الخميس، 19 يونيو 2025

سُنة الوجود!

 
سُنة الوجود! 

في العمق حيث يتنفس الصدق ويتراقص المعنى على حافة الصمت، هناك يكمن السر. ليس سرًا يُكتشف، بل حقيقةً تُعاش، تُلمس بأطراف الروح قبل أن تُفهم بالعقل. إنه اللحظة التي يتوقف فيها الزمن ليسمح للجوهر بالحديث.

وهذا البوح ليس كلماتٍ تُلقى في الفراغ، بل نبضٌ حيٌ مشدودٌ إلى حبلٍ من يقينٍ لا يتزعزع. إنه الصدق في أنقى صوره، الذي يرفض أن يكون عملةً في سوق التظاهر، أو قناعًا في مهرجان الأقوال. صمتٌ يحمل في طياته عوالمَ من الدلالات، كجمرةٍ متقدةٍ تحت رماد الليالي.

وكما يُنْتج الظلامُ نورَه في هذه الدائرة المقدسة، ينبثق الضوءُ حبرًا يخطُّه الوجودُ على صفحة الزمن. حبرٌ يستلهم سكونَ الأبدية، ويستمد بهاءه من أقباسٍ لا تُطفئها الرياح. في هذه المساحة المقدسة حيث السكينةُ تُنْبتُ جنينَ الإبداع، وحيث الهدوءُ يُخْفي في ثناياه زلزالَ العاصفة. هناك، في تلك الطمأنينة التي تصهر الجزع، تتجلى حزمة ضوء من يقين.

لكن حتى هذا اليقين لا يخلو من اختبار، ففي مواجهة عواصف الذكريات، تقف النفس كشجرةٍ ضاربةٍ في الأرض جذورها. "تعالوا الآن"، تنادي أشباح الماضي، ليس لتسجيل انتصارٍ أو هزيمة، بل لمحاكمةٍ عادلةٍ في محكمة اللحظة الراهنة، وفي هذه المواجهة الشجاعة، يتسلل نور القمر عبر أوراق الماضي، ليرسم على أرض الحاضر ظلال الحكمة.

وبينما لا تزال أصداء المحاكمة تتردد، تُشرق على حافة الأفق، حيث يعانق الضوءُ الغسقَ، ترسم طفلةٌ على رمل الزمن. براءتها كاللحن الذي لا يحتاج إلى كلمات، تتشرب العالمَ كله دون أن تَخْدِشَها الأيام. عصفورٌ يغرد على الغصن، وكأنه يردد أغنيةً قديمةً عن مطرٍ قادم. إنها الحياة في أبسط تجلياتها، تذكيرٌ بأن الجوهر يبقى رغم كل التحولات. 

وفي مفارقةٍ لا تخطئها العين، ينكشف المشهدُ على حقيقةٍ مُرّة.، وهكذا، تتدفق اللحظات من تلك البراءة، لتشكل جدولًا صغيرًا يحمل في مائه ثمار الخبرة وأوراق الأمل. همساتٌ تتحول إلى أغنية، وأغنيةٌ تتحول إلى حكمة. إنه ذلك التدفق الطبيعي للوجود الذي لا يحتاج إلى دليلٍ أو برهان.

غير أن هذا الجدول الهادئ يصب في النهاية بحرًا آخر، حيث يقف الحنين كشاهدٍ على وجوهٍ مرت دون أن تترك أثرًا سوى ظلٍّ يعرج على حافة الهاوية. إنهم أولئك الذين حملوا الحياة كعبءٍ بدلًا من أن يحملوها كهدية، الذين رأوا السقوط قبل أن يجدوا الأرض تحت أقدامهم.

وحتى على حافة الهاوية، حيث يبدو السقوط حتميًا، تبدأ المعجزة. براعمٌ صغيرةٌ تتفتح في قلب العاصفة، كأنها تهمس: "الشتاء مجرد محطة". إنها المفارقة العظيمة: أن نجد القوة في أضعف اللحظات، وأن نكتشف الأمل حيث لا أمل.

الحقيقة التي لا تحتاج إلى برهان: ما يسكن القلب يتحقق، ليس بسحرٍ أو قوة خارقة، بل بذلك القانون القديم الذي يجعل من الرغبة الصادقة بذرةً للواقع. العوائق؟ مجرد أوراق خريفٍ على شجرة الحياة، سقطت لتحل محلها أوراقٌ جديدة.

الصبر هنا ليس انتظارًا سلبيًا، بل حالةٌ من اليقظة الدائمة. إنه ذلك التوتر الخلاق بين الرغبة والتحقق، بين البذرة والثمرة. صمودٌ لا يشبه صمود الجبال، بل يشبه طيران الطيور التي تعرف أن السحب مجرد محطة في طريقها إلى الأعالي.

في النهاية، لسنا مجرد ظلالٍ على جدار الواقع. نحن ذلك الخيط الذهبي في نسيج الوجود، الذي يربط الماضي بالمستقبل، والضعف بالقوة، والفناء بالخلود. إننا تلك المفارقة التي تجمع بين الهشاشة والصلابة، بين الزوال والأبدية.

هذه هي سُنة الوجود: أن يولد النور من العتمة، وأن ينهض المعنى من رحم العدم. ليس صراعًا، بل رقصة. ليس معركة، بل تحول. ليس نهاية، بل بدايةٌ دائمة.

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سُنة الوجود!

  سُنة الوجود!  في العمق حيث يتنفس الصدق ويتراقص المعنى على حافة الصمت، هناك يكمن السر. ليس سرًا يُكتشف، بل حقيقةً تُعاش، تُلمس بأطراف الروح...