عاشق في محراب الوحدة!
أنا وحيدٌ... دائمًا وأبدًا... ها هي ذاكرتي تُطوِي نفسها كملحمةٍ مهجورة، تتنفَّس بين سطورها لوعةٌ لا تموت. ظلٌّ طويلٌ يُلامس الأرضَ ثم يغيب، قطرةُ ندى تترقَّب الفجرَ لتذوبَ في صمت. وشمٌ محفورٌ على جدران الزمن، لا يمحوه ندمٌ، ولا تُنقذه حكايةٌ تُروى بصوتٍ مبحوحٍ كلَّ ليلة، فلا يسمعها سوى الصدى... ويُعيدها إليَّ أكثر وحدةً مما كانت.
ومن قلب هذا الغياب، كنت أبحث عن بارقةِ نور... شمعةً تُضيء طريقي، لكنّ الشموع هنا لا تُشعلُ إلا بالحنين، ولهيبها سرعان ما يتبخّر، ليذكّرني كم كنتُ باردًا دونكِ. دخانٌ يتسلّل في زوايا الغياب، يرسم منكِ ظلالًا تذوب. أبحثُ عن يقينٍ يهديني، فأجد ظلّي يتقدَّمَني... كقمرٍ يتيمٍ في سماءٍ أُطفئت نجومها. حتى الذكريات، تلك الكائنات الهشّة، تتساقطُ من يديّ رملًا... ولا أجمع منها سوى قبضةٍ من غبار.
لم يكن لبرودة هذا الشعور إلا أن تتجسد في كياني... غرفةٌ مهجورةٌ تهبّ فيها رياح النسيان، تطنُّ في زوايا روحي كرعشةٍ نسيها الزمن على نافذة الماضي. كلُّ محاولةٍ لإشعال الدفء تنتهي برقصةِ ظلالٍ على الجدران، ترسمُ وجهَكِ ثم تُمحيه، خيالٌ يلعبه القمرُ مع السحاب.
أشعر ببرودة الوحدة... كروحٍ تُصلّي بلا فتور. الوحدة هنا ليست فراغًا، بل هي كيانٌ يُصلّي بداخلي، أطيافٌ تُناجي الصمت في محرابٍ مهجور. برودتها تُذكّرني بأنّي كجبلٍ من ثلج، أذوبُ قليلًا كلّما مرّت سحابةٌ حالمةٌ فوقي، ثم أعودُ وأتجمَّد. إنها دمعةٌ بلا عين، وصرخةٌ بلا صوت.
رغم البرد، قلبي لا يزال ينبضُ باسمكِ… كأنّ في صميم هذا الجليد شمعةً لا تنطفئ، تذوبُ من حولها طبقاتُ الصقيع، لكنّ لهبها يظلُّ يتلوّى كأفعى مقدسةٍ في معبد الألم. كلّما اشتدّ البرد، ازدادت توهّجًا، تتحدّى الكونَ أن يسرق منّي آخرَ ما تبقّى من دفء.
أنا وحيدٌ... أستمع إلى قلبي، وتُغنّي دقّاتُه ذاكرةً وارفة. يُغنّي، لكنّ أغنيته ليست سوى صدىً لزمنٍ مضى. دقّاته تُقلّب الصفحات كريحٍ عابثةٍ في مكتبةٍ قديمة؛ كلُّ نبضةٍ كلمة، وكلُّ كلمةٍ جرح. يورثني إيّاكِ كإرثٍ من الألم... كشجرةٍ شامخةٍ ترفضُ الموت، جذورها تشرب دمي، وأغصانها تُظلّل أحلامي البعيدة.
من جذورِ الذاكرة، تنبُت صورتكِ في كل زاويةٍ من وحدتي… كلُّ خليةٍ في كياني تحوّلت إلى مرآةٍ صغيرة، تعكسُ ملامحكِ بصدقٍ مُوجِع. حتى الهواءُ الذي أتنفّسه صار يحمل شظايا من صوتكِ، ندىً معلّقًا في شبكةِ عنكبوت، يلمع للحظة، ثم يختفي حين أمدُّ يدي نحوه.
أنتِ هناك… كأشجارٍ شامخةٍ صامدةٍ لا تموت، نُحِتَت من ضوء، وجذوركِ تمتدُّ إلى أعماق روحي، وأوراقُكِ تُسبّح باسمكِ في كلّ ريح. صمودكِ يُشبه كبرياءَ الجبال، لكنّه أيضًا كالليلِ الذي لا ينتهي. أتذكّركِ، فتنبتُ في جوفِ اليأس أجنحةٌ من نار، تُقلعُ بي من وحشتي، وتحملني إليكِ كعصفورٍ مهاجرٍ يعرفُ طريقَ العودة… لكنّ السماءَ هنا بلا أفق.
ثم أعودُ إلى الحقيقةِ الوحيدةِ التي لا تملُّ من تكرارِ نفسها… بحّارٌ عالقٌ في حلمِ اليقظة، أرى جزيرتَكِ في الأفق، لكنّي كلّما اقتربتُ، تتحوّل إلى سراب. الأمواجُ تحملُ رسائلي إليكِ، ثم تعيدُها مبلّلةً بدموعِ الملح، وكأنّ المحيطَ نفسه يرفضُ أن يصلَ حنيني إليكِ.
أنا وحيدٌ... ووحدي مكسورُ الخاطر. كسرُ قلبي ليس ككسرِ الزجاج، بل هو كسرُ المرآة — كلُّ قطعةٍ تُعيدُ رسمَ وجهكِ، وكلُّ جرحٍ يُعيدُ سردَ القصة. حتى الدمعُ صار حبرًا، يكتبُ على وجهي قصيدةَ الغياب. الوحدةُ ليست غيابَ أحدٍ بجواري، بل هي حضورُكِ في كلّ شيءٍ حولي، وحين أمدُّ يدي لا ألمسُ سوى فراغٍ يضحكُ منّي كطفلٍ مُدلَّلٍ لا يفهمُ وجعَ الكبار.
ومع كلِّ ذكرى، تشتعلُ الأجنحةُ التي تركتِها في صدري… كلُّ ذكرى قنديلُ زيتٍ معلَّقٌ في كهفِ القلب، يهتزُّ مع كلّ نفسٍ ولا ينطفئ. الأجنحةُ تحترقُ بي كلّما حلّقتُ عاليًا، لكنَّ الرمادَ المتساقطَ منِّي يزرعُ في الأرضِ بذورَ حنينٍ جديدة، تنمو لتصيرَ سلّمًا نحو سماءٍ لا تريدني.
كلّما تذكّرتكِ... انبثقتْ أجنحةٌ تُطير بي عاليًا وتأخذني إليكِ. الذكرى طائرٌ أسطوريٌّ، ريشُه من لهيب، وعيناه تُضيئان كالنجم! يحملني بعيدًا، لكنّ كلَّ رحلةٍ تنتهي عند حائطٍ من الظنون. أسبحُ في عينيكِ، ثم أعودُ إلى قفصِ وحشتي، عاشقٌ يُحبسُ في مرآةٍ. حتى الأجنحةُ تصيرُ سلاسل، وحتى الحنينُ يصيرُ قيدًا.
كم يتّسعُ هذا الكون بداخلي، لا ليحتويكِ، بل ليحتوي وجعي منكِ. روحي صارت قاعةَ مرايا لا نهائية، كلّما نظرتُ إلى إحداها رأيتُ انعكاسًا مختلفًا للألم نفسه. المرايا تتكاثر، وأنا أتقلّصُ داخلها، حتى صرتُ مجرّد ظلٍّ يتنقّلُ بين انعكاساتٍ لا تنتهي.
يا لهذه الوحدةِ التي تتحوّلُ إلى كونٍ موازٍ! كلُّ نجمةٍ فيه جرح، وكلُّ طريقٍ يُفضي إليكِ. فهل من خلاصٍ غير هذا العذاب الأبدي؟ أم سأظلُّ أرقبُ ظلّي الطويل وهو يكتبُ على جدار الزمن: "أنا وحيدٌ... دائمًا وأبدًا"؟
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق