جراحُ الماضي: سكونٌ يُنبتُ زهرَ الحاضر!
احتفظ بجراحك في أعماقك، كاللآلئ المكنونة في صدَفِ الزمن، أو كالكنوز المدفونة في باطن الأرض، لا تصل إليها إلا يدُ التأمل الحذرة. لا تتركها تطفو على السطح فتتحول إلى أمواجٍ تعكر صفوك، أو أعاصيرَ تعصفُ بهدوئك. فالجراح ليست عدوًّا، لكنها إن خرجت من أعماقها، أصبحت سيفًا يجرحُ حاضرَك، وسحابةً تحجبُ شمس اللحظة الراهنة.
هي صفحاتٌ من ملحمة وجودك، لا تمزقها ولا تُحرقها، لكن لا تضعها في مقدمةِ رفوفِ وعيك. دعها نائمةً في كهوف الذاكرة، فكلُ يقظةٍ لها ثمن، وكل نبشٍ لها يوقظ ألمًا نسي كيف ينام.
لا تفتح صناديق الزمن المغلقة، ولا تنبش القبور القديمة، فما دفنه الزمن ليس من حقك إعادته. جراح الماضي ندوبٌ على جذع شجرةٍ عتيقة، تحكي قصة صمود، لكنها لا تمنع الأغصان من النمو. هي ظلالٌ، إن طاردتها طاردتك، وإن وقفت أمامها طوَّلت ظلها عليك. اتركها حيث استقرت، كأوراق خريفٍ تُغذِّي أرضًا جديدة، أو أمواجٍ هادئة في بحيرة النسيان.
لا تكن سجّان نفسك، ولا تحوِّل ألمك إلى سلسلةٍ تُقيد خطواتك، ولا تجعل ذكرياتك سجنًا تُحبس فيه فرحك. فدفن الجراح ليس نسيانًا ولا إنكارًا، بل هو فنٌّ رفيع لتحويل الألم إلى حكمة، وحبس الضجيج في غرفة التأمل. احملها كوشم داخلي، لا كجرحٍ مفتوح ينزف طاقة لحظتك. احملها كعلامةٍ صامتة تذكّرك بأنك مررت بالعاصفة ونجوت، لا كجرس إنذارٍ يوقظك كلما ابتسمت للحياة.
الماضي لن يرحل إن ظللتَ تمسك بذيله، ولن يختفي إن ظللت تحدق في مرآته، لكنه سيتلاشى إن أرخيت قبضتك، ووجهت نظرك إلى النافذة التي تطل على مستقبلك. فلتكن ذاكرتك كالسماء: تحتفظ بالغيوم لكنها لا تمنع الشمس من السطوع. تذكّر أن كلما أسرعت في دفن أحزانك، أسرع زهر الأمل في البزوغ، وكلما أبحت لجراحك أن تُحدث ضجيجًا، طال أمد الشتاء في قلبك.
ليس المهم كم مرة جرحك الماضي، بل كم مرة علمك أن تلتئم. الجراح ليست عائقًا، بل هي الجسر الذي يعبر عليه الحاضر إلى مستقبل لا يشبه الأمس. فليكن ألمك بذرةً لا شوكة، ومعلمًا لا سجانًا. وليكن صبرك على الجراح إعلانًا لولادة إنسان جديد، يتنفس الحب رغم كل شيء.
وفي النهاية، تذكَّر أن الاحتفاظ بالجراح لا يعني أن نُخفيها عن الحياة، بل أن نُمسك بها برفقٍ، نعلّمها كيف تصمت حين نريد أن نعيش. لأن أعظم انتصاراتك، ليست في نسيان الألم، بل في قدرتك على أن تبتسم رغم وجوده.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق