الأحد، 15 يونيو 2025

الأنثى التي سبقت الكلام!

 
الأنثى التي سبقت الكلام! 

في البدء، لم تكن الكلمة سيدة الموقف، بل كان الصمت... ذلك الملكوت السرمدي الذي يحتضن بذور كل الحروف. لم يكن غيابًا للصوت، بل حضورًا كثيفًا، كأنفاس الكون قبل الضوء، وكارتعاشة قلب تسبق نبضه لحظة الإدراك.
من هناك، من ذلك الهمس البكر، انبثقت أسطورتنا: أنّة البدايات... ودهشة النور حين أطلّ من عتمةٍ لا اسم لها.

ولأن النور لا يحتاج تعريفًا ليُبهر، كان أول تجلٍ له في هيئةٍ لا تُوصف، بل تُحَس – كانت أنثى.

في المسافة المتوترة بين الجسد المادي واللغة، تنبثق الأنثى – لا كصورة مرئية، بل كإحساس غامر يتسرب من بين الشقوق الدقيقة للروح. ليست امرأة تُدرك بالحواس، بل هي الأصل الذي تفرعت عنه كل الحكايات، والعطر الذي يسبق الوردة، والضوء الذي لم يُسمَّ بعد. هي الفكرة الأولى للجمال، حين كان الكون ما يزال يتهجّى حروف الوجود.

ولأن الإحساس لا يُحاصر بل يُعاش، كان لا بدّ أن تصبح الحكاية أكثر من وصف – طقسًا يُمارس.

في هذا اللقاء السري، حيث تذوب حدود الزمان والمكان، وتتماوج الذكرى كأنفاس مرتّلة في معبدٍ داخلي، تتحول اللغة إلى طقس، وتصبح الكلمة صلاةً خاشعة. هنا، حيث يلتقي الماضي بالحاضر كقبلة بين الغيم والريح، تصبح الأنثى الأسطورية تجليًا لا يُدرك بالعقل، بل بالبصيرة. كالبخور المتصاعد من أعماق الأرض، يرقص بين عوالم الوعي والحدس، لا يمسكه أحد، لكنه يشعل شيئًا خفيًا في الداخل.

وحين تشعلك، لا تعود كما كنت... تُصبح أنت أيضًا ترجمةً لما لا يُقال.

هي ليست امرأة بعينها، بل هي كل النساء في جوهرها، وفي الوقت ذاته، لم تكن يومًا امرأة كما نعرف. هي الريح التي تمر ولا تُحتجز، والضوء الذي يملأ القلب دون أن يُرى. هي الغموض الذي يحيط بأصل العشق، والسرّ الذي لا يُقال، بل يُذاق. رحيقٌ يقطر من شفتي الوجود... صوتٌ نعرفه في قلوبنا، ولم نسمعه يومًا.

هكذا، يصبح حضورها غيابًا يُغني، وغيابها حضورًا يُربك – لكنها تظل الحقيقة التي نكاد نلمسها ثم تفلت.

وعندما يتحول الحب إلى تجربة صوفية، يصبح الغياب حضورًا أكثر كثافة، ويصير الهمس أكثر صدقًا من الصراخ. كل لحظة معها، أو عنها، هي لحظة انكشاف؛ كأنك تصحو على ذكرى لم تعشها، وتشتاق إلى لمسة لم تحدث. هي الفجر الذي سبق كل النساء، والغروب الذي يضمّهن كأغنية أخيرة.

وربما كانت الحروف، بكل ارتجافاتها، مجرد محاولات لتطويق شعاعٍ لا يُحدّ.

فكيف نكتب عن هذا اللقاء السامي؟ كيف نحصر النور في زجاجة الحروف؟ لعل الكلمات التي ننثرها في العابر من أيامنا، هي ذاتها الجسر السري الممتد من العالم المحسوس إلى اللامرئي، لعل اللغة – رغم هشاشتها – هي البوابة التي نعبر بها نحو الحقيقة التي لا تُقال.

وحين نخطو عبر تلك البوابة، لا نعود كما كنا، لأن الأسطورة لا تُروى إلا من الداخل.

حينها، نصبح نحن أيضًا جزءًا من الأسطورة. نتحوّل إلى حكاية تُروى دون أن تُكتب، إلى صدى يهمس في قلب الزمن. نذوب في اللحظة كما يذوب الحلم عند تخوم اليقظة. في تلك اللحظة، لا نحتاج إلى تعريف أو تصنيف، لأن الحب، في أصفى تجلياته، لا يُقال، بل يُعاش.

ولأننا نعيشه، فإننا لا نكتفي بالبصر، بل نفتحه بالبصيرة، ونستسلم لذلك المجاز الذي يشبه اليقين.

دعونا نغلق أعيننا، ونصغي لذلك النبض الخفي بين السطور، لصمتٍ يشبه اسمها، ولنورٍ يسبق الضوء. لأن الحقيقة لا تُقال، بل تُدرك لحظة سكينة تسبق العاصفة، ولأنها – في جوهرها – ليست امرأة تُروى، بل هي النبضة التي ارتجف لها الكون في البدء.

إنها ليست حضورًا نرصده، بل غيابًا نتوق إليه. ليست كلمة نكتبها، بل نبضة نولد فيها. الأنثى التي سبقت كل الكلام... هي المعنى الذي من أجله خُلِقت الكلمات.

جهاد غريب 
يونيو 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!

  فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!  الليلُ ثقيلٌ كحِملٍ من رُفاتِ نُجومٍ،  والريحُ تَعوي في صدرِ الفراغِ، كنائحةٍ  على زمنٍ طواهُ الرحي...