الأربعاء، 30 أبريل 2025

الجزء الثالث: "أحتاجُكَ": انكسارٌ يُشرِّفُنا، وحنينٌ يُكمِلُنا!

 "أحتاجُكَ": من انكشاف الروح إلى أوطان القلوب في ظلّ دفء الاستجابة!

الجزء الثالث: 
"أحتاجُكَ": انكسارٌ يُشرِّفُنا، وحنينٌ يُكمِلُنا!

عندما تُقالُ كلمة "أحتاجُكَ"، فإنها لا تمرُّ كأي كلمة عابرة. إنها تخرقُ جدارَ الصمت الذي نبنيه حول أنفسنا، وتكشفُ عن هشاشةٍ نعتقدُ أنها عيبٌ يجب إخفاؤه. لكنّ الحقيقةَ الأعمق هي أن هذه الكلمة، بكل ما تحمله من انكشاف، هي أقوى ما يمكن أن يُقال. إنها ليست طلبًا للمساعدة فحسب، بل هي إعلانٌ عن ثقةٍ مطلقة، عن استعدادٍ لأن يُرى المرءُ ضعيفًا أمام آخرَ اختارهُ ليكون شاهدًا على هذا الضعف. في عالمٍ يُقدّسُ القوةَ المزيفة، يصبحُ الاعترافُ بالحاجةِ ثورةً صغيرةً على كلّ الأكاذيب التي نرويها لأنفسنا. 

لكنّ السؤالَ الأكثر إيلامًا: لماذا نخشى أن نعترفَ بحاجتنا؟ ربما لأننا نربطُ الضعفَ بالخذلان. نتذكّرُ كلّ المرات التي كشفنا فيها عن قلوبنا فوجدناها مكشوفةً للسخرية أو اللامبالاة. ننسى أن الحاجةَ ليست عارًا، بل هي الجسرُ الوحيدُ الذي يعبرُ من خلاله الحبُّ والصداقةُ الحقيقية. الفرقُ بين الحاجةِ الصحيةِ والاتكاليةِ كالفرقِ بين يدٍ تمتدُّ طلبًا للعون، ويدٍ تنتظرُ أن تُطعَمَ كلّ يوم. الأولى تُبنى عليها العلاقاتُ، والثانيةُ تُدمّرها. 

في قلبِ كلّ علاقةٍ حقيقيةٍ، هناك هذا النوعُ من الحاجةِ الذي لا يُقالُ مباشرةً، لكنّه يُفهمُ في نظرةٍ، أو صمتٍ، أو ابتسامةٍ حزينة. إنه الحنينُ إلى حضورٍ لا يغيب، إلى من يفهمُك دونَ كلمات، إلى من يكونُ ملاذك عندما تضيقُ بكَ الدنيا. هذه الحاجةُ ليست نقصًا، بل هي دليلٌ على أنك وجدتَ في شخصٍ آخرَ ما يُكمّلُك. لكنّ الخطورةَ تكمنُ عندما تتحولُ هذه الحاجةُ إلى توقّدٍ دائمٍ، إلى لهفةٍ لا تنتهي، عندها تصبحُ العلاقةُ سجنًا بدلًا من أن تكونَ ملاذًا. 

ثمّة من يرفضُ فكرةَ الحاجةِ تمامًا، ويعتبرها دليلَ ضعفٍ. هؤلاء يبنونَ حولَ قلوبهم جدرانًا سميكةً، لا يعبرُ منها أحدٌ، لكنّهم لا يدركونَ أنهم بهذا يصنعونَ سجنًا لأنفسهم. الكبرياءُ قد يحميكَ من الألم، لكنّه سيحرمكَ من الدفءِ أيضًا. في المقابل، هناك من يبالغُ في الحاجةِ حتى تفقدَ معناها، فيتحولُ إلى عالةٍ عاطفيةٍ، ينتظرُ من الآخرينَ أن يحلّوا مشاكله، أن يملؤوا فراغه، أن يكونوا سببَ سعادته. هنا تفقدُ الحاجةُ قدسيتها، وتصبحُ عبئًا. 

لكنّ الجمالَ الحقيقيّ يكمنُ في التوازن. في أن تعترفَ بحاجتكَ دونَ أن تفقدَ استقلاليتك، في أن تطلبَ المساعدةَ دونَ أن تصبحَ عاجزًا، في أن تكونَ ملاذًا لغيركَ دونَ أن تتحولَ إلى عكازٍ دائم. الحاجةُ، حينَ تكونُ صادقةً، ليستْ مجردَ طلبٍ للمساعدة، بل هي نوعٌ من المشاركةِ الوجودية. أن تقولَ "أحتاجُكَ" يعني أنك تثقُ بأنّ هناكَ من يستحقُّ أن يحملَ جزءًا منك، وأنّك مستعدٌّ لأن تحملَ جزءًا منه. 

في النهاية، قد نكتشفُ أن الحاجةَ هي التي تجعلُنا بشرًا. هي التي تذكّرنا بأننا لسنا كائناتٍ منعزلة، بل نحنُ خيوطٌ في نسيجٍ أكبر. كلّما كسرنا حاجزَ الخوفِ من الاعترافِ بحاجتنا، كلّما اقتربنا من جوهرِ إنسانيتنا. وربما تكونُ "أحتاجُكَ" هي الكلمةُ الوحيدةُ التي، رغم كلّ هشاشتها، تستطيعُ أن تبني عالَمًا كاملًا من الثقةِ والانتماء. عالمًا نكونُ فيهِ، ولو للحظةٍ، أقلَّ وحدةً.

جهاد غريب
أبريل 2025

الجزء الثاني: أوطان صغيرة نسكنها في قلوب الآخرين!

 "أحتاجُكَ": من انكشاف الروح إلى أوطان القلوب في ظلّ دفء الاستجابة!

الجزء الثاني: 
أوطان صغيرة نسكنها في قلوب الآخرين!

في لحظات نادرة، يتردد صدى كلمة "أحتاجُكَ" في فضاء الروح، ليس كطلب عابر، بل كاهتزاز عميق لجدران الصمت التي تحيط بقلوبنا. إنه انكشاف إنساني خالص، حيث تتساقط الأقنعة عن هشاشتنا، ويظهر القلب عاريًا من ادعاءات القوة. في هذا البوح الصادق، شهادة بأن روحًا أخرى منحتنا ثقة غالية، وفتحت نافذة على عالمها الداخلي لترينا ضعفها. لا نخجل من حاجتنا، ففي الاعتراف بها تكمن قوتنا في مد جسور تواصل إنساني متين، وبناء تلك الأوطان الصغيرة التي نسكنها في قلوب الآخرين.

فالحاجة ليست فراغًا ننتظر أن يملأه الآخرون، بل هي مدٌّ ليدٍ ترجو كفًا دافئة وصديقة، واعتراف بأننا لسنا وحدنا في هذه الرحلة المعقدة، وأن هناك أكتافًا نستند إليها. فلنبحث عن هذا السند الأمين، ولنكن نحن السند لغيرنا، ففي تبادل العطاء تتجلى إنسانيتنا، وتترسخ أركان أوطاننا الصغيرة.

إن القوة الحقيقية لا تكمن في التظاهر بالاكتفاء، بل في شجاعة طرق الأبواب والقول بصدق: "أنا هنا، وفي حاجة إليك." هذا الاعتراف ليس استجداءً للشفقة، بل إعلان عن ثقة متبادلة وإيمان بقيمة العلاقة الإنسانية، وهو ما يبني أساسًا متينًا لـ وطننا الصغير في قلب الآخر.

عندما نكون نحن الملجأ، أولئك الذين يُقال لهم "أحتاجك"، نكتشف معنى أعمق لوجودنا. نصبح مرآة تعكس حاجة الآخر بصدق، ويدًا حانية تمسح دمعة. إنها قمة التجربة الإنسانية، أن نكون النور الذي يبدد عتمة غيرنا، وأن يكون احتواؤنا هو أسمى معاني العطاء، وبذلك نصبح وطنًا صغيرًا آمنًا لهم.

في العلاقات العميقة، يتجلى الاحتياج في صور مختلفة، كحنين دائم ورغبة في حضور لا يغيب، واهتمام عفوي لا يُطلب. إنها لغة صامتة تقول: وجودك هنا يكفيني للأمان، وهذا الشعور هو جوهر الانتماء إلى وطننا الصغير. فلنغذِّ هذه الروابط بالاهتمام والرعاية الصادقة، فالاحتياج المعترف به هو وقود العلاقات العميقة التي تمثل أوطاننا الصغيرة الدائمة.

متى تحررنا من وهم الاكتفاء الذاتي، انفتحنا على عالم أوسع من الدعم المتبادل والتعاطف الإنساني، وهو المناخ الذي تزدهر فيه أوطاننا الصغيرة. فالبوح بالاحتياج بصدق هو فتح نافذة واسعة للتواصل الإنساني الأصيل، وليس فقط طلبًا للدعم، بل منح فرصة للآخر ليكون جزءًا من الحل، وشاهدًا على قوتنا، وبذلك يتعزز شعورنا بالانتماء إلى وطننا الصغير المشترك.

في نهاية المطاف، فإن قول "أحتاجك" هو اعتراف عميق بالانتماء الإنساني، وإيمان بأن هناك أرواحًا تشبهنا وتفهمنا بعمق. إنه العثور على أوطان صغيرة نسكنها في قلوب الآخرين كلما ضاقت بنا دروب الحياة. لنبحث عن هذا الوطن الآمن في قلب من يحبنا بصدق، فالحاجة المعترف بها هي جواز سفر الروح نحو الدفء والأمان والاتصال الإنساني الحقيقي، حيث نجد أوطاننا الصغيرة التي تحتضن أرواحنا.

جهاد غريب
أبريل 2025

"أحتاجُكَ": من انكشاف الروح إلى أوطان القلوب في ظلّ دفء الاستجابة!

 "أحتاجُكَ": من انكشاف الروح إلى أوطان القلوب في ظلّ دفء الاستجابة!

هل شعرت يومًا بتلك الرغبة الصادقة في البوح بـ "أحتاجُكَ"؟ في هذا المقال المؤلف من ثلاثة أجزاء، نتشارك رحلة استكشاف هذه الكلمة القوية، من لحظة الانكشاف إلى دفء الاحتضان، وكيف نبني من خلالها مساحات آمنة في قلوب الآخرين، ونكتشف جوهر إنسانيتنا المشتركة.

الجزء الأول:
في ظلّ الحاجة... ودفء الاستجابة!

