أربعةُ أوجُهٍ للصمتِ والضوء: رحلةٌ بين المرايا والأسئلة!
(مرآةٌ للذين يصغون للضوء بصمت)
السؤالَ كان الكائنَ الأول الذي خُلقَ من رحم الدهشة، وكلُّ ما تلاه كان مجرّد محاولاتٍ لترويض هذا المولود الذي لا ينام. الكلماتُ هنا ليست نصوصًا ولا وصايا، بل شظايا تتناثر من مرآةٍ سقطت فجأة، كلُّ قطعةٍ منها تعكس شيئًا من الضوء وشيئًا من الجرح. ما تقرؤه الآن ليس تسلسلاً، بل رحلةٌ في نفقٍ يشتبك فيه العتم بالنور، والحكمةُ بالوجع، والصمتُ بالصراخ:
في القاعِ حيثُ لا ظلَّ يُبقي شيئًا على حاله، تقفُ المرايا صامتةً كشهودٍ على محاكمة الوجود!، لا تعكسُ سوى العتمة، ولا تُجيبُ سوى بالصمت، كأنّها عيونٌ أُغلقتْ بقسوةٍ، أو ذاكرةٌ مُعلَّقةٌ بين الموتِ والولادة. نحنُ ننظرُ فيها فلا نرى إلا تشوّهاتنا، ولا نلمسُ إلا أسئلتنا العارية.
هل المرآةُ تُكرّرنا أم تُلغينا؟ هل نحنُ إلا انعكاسٌ لشيءٍ لم يعد موجودًا؟ المرايا لا تكذب، لكنّها تنتظرُ أن يولدَ النورُ من رحمِ عتمتها، فإذا تحدّث النور، خرج من شرنقةِ الظلامِ لا كشعاعٍ يُضيء، بل كحكايةٍ تتسرّبُ إلى العصبِ وتربكُ النبض. ليسَ ضوءًا وحسب، بل ذاكرةٌ قديمةٌ تتذكّرُ ما لم يُروَ. هو الحرفُ الأولُ في كتابِ الكون، والوشمُ الأخيرُ على جلدِ الزمن!، عندها، تتراجعُ المرايا خجلةً، لأنّ النورَ لا ينعكسُ على السطح، بل ينحتُ العمق.
الكلماتُ التي ينطقُ بها ليستْ إجابات، بل مفاتيحٌ لأبوابٍ لا تُفتحُ إلا بدمِ الأسئلة!، وللفهم شروطٌ لا ترحم. هو ليس نَفَسًا يُمنح، بل امتحانٌ يُسحب من الروح. أن تخلعَ القناع كأنك تخلع جلدك، وأن تخطو بين المعنى والمعنى فوق جراحٍ مفتوحة. الفهمُ ليس هديةً، بل دينٌ لا يُسدّدُ إلا بالنزيف. تمسكُ بيدِ الحقيقة، فتجردها من أظافرها، ثم تكتشفُ أنك كنتَ تُسلخ ببطءٍ طيلة الوقت.
عندما يصيرُ الفهمُ جُرحًا، تصيرُ الحقيقةُ صرخةً تُعيدُ ترتيبَ العالم، وحين لا تعود الكلماتُ كافية، يخرج الصراخ. لا من فمٍ، بل من باطنِ الأرض. لا بوصفه ضعفًا، بل كزئيرٍ يشقُّ جدارَ اليقين. الحقيقةُ لا تُقالُ بهدوء، لأنّ الوجودَ نفسَه لم يُخلَق بصمت.
تُطلَق كرصاصةٍ نحو ساحةِ المعنى، وتُخلّف أثرًا لا يُمحى. أحيانًا نسمعها صدى، وأحيانًا نراها في اللمعانِ الغامضِ لعيني الليل. فإذا طاردتْك، فاعلمْ أنّكَ من بدأ المطاردة. وهكذا، بعد أن مررنا بعتمةِ المرايا، وهمسِ النور، ووجعِ الفهم، وضجيجِ الحقيقة، لا نهاية في الأفق... فقط سؤالٌ يشبه الأوّل، لكنه أكثر اتساعًا. لأنّ الحكمة لا تنمو من الإجابات، بل من ظلالِ الأسئلة التي تلازمك كظلك، وتسبقك أحيانًا إلى الضوء.
هنا، تتكشّف هذه الشظايا على هيئة دورةٍ كاملة: وُلِدتْ من الفراغ، وتنفّست الشك، وستنزف حتى حافةِ اليقين. قد تتركها على طاولةِ التفكير، أو تعود إليها كلّما احتجت مرآةً لا تخون. لا فرق، فاللغة هنا ليست مرآةً لكَ فقط، بل مرآةٌ لكينونتك حين تخلع عنها كلَّ وهمٍ.
ربما، بعد كلِّ هذا، لا تكون الحقيقةُ سوى الشظيّةَ الأخيرة من تلك المرآةِ التي لم تُكسَر بعد، لأنها لم تكن يومًا سوى أنت… حين صدّقتَ نورك.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق