الأحد، 29 يونيو 2025

تأملات في خفوت الوجود!

 
تأملات في خفوت الوجود! 

"أحيانًا، لا نغادر المكان... بل ننسحب من الذاكرة، بهدوء من لا يريد أن يُفتقد" 

في لحظاتٍ نادرة، يتكثّف الزمن ويتحوّل إلى مرآة عميقة، نطلُّ منها على هشاشة أنفسنا. لا نبحث عن أجوبة، بل نُصغي لما لا يُقال، لما لا يُدوَّن في الكتب ولا يُفهم بالعقل. هناك، في ذلك الفراغ الذي يسبق الانكسار، تبدأ الحكاية.

كيف يُقاس الفراغ الذي يخلّفه غياب؟ هنا، حيث تتشقق الخطوط المستقيمة الدقيقة في هندسة الشعور، يصير الانسحاب فنًّا هندسيًّا دقيقًا: زواياه حادّة كجرحٍ لم يندمل، ومساحته تُحسَب بضحكاتٍ لم تكتمل.

المرء لا يغادر المكان، بل ينسحب من ذاكرة الجدران، كما ينسحب الدفء من غرفةٍ مهجورة... ببطء، وبلا مقاومة. يُزيح ظلّه كما تُزيح الروح ذكرى قديمة، لا بحركة واحدة، بل عبر خفوتٍ طويل لا يُرى، كأنّه كان مجرّد أثرٍ من طباشير نسيه الزمن على لوحة الوجود، فيتلاشى تدريجيًّا، كأنّه لم يكن سوى بقايا ضوءٍ عَلِقَ ذات مساءٍ على الحائط. أما ذلك الأثر فيبقى... كرجع صوتٍ ضاع في الفراغ، أو كرسالةٍ عالقة في زجاجةٍ تطفو على المحيط. 

وما بين الانسحاب والاختفاء، ثمّة فجوة عاطفيّة شاسعة... منطقة لا تحكمها قوانين الفيزياء، بل قوانين القلب المعلّق في فراغ. هناك، حيث تتجمّد المشاعر كآثار أصابعٍ مرتجفةٍ على زجاج الشتاء، يعلن الإنسان تأسيس مملكته الخاصة: دستورها الصمت، وعملتها الذكريات الملغاة. 

في هذا الهامش الصامت، لا مكانَ للقُبَلِ الطائشةِ ولا للدموعِ الثائرة. كل شيء معلّق في حيّز رمادي، كسحابة ثقيلة ترفض أن تمطر أو تتبدد، حتى الحب هنا يصير كائنًا بيولوجيًا تحت المجهر، يُشرّح ببرود المختبر، ثم يُحفظ في جرار النسيان المغلقة على روائح الذكرى. 

لكن حتى في أكثر المناطق عزلةً، ثمّة نبض خفي يخترق الجدران... نبض يتحوّل مع الوقت إلى حدود جديدة للوجود!، فالقلب ليس مجرّد عضلة تضخ الدم، بل هو رسّام صامت يرسم حدود العلاقات بمدادٍ من نبض وذكريات، وعندما يصبح النبض هو الحد الفاصل بين الحضور والغياب، ندرك أننا لسنا سوى مسافات بين دقّات متعبة، تحاول أن تحافظ على إيقاعها وسط صمتٍ داخلي. فلا ندري إن كانت تُبقي علينا، أم تُذكّرنا بأننا لم نغادر بعد.

في هذه المملكة الخفية، كل نبضة جسرٌ يعبر إلى عالم آخر: نبضة تعيد لك طفولتك، وأخرى تودّعك عند شاطئ رحيل لا عودة منه. والحدود هنا ليست خطوطًا على الخرائط، بل إيقاعات تُقاس بترانيم داخلية لا يسمعها أحد سواك.

ومع كل عبور، تترصّد خلف الحدود ظلالٌ لا تُلام ولا تُدرك، كسرابٍ في صحراء اللاوعي. هي الشاهد الأبدي على ما فات، والشبح الذي يلاحق كل خطوة إلى الأمام. لا يُمسك به أحد، لأنه ليس شيئًا، بل فراغ متحرّك... كالضباب الذي يلف الأشجار ثم يتبدد مع أول شعاع شمس.

الظل هنا ليس مجرّد غياب للضوء، بل هو الوجه الآخر للوجود: يُذكّرنا بأننا حتى في لحظات اتّزاننا الظاهري، نحمل داخلنا فراغًا لا يُملأ. هو الرفيق الذي لا يُختار، والشاهد الذي لا يشهد لأحد.

كلّ ما سبق لا يمثّل مشاهد متفرّقة، بل عزفًا متّصلًا على أوتار الوجود: انسحاب يولد من رحم العزلة، عزلة تتشكّل في نبضٍ يرتب الحدود، وحدود تفتح الباب للظلال التي تلتصق بنا كما يلتصق الليل بجدران المدن.

ربما لا ننجو من هذه السيمفونية، لكننا نصغي لها رغمًا عنا، نعيش حركاتها الأربع كما لو كانت دورة تنفس الوجود: شهيق انسحاب، زفير عزلة، خفقة حدود، وسكون ظلٍّ لا يغادر.

وهكذا، نكتب روايتنا... لا بالحبر وحده، بل بالفراغات، بالنبضات، وبالظلال التي تنام في أعيننا حين نظنّ أننا أخيرًا قد أغمضناها للراحة.

جهاد غريب 
يونيو 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تأملات في خفوت الوجود!

  تأملات في خفوت الوجود!  "أحيانًا، لا نغادر المكان... بل ننسحب من الذاكرة، بهدوء من لا يريد أن يُفتقد"  في لحظاتٍ نادرة، يتكثّف ا...