ثمة لحظات نادرة تُكشَف فيها أرواحنا فجأة، دون تهيئة أو تمهيد، لحظة تقول فيها لأحدهم: "أحتاجُكَ"، لا ككلمةٍ عابرة، بل كانتفاضة شعورٍ ضاق باحتماله، وكأنه يُلقى على قارعة الصمت من فرط ما تكدّس فيه، فهذه الكلمة، في ظاهرها طلب، لكنها في جوهرها انكشاف، بلغةٍ لا يتقنها إلا من جرّب أن يتعثر بروحه، ثم يرفع رأسه ليجد وجهًا لا يخيفه، بل يُطمئنه بأنه ليس وحيدًا.

أن نحتاج، لا يعني أننا انهزمنا، بل أننا اخترنا الصدق في زمن يبارك الأقنعة، ففي أعماق كل منا طفل يهمس بنداءات خفية: أن اسمعني، أن انظر إلي، أن قل لي ببساطة إنني لا أثقل عليك حين أكون في أضعف حالاتي. من قال إن الإنسان يكتمل وحده؟ نحن نُمتحن مرارًا لا في قدرتنا على الصبر، بل في قدرتنا على الاعتراف بأننا لا نستطيع أحيانًا وحدنا.

ليس كل احتياج ضعفًا، وليس كل بوح بالاحتياج استجداءً!، هناك احتياجات تأتي على هيئة حضور نشتاقه، أو نظرة ننتظرها، أو حتى صمت نأمل أن يكون صادقًا لا فارغًا؛ الحاجة أحيانًا ليست نداءً، بل سؤال يعلو بصمت: هل ترى ما لا أستطيع أن أقوله؟ هل تشعر بي دون أن أشرح؟ تلك هي أعظم التجارب الإنسانية، أن يُحتضن احتياجك دون أن يُقَيَّم أو يُحاكم.

في زوايا الحياة المتسارعة، يصبح من السهل تجاهل حاجاتنا، أو خنقها تحت ضغط الإنجاز والتماسك، لكن داخل كل متماسك، صدع صغير ينادي؛ ليس كل من يسير منتصبًا لا يتألم!، نحن فقط نتقن الانشغال كي لا نصغي لأنين أنفسنا، إلا أن أعظم الشجاعة، هي أن تطرق باب الآخر وتقول: "أنا لست بخير كما تظن، أحتاج إلى أن تراني".

الاحتياج ليس فوضى، بل ترتيب غير مرئي لما تهدّم فينا!، أن نكون في حاجة إلى أحدهم، لا يعني أننا عاجزون، بل يعني أننا إنسانيون بما يكفي لنمد أيدينا نحو نورٍ آخر، ومن الجانب الآخر، حين يأتينا من يقول: "أحتاجك"، فإنه يمنحنا شرفًا نادرًا: أن نكون ملاذًا. لا كواجب، بل كامتياز، لأن تكون أنت اليد التي تُمسك، والصوت الذي يُطمئن، والظلّ الذي يُحتضن، فتلك مكانة لا تُشترى ولا تُمنح، بل تُكتسب بالصدق والرأفة.

وليس هناك خطر أعظم على هذا البوح من الكبرياء، ذاك الحارس المتغطرس الذي يحرس هشاشتنا بزيف القوة، لكنه في الحقيقة، لا يحمينا، بل يعزلنا!؛ أن نعترف بحاجتنا، هو تمرين على التعافي من هذا الزيف، وتربية للروح على التواضع العاطفي، كلما كسرت حاجز الكبرياء، صرت أقرب إلى ذاتك الحقيقية، تلك التي لا تخاف أن تُرى وهي تتألم.

وفي الحبّ، يتخذ الاحتياج ملامح مختلفة، لا يقول المحب دائمًا "أحتاجك" بصوت مسموع، بل يظهر في نظرات تطلب البقاء، في قلق غير مبرر، وفي عتاب خافت؛ الحبّ ليس فقط عطشًا للعطاء، بل عطشًا لمن يلبّي دون أن يُطلب!، لمن يفهم أنّ غياب الاهتمام لا يعوّضه الحضور، وأن الحاجة أحيانًا تكون لسكوتٍ يحتوي أكثر من ألف كلمة.

نحن لا نُولد مكتفين، بل نبحث عن أوطان صغيرة نعيش فيها في قلوب الآخرين!، لا أحد ينجو من هذه الحاجة، مهما كانت قوته، وما أن نؤمن بأن الآخر لا يسدّ فراغًا، بل يخلق اتساعًا، حتى نبدأ في احتضان احتياجنا لا كعبء، بل كجسر يُبنى بيننا وبين من نثق بهم.

هكذا تبدو الحاجة حين تُفهم: لا شفقة ولا استعطاف، بل لغة خفية تقول: "أنا لا أريدك فقط، بل أراك القادر على أن تعود بي إلى نفسي حين أضيع"، وربما أجمل ما في هذا الاعتراف، أنه لا يُقابَل دائمًا بكلمات، بل بحضور، بإيماءة، أو حتى بصمتٍ صادقٍ لا يُفسَّر، لكنه يُشعِر بالأمان.

وفي نهاية هذا التيه الجميل، لا يبقى لنا سوى أن نُدرك: لسنا بحاجة لمن يحملنا، بل لمن يسير معنا بخطًى ثابتة حين نُبطئ، لمن لا يسأل كثيرًا حين نطرق بابه، بل يفتح لنا، كأننا نعود إلى شيءٍ يشبه الوطن.

جهاد غريب
أبريل 2025

الوطن: حاضنة الروح وأرض الأحلام!


الوطن: حاضنة الروح وأرض الأحلام!

في زحام المدن وتشابك الحدود، نبحث عن ذلك المكان الذي لا يُختزل في خطوط الخرائط أو يُقاس بمسافات الأميال!، الوطن ليس مجرد أرض نطأها بأقدامنا، بل هو الذاكرة التي تحمل رائحة القهوة في الصباح الباكر، وصوت الأذان الذي ينساب من بعيد، ودفء الأيادي التي عرفتها منذ الطفولة؛ هنا، في هذا الواقع الملموس، تُنسج حكاياتنا وتُزرع أحلامنا. 

لكننا أحيانًا نعيش في وسط هذا كلّه غرباء! ليس لأن الجدران تغيّرت، بل لأننا نحمل داخلنا أسئلة لا تجد إجاباتها بين الأزقة القديمة!؛ قد ننتمي إلى أرضٍ بعينها، بينما يظلّ جزءٌ منا يبحث عن ملاذ آخر!، ليس بديلًا عن الوطن الأصلي، بل امتدادًا له، فالوطن الحقيقي لا يطلب منّا أن نختار بين الأرض والروح، بل هو ذلك الحضن الكبير الذي يسعنا جميعًا: حجارة الشوارع وذكرياتها، شغفنا الذي لا يهدأ، وحتى جراحنا التي تعافت تحت سمائه. 

تخيل نفسك في شارع طفولتك بعد سنوات من الغياب، الطُرق نفسها، والوجوه ذاتها، لكنك تشعر بأن شيئًا ما قد اختلف!، هل تغيّر المكان أم تغيّرت أنت؟ الحقيقة أن الوطن ينمو كما ننمو، يتسع ليشمل كلّ ما صرنا إليه؛ قد نعود إلى البيت الذي تربّينا فيه فلا نجد أنفسنا بين جدرانه، ليس لأنه لم يعد "بيتًا"، بل لأننا صرنا بحاجة إلى أوطانٍ أخرى تُضاف إليه: كتابٌ قرأناه فغيّرنا، أو صديقٌ التقيناه فأصبح جزءًا منا، أو مدينةٌ احتضنت أحلامنا فصارت قطعةً من كياننا.

الغربة الأقسى ليست في العيش بعيدًا عن الأرض، بل في العيش عليها بقلبٍ لم يعد يتعرف عليها، لكن حتى هذا الألم هو دليل على أن الانتماء لا يموت؛ فهو يُولد من جديد كلّما فهمنا أن الأوطان ليست سجونًا نرثها، بل حدائق نزرعها!؛ قد نغادر المكان جغرافيًا، لكننا نحمل معنا الطرقات التي مشيناها، ولهجة أهلنا، وطعم الأكل الذي تعلمناه منذ الصغر، هذه ليست ذكريات فحسب، بل موادّ بناء ذلك الوطن الداخلي الذي لا يتعارض مع أرض الواقع، بل يجعله أكثر ثراءً.

في النهاية، لا يوجد تناقض بين أن تحبّ أرضًا وأن تبحث عن معنىً أعمق للانتماء؛ الوطن الحقيقي هو حيثما تستطيع أن تحمل ذاتك دون خوف، وحيثما تسمع همسَ قلبك يقول: "هنا"، قد يكون هذا "هنا" بحرًا رأيته للمرة الأولى فشعرت بأنه يعرفك، أو غرفةً صغيرةً كتبتَ فيها أحلامك، أو ترابًا دُفنت فيه قصص من سبقوك؛ الوطن هو كلّ هذا وأكثر!، ليس لأنه مكان مثالي، بل لأنه مكانك.

فلنحتفِ بالأرض التي حملتنا، ولنصنع داخلنا مساحةً لكلّ ما يجعلنا نشعر بأننا أحياء، فالوطن ليس مفترق طرق بين الروح والمادة، بل هو الجسر الذي يصلها، وهو حين يفقدنا - ولو للحظة - نكتشف أننا لم نكن نبحث عن مكان، بل عن ذلك الجزء منّا الذي يجعله يستحقّ أن يُسمى "وطنًا".

جهاد غريب 
أبريل 2025

الوطن الذي يسكننا!

 
الوطن الذي يسكننا!

في زوايا الحياة المزدحمة، نكتشف أن الغربة لا ترتبط بالحدود فقط، ولا أن الوطن محصور في خرائط الأرض!، هناك شعورٌ خفي، يمر بنا كنسمة لا نراها، لكنه يوقظ فينا السؤال الأبدي: أين ننتمي فعلًا؟ وحين يطول التأمل، ندرك أن الوطن أكبر من فكرة ما نعود إليه، بل ما لا نغادره داخل أنفسنا.

نحن لا نولد مرة واحدة، ثمة ولادات متكررة تحدث في صمت العمر، حين نُجبر على إعادة تعريف ذواتنا!، قد تكون الولادةُ خيانةً لعاداتٍ التصقنا بها، أو تجاوزًا لنسخٍ قديمة منّا ظننا أنها الحقيقة!؛ نكتشف في لحظات الصفاء أن ما كنا نظنه "وطنًا" كان أعمق من مجرد فكرة ارتحنا لها، بل ملاذًا حقيقيًا، وحينها، لا يعود المكان وحده هو ما يمنحنا الانتماء، بل المعنى الذي نسكنه ويمنحنا الثبات وسط تغير كل شيء.

