في الأوقات الصعبة، ليس المطلوب أن نحمل العالم على أكتافنا، بل أن نحمل أنفسنا بشرف، وأن نحمل أحبابنا بدفء، وأن لا نفقد إنسانيتنا حين يشتد علينا الزمن. فكم من رجل عاش بقلب مليء رغم يدٍ فارغة؟! وكم من امرأة زرعت في أبنائها السكينة ولو لم تملك ما تزرعه في موائدهم؟!
هذه الحياة لا تُقاس بما نملك، بل بما لا نخسره حين نخسر الأشياء، وأعظم ما نملكه هو القدرة على أن نحب دون مقابل، أن نعطي دون أن نُمنّ، وأن نصبر دون أن نشتكي.
فليكن هذا زمن الصبر الجميل، لا الحزن العاجز. وليكن ابتلاء الرزق سلّمًا نرتقي به إلى رقيّ الروح، لا هاويةً نسقط فيها بثقل الأسى.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق