الاثنين، 30 يونيو 2025

ممرات الصيرورة: تأملٌ في التحوّل الإنساني!

 
ممرات الصيرورة: تأملٌ في التحوّل الإنساني! 

"نحن لا نتغير فجأة، بل نذوب ببطءٍ في التجربة، حتى نصحو غرباء عن ذواتنا القديمة"

عندما ينفجر الفراغ فجأة كقنبلة صوتية في مسرح الحياة، نُصاب بالصمم الوجودي. الصمت هنا ليس غيابًا للكلام، بل حضورٌ طاغٍ لكل ما لم يُقال. هو الفاصل الأبيض بين السطور، الذي يحوي عواصف من الأسئلة المحبوسة. كأنّما الكون أمسك بلسانه فجأة، وتركنا نترنح في فراغ من الأصداء الميتة. حتى أنفاسنا تصير ثقيلة كحجارة تُلقى في بئر لا قعر لها.

لكن ماذا لو لم يكن هذا الصمت إلا تمهيدًا؟ ليس للسكون، بل لحقيقة جارفة، عاصفة لا تحمل رياحًا بل اقتلاعًا دقيقًا لجذور الأوهام الراسخة في عمق الذات. هناك، تبدأ التعرية: تنكشف الأقنعة، وتظهر الوجوه كما لم تُرَ من قبل. وجوه عارية من الزيف، مشوبة بندوب الخيبات، ومرآة الخوف، وتوهج نادر لما تبقّى من النقاء.

ومع انتهاء العاصفة، لا يعود شيء كما كان. كل ما تهدّم لا يُعاد بناؤه كما كان عليه، بل يُنقّى ويُفرز، كأنّنا نرتّب أنقاض الذاكرة لا بحثًا عن الترميم، بل عن اعتراف. إذ هناك، في عمق الركام، تبدأ المحاكمة. لا قضاة ولا شهود خارجيين، بل أنت وحدك في مواجهة أرشيفك الشخصي. ذكريات تتلوى بين البراءة والاتهام، بين بكاء صامت وعتاب مميت. كل لحظة من الماضي تنطق، لا لتعاتب فقط، بل لتسأل سؤالًا مريرًا: "أكنتَ حاضرًا حقًّا حين حدث هذا؟ أم كنتَ مجرد ظلّ؟"

وعندما يسدل الستار على تلك المواجهة الصامتة، لا يبقى سوى فعلٍ واحد: الانسحاب. لا هروب، بل انسحاب بكرامة، كما تفعل الفراشة حين تُفلت من قبضة طفل دون أن تتهشم. لا ضجيج، لا إعلان، فقط خفوت تدريجي، كمدٍّ بحريّ يترك خلفه أصدافًا خاوية على الرمل.

ومع هذا الانسحاب، تبدأ لحظة نادرة من النضج، حيث لا تُقاس الحياة بما عِشته، بل بما فهمته بعد أن عشته. الفهم ليس إجابة، بل سؤال جديد يولد من رماد العاصفة. هو الضوء الخافت الذي يمر عبر زجاج التجربة، ينعكس بصمتٍ في الداخل. نضحك أحيانًا، لكن الضحكة تأتي ممزوجة بدمعة ساخنة، تغسلنا لا لتُعيد ما كان، بل لتمنحنا سلامًا لا يحتاج إلى ندم.

وحين نصل إلى هذا العمق، نُدرك أن بعض النهايات لا تحتاج إلى مراسم. الوداع لا يكون دائمًا بالبكاء أو بالعناق، بل أحيانًا هو مجرد نظرة صامتة، أو ابتسامة تذوب ببطء كقطرة ماء في محيط الذكرى. نُسلِّم بأن النهاية جاءت في وقتها، لا متأخرة ولا مبكرة، بل كما ينبغي لها أن تكون: خفيفة، شاحبة، وصادقة.

وهكذا، تكتمل الدائرة. من صمت يُمهّد لعاصفة، إلى عاصفة تُفضي إلى كشف، إلى كشفٍ يستدعي محاكمة، فانسحاب، ففهم، فوداع. ليست هذه مشاهد متفرقة، بل مسار واحد متّصل. سلّم من الإدراك نصعده نحن البشر، كلٌ بطريقته، كلٌ بتوقيتٍ خاص لا يشبه توقيت أحد.

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين يختبر الرزق… وتختبر القلوب!

  حين يختبر الرزق… وتختبر القلوب!  في الحياة، لا يُختَبر الإنسان دومًا في جسده أو صحته، بل كثيرًا ما يكون الامتحان الحقيقي في أرزاقه؛ في تلك...