في بعض الأحيان، نسير في شوارعنا المعتادة ولا نكاد نعرفها، لا لأن الأرصفة تغيّرت، بل لأن الزمن نفسه تحوّل إلى غريب!، نكتشف أن الأماكن التي حملتنا لم تعد تذكرنا، وأن الذكريات نفسها صارت باهتة كصفحات مرّت عليها أعوام من النسيان، وحين لا تعود الأماكن تعني ما كانت تعنيه، ندرك أن الغربة الحقيقية قد تكون في انقطاع الشعور، لا في اختلاف الجغرافيا فقط، فربما الوطن كان أكبر من مجرد لحظة... يمكن استعادتها.

الغربة ليست دائمًا في الرحيل، بل أيضًا في الإقامة داخل ما لم يعد يستوعبنا!، نكبر، وتتغير أدوات فهمنا، فتصبح الأوطان الصغيرة التي كنا نحتمي بها عاجزة عن احتواء قلقنا الجديد، ورغم ذلك نحن نحتاج إلى أن نعود، وإلى أن نفهم لماذا نشعر أننا ابتعدنا، حتى لو لم نغادر.

السلام لا يُطلب من الخارج، بل يُبنى في الداخل، فحين نستقر داخل ذواتنا، وحين نتصالح مع ما رحل، ومع ما لن يأتي، نصبح قادرين على أن نحمل أوطاننا في قلوبنا، لا في جوازات سفرنا، ولا في نداءات الحنين!، حينها فقط، لن نغترب.

لن تكون غريبًا إن استوطنتك السكينة، فالمكان وإن بدا مجرد إطار، فلن يكون الزمن صفحة قابلة للطيّ، أما الوطن الحقيقي، فهو تلك اللحظة التي تصافح فيها ذاتك بسلام، وتبتسم دون سبب... لأنك وصلت، أخيرًا، إلى حيث لم تبرح يومًا.

لا تبحث عن مفاتيح العودة فقط، بل اجعل الباب الذي تبحث عنه يكون مفتوحًا داخلك منذ البداية!، وكل ما عليك، أن تلتفت دائمًا إلى الداخل... فهناك تبدأ الرحلة، وهناك تنتهي.

جهاد غريب 
أبريل 2025

النسخة القديمة منّا وغُربة الزمن!

 
النسخة القديمة منّا وغُربة الزمن!

حين نفكر في العودة، فإننا لا نبحث عن طريقٍ يقودنا إلى بيتٍ قديم أو شارعٍ نعرف ملامحه، بل نبحث عن أنفسنا كما كنّا يومًا ما. نبحث عن النسخة التي سبقت كل هذه التغيرات، التي لم تُثقلها التجارب بعد، ولم تُعلِّمها الحياة كيف تحذر وتحسب وتخشى. نبحث عن قلوب كانت تنبض بحماسٍ بريء، تدهشها التفاصيل الصغيرة، وتصدق أن كل شيء ممكن، وأن الأحلام لا تسقط بالتقادم. تلك النسخة التي كانت ترى الحياة واسعة كأفق الصحراء، دافئة كحضن الأم، بسيطة كضحكة صديق في نهاية الدوام.

نعم، النسخة القديمة منّا تسكنها الذكريات، وتعبرها أطياف الأحلام التي رسمناها فوق جدران غرفنا، وكتبناها على دفاتر المدارس، وهمسنا بها لأنفسنا قبل النوم. فيها جلسات العائلة، ونصائح المعلمين، ومشاجرات الأشقاء التي كانت تنتهي دائمًا بضحكة، ونداءات الأمهات التي تتسلل من النوافذ، ورائحة الطعام التي تُغريك حتى لو لم تكن جائعًا. حتى من رحلوا، ما زالوا هناك، يضحكون معنا في الصور، ويتكلمون من خلف الظلال.

لكن ما يؤلم في هذا الحنين أنه لا يقودنا إلى مكان، بل إلى زمن. والزمن لا يعود. إنه وطنٌ بلا حدود، لكنه محجوز الولوج. كلما حاولنا الإمساك به، انسل من بين أصابعنا، كمن يحاول احتضان ضوءٍ قديم. وهذه الغربة التي نتحدث عنها ليست غربة المكان، بل غربة الزمن. أن تعيش حاضرًا لا يشبهك، وأن تتنفس يومًا لا يحمل رائحتك. تقف في منتصف غرفةٍ تعرفها جيدًا، لكنها لم تعد تعرفك. تمر في شارعٍ حفظت أسماء عابريه، فلا يلتفت إليك أحد. وتسمع ضحكات أصدقاء الطفولة في عقلك، بينما أرقامهم محذوفة منذ سنوات.

الزمن ليس خطًا مستقيمًا كما يقولون، بل هو دائرة نعود إليها كلما ضاقت الحياة. نعود إليها لا لنغير شيئًا، بل لنستظل بظلّ ما كنّا عليه. لكن تلك العودة مستحيلة، لأننا لم نعد نحن، ولأنّ الدفء لا يُصنع مرتين، بل يُعاش مرة واحدة ويُحنُّ إليه ألف مرة. ربما هذا ما يجعل الحنين مؤلمًا؛ لأنه يُذكرنا بأن بعض الجمال لا يُعاد.

وفي قلب هذا الحنين يكمن سؤال مرير: هل النسخة القديمة منّا أفضل؟ أم أننا نُغالي في تمجيدها لأننا نخشى الاعتراف بضعفنا الآن؟ ربما لأننا كبرنا، وأدركنا أن الأحلام لا تكفي وحدها، وأن العالم لا يمنح فرصًا لكل من يبتسم، صرنا نشتاق لزمنٍ كنّا نعتقد فيه أن كل شيء سيكون بخير.

لكنّ التصالح مع ذواتنا الحالية لا يعني التخلي عن نسخنا القديمة، بل احتضانها. نحن لا نُدفن الماضي، بل نحمله كصديقٍ قديمٍ في قلوبنا، يُرشدنا حين نضيع، ويُطمئننا حين نرتبك. إن النسخة الجديدة منّا ليست خيانة للماضي، بل تطوّر طبيعي له، تحمل خبراته، وتسير به نحو الغد. علينا أن نُسامح أنفسنا لأننا تغيّرنا، وأن نُحبّها رغم الشوائب، لأنها تحمل في طيّاتها ذلك الطفل، وذلك المراهق، وذلك الشاب الذي حلم، وتألم، ونضج.

الغربة التي نحملها في أرواحنا ليست دائمًا دليلًا على التيه، بل قد تكون دافعًا للبحث عن ذواتنا، عن جوهرنا، عن انسجامٍ ما داخلنا يجعل من اللحظة الراهنة وطنًا بديلًا، يسكنه الهدوء والتصالح، لا الندم والعتاب.

وإن كانت التكنولوجيا قد منحتنا صورًا ومقاطع ومحادثات تُنعش الذكرى، فإنها أحيانًا ترهق القلب بمقارنة لا تنتهي، وتضعنا في مواجهة يومية مع "من كنّا"، دون أن تمنحنا وقتًا كافيًا لنتقبل "من أصبحنا". تسرق الحاضر باسم الذكرى، وتحبس الروح في شريطٍ يعاد مرارًا، في حين أن الحياة تجري في الخارج، دون أن تنتظر أحدًا.

ربما لا يكون الحل في نسيان الماضي، ولا في التعلّق به، بل في استخدامه كمرآةٍ نُراجع فيها ذاتنا، لا لنحاكمها، بل لنفهمها، فالنسخة القديمة لم تكن مثالية، لكنها كانت صادقة، والنسخة الجديدة ليست مكسورة، لكنها مرهقة، وبين هاتين النسختين، هناك مساحةٌ للتصالح، ولإعادة صياغة الحلم، ليس كما تمنيناه، بل كما يمكن تحقيقه الآن.

إننا لا نُولد مرة واحدة، بل مراتٍ عدة، وكل نسخة منّا هي فصلٌ من حكايتنا، لكن هذه الحكاية لا تُروى في فراغ، بل على أرضٍ تحمل خطواتنا، وتحت سماءٍ رأت أحلامنا!، الوطن ليس مجرد ذكرى نعيش فيها، بل هو المكان الذي نكبر فيه، ونترك فيه جزءًا من قلوبنا بين جدران البيوت، وأزقة الأحياء، ووجوه الناس الذين شاركونا الطريق، نبحث عن لحظةٍ نطمئن فيها أننا بخير، لكننا نجدها حيث تتشابك ذاكرتنا مع الأرض، وحيث يلتقي الحنين بالواقع.

نعم، للأوطان مجدها في الروح، لكنها ليست مجرد فكرة نصنعها في الخيال!، الأوطان الحقيقية تُبنى بالحب الذي نزرعه في تربتها، والضحكات التي تتردد في أزقتها، والدموع التي سالت على أرصفتها، وهي الحضن الذي يحتضن تغييراتنا، والشاهد الذي يعرف كل نسخنا القديمة والجديدة، فحين تجد فيها سلامك، لن تكون غريبًا، لأنها تظل تُناديك حتى عندما تبتعد، وتظل تُمسك بك حتى عندما تتغير!، ليست الغربة أن لا يتذكرك أحد، بل أن تنسى أنت مكانك الذي صنعك.

جهاد غريب
أبريل 2025

في قلب الخديعة: رحلة إلى أعماق الصدق!

 
في قلب الخديعة: رحلة إلى أعماق الصدق!

في البدء، لا يولد الإنسان وهو يعرف الفرق بين الوهم والحقيقة، بين ما يُقال له وما يجب أن يقوله لنفسه!، يخرج إلى العالم بقلب طاهر، يحبو في حقلٍ من الكلمات، حتى يتعلم أن البعض منها له وجهان، وأن الصمت أحيانًا أصدق من جملة مشيدة من نوايا مزيفة. تبدأ الخديعة حين نغمض أعيننا عن نصف الحقيقة، وحين نزيّن الكلمات لتنجو لا لتكون صادقة، أما الصدق، فليس فقط قول الحقيقة، بل أن تواجهها حتى وإن جرحت، وأن تعيش معها حتى وإن نزفت، وأن تقولها رغم ارتجاف الصوت في لحظةٍ كانت الكذبة فيها أكثر دفئًا.

الخديعة ليست حدثًا، بل عملية معقدة تتكاثر في الظلال، تأكل من ضمير قائلها، وتنقض على ثقة من سمعها. تكبر الخديعة حين تُغلف بالابتسامات، وتُدس في نوايا ظاهرها الرحمة، وباطنها المكيدة، والغريب أن من يمارس الخداع يظن أحيانًا أنه يحمي، أنه يجمّل الواقع أو يتجنب الأذى، لكنه لا يدرك أنه في كل مرة يختار الكذب، يخسر شيئًا من نفسه، من ملامحه، من صورته في عين من يثق به.

الخديعة كالطين، تغوص فيها قدم الكاذب دون أن يدرك كم من الوقت سيستغرق لينظفها من على جلده، وكم من الأرواح سيتلطخ بها قبل أن يعترف، بينما الصدق، على قسوته، ماءٌ باردٌ يغسل الوجه في صباح الحقيقة، ينعش القلب، حتى وإن أيقظه من وهم جميل. لم يكن الصدق يومًا دربًا معبّدًا، بل هو تسلق شاقّ في جبل الذات، هو مواجهة بين ما نقوله وما نكتمه، بين ما نراه وما نريد أن يراه الناس، وهو لحظة تتقاطع فيها الشفافية مع الشجاعة، وحين يختارها الإنسان، فهو لا يختار السهولة، بل يختار أن يكون حقيقيًا.

لكن، لماذا نخدع؟ أهو الخوف؟ أم الطمع؟ أم أننا نظن أحيانًا أن الكذب أذكى من الصدق؟ ربما لأن الخديعة لا تتطلب الكثير من الشجاعة، بل فقط قدرة على المراوغة، أما الصدق، فيحتاج إلى قلب مستعد أن يُظهر عريه. الكذبة البيضاء، تلك التي ندعي أنها لا تؤذي، هي بذرة صغيرة تزرع الشك في تربة العلاقة، وإن سُقيت بالاعتياد، نمت إلى شجرة لا ظل لها إلا الخوف، فالكذب، حتى وإن صغر، يحمل خيانةً في نواته، والصدق، حتى وإن أوجع، يزرع في الأرض نبتة الثقة.

في العلاقات، لا شيء يُبنى فوق الرمل الهشّ للكذب، فالعين تفضح ما يُخفى، والصمت يكشف ما تُخفيه العبارات. الحب لا يحتمل التزييف، والصداقة تذبل حين يتسلل إليها التردد، والزمالة تفقد احترامها حين تُخدع المواقف. الثقة هي الماء الذي ترتوي منه كل علاقة، والصدق هو الجدول الذي لا بد أن يظل جاريًا كي لا تجف التربة.

ولكن، كيف نصمد في عالم يبرر الكذب كنوع من الذكاء الاجتماعي؟ في عالم رقمي يعج بالأقنعة، بالمعلومات الملفقة، بالصور المعدلة، بالأصوات المنقولة خارج سياقها؟ لا عجب أن يصبح الصدق نوعًا من التمرد، وأن يضطر من يعتنقه إلى الوقوف على حافة العزلة أحيانًا. الصدق لم يعد قيمة فقط، بل مقاومة!، مقاومة للسائد، وللمريح، وللذي يُقال فقط لإرضاء السامع.

ليس الصدق دومًا قول كل شيء، بل قول ما يجب أن يُقال بطريقة لا تخون الجوهر!، ففي الحكمة، قد نؤجل الحقيقة، وقد نختار كلماتها بعناية، لكننا لا نتخلى عنها، وهناك فرق بين من يختار الصمت احترامًا، ومن يلفظ كذبة تهربًا، وعلينا أن نعلم أن الصدق لا يعني القسوة، بل النزاهة!؛ ليس أن تجرح الآخر باسم الصراحة، بل أن تحترمه بالحقيقة!، وبين الصدق المطلق والصدق الحكيم، تكمن إنسانيتنا.

في مراحل التعافي من الخديعة، يدرك المجروح كم من الوقت يحتاج القلب كي يثق من جديد، وكم من الاعتذارات الصادقة قد تكون البلسم، حين تُقال بتواضع، لا دفاع؛ ومن أصعب الأمور ألا تعتذر فقط لأنك انكشفت، بل لأنك أدركت الأثر؛ أن تتوب لا لأنك خفت، بل لأنك ندمت بصدق؛ هكذا تبدأ المصالحة: حين نعترف، لا حين نبرر.

ولعلنا نحتاج، أكثر من أي وقت، إلى تربية تعيد غرس قيمة الصدق، لا كقيد، بل كقوة!؛ أن نُعلّم أبناءنا أن يكونوا شجعانًا في قول الحقيقة، حتى وإن واجهوا بها الخوف، أن نمنحهم مساحة يخطئون فيها دون أن نخيفهم بالعقاب، حتى لا يهربوا إلى الخداع كملاذ!؛ الصدق يُزرع في الطفولة، ويتغذى على الثقة، ويُثمر في الضمير.

الصدق ليس فقط فضيلة أخلاقية، بل هو في جوهره موقف وجودي، وهو أن تختار، في كل لحظة، أن تكون متسقًا مع نفسك، لا أن تتقمص دورًا ليرضى عنك الآخرون!، وحين تكون صادقًا، فأنت لا تعيش فقط في سلام مع من حولك، بل في سلام داخلي عميق، يشبه تلك اللحظة التي تنظر فيها إلى مرآة دون أن تشيح وجهك.

في النهاية، الخديعة قد تمنحك مكسبًا مؤقتًا، لكنها تسلبك شيئًا من نورك!، والصدق قد يكلفك لحظة من الألم، لكنه يمنحك عمرًا من الاحترام، من السلام، من الثقة التي لا تُشترى!، وإن كنت لا تعرف من أنت في هذه المتاهة بين الصدق والخديعة، فابحث في قلبك عما لا يمكن تزويره، في إحساسك بما هو صحيح، في ضميرك حين يخلو المكان من العيون.

فمن بين كل الطرق، وحده الصدق يوصلك إليك.

جهاد غريب 
أبريل 2025

الثلاثاء، 29 أبريل 2025

لحظات من ذهب: كيف نحول العادي إلى استثنائي؟

 
لحظات من ذهب: كيف نحول العادي إلى استثنائي؟

في زحمة الحياة، تمر علينا أيامٌ كالنسيم، لا نكاد نحسّ بها حتى تختفي، لكن ثمة لحظات تعلق في الذاكرة كالنجوم، تلمع في سماء الروح ولا تتبدد!؛ ليست هذه اللحظات من صنع الصدفة وحدها، بل هي ثمرة نظرتنا، ولمساتنا، وشغفنا الذي يحيل الرماد إلى ذهب.

الاستثنائي ليس شيئًا منفصلًا عنّا، إنه العادي حين ننظر إليه بعينٍ لا ترى السطح فقط، بل تغوص إلى الأعماق!؛ طبق طعام عادي يصبح تحفةً حين يُقدّم بجمال، وكلمة بسيطة تتحول إلى شِعر حين تُقال في اللحظة المناسبة، وشارع مألوف يكتشف فجأةً جماله حين نسير فيه ببطء، كأننا نراه للمرة الأولى. الفرق بين العادي والاستثنائي هو ذلك الخيط الرفيع الذي ننسجه نحن بالانتباه، بالإضافة، وبالقدرة على رؤية ما لا يراه الآخرون.

الإبداع ليس حكرًا على الفنّانين، بل هو طريقة عيش!، انظر إلى الطاهي الذي يحوّل الخضروات إلى لوحة، أو إلى الحرفي الذي يرى في قطعة الخشب روحًا تنتظر أن تُطلق، حتى في العلاقات، كلمة حبّ عابرة قد تصبح ذكرى تُحفظ لسنوات إذا جاءت من القلب، في الوقت المناسب، وبالطريقة التي تلامس الشغاف. التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع الفارق: نظرة، ابتسامة، لمسة، أو حتى صمتٌ يحمل معنى.
 
لكن كيف نكتسب هذه العين التي ترى الخفيّ؟ الأمر يبدأ بتغيير المنظور. قد تكون الزهرة في نظر البعض مجرد نبتة، لكنها في عين الشاعر قصة حب، وفي عين العالم معجزة بيولوجية!؛ لذا "إعادة التأطير" هي لعبة العظماء!، أن نخلع النظرة المبتذلة ونلبس الأشياء ثوبًا جديدًا من الدلالات. هل تعلم أن بعض أعظم الاختراعات بدأت كفكرة بسيطة، أو كخطأ؟ المشكلة ليست في الأشياء، بل في كيفية رؤيتنا لها. 
 
ولا ننسى دور اللمسة الشخصية، تلك البصمة التي لا تُقلّد!؛ حين تضيف جزءًا من روحك إلى ما تفعله، يصبح العمل فريدًا، حتى لو كان شيئًا يفعله الملايين يوميًا. الأصالة هي التي تجعل الكوب الذي صنعته بيديك أغلى من كوبٍ آخر مثله في المتجر، رغم تشابههما.

لكن ما الذي يدفعنا إلى بذل هذا الجهد؟ إنه الشغف، ذلك الوقود الخفيّ الذي يحوّل السعي إلى متعة، والمثابرة إلى إيمان!؛ كم من مشروع بدأ عاديًا، لكن صاحبه لم يستسلم للروتين، وظل يغذيه بشغفه حتى اكتملت صورته الاستثنائية. التميز ليس محطةً نصل إليها، بل هو طريق نختاره كل يوم، رغم العقبات، رغم الملل، رغم أن العالم يهمس لنا أحيانًا: "لا تُبالغ، هذا يكفي".

والحياة الاستثنائية لا تُبنى باللحظات الكبيرة فقط، بل بتحويل اليومي إلى طقسٍ جميل، فلتجعل من فنجان قهوتك الصباحية لحظةَ تأمل، ومن حديثك مع طفلك قصةً ترويها، ومن عملك الروتيني تحديًا تبتكر فيه شيئًا جديدًا كل يوم. الامتنان هو العدسة التي تكشف لنا سحر التفاصيل، فمن يشكر النور لا يعيش في الظلام أبدًا.

ولا ننسى أن نستثمر في أنفسنا، لأن العقل المليء بالأفكار، واليد المليئة بالمهارات، قادران على خلق الاستثناء من أي شيء، وكلما تعلمنا أكثر، كلما زادت أدواتنا لرؤية العالم بطريقة أعمق، ولتحويل الطين إلى تمثال، والفكرة إلى واقع.

أخيرًا، ثقافة الاستثنائي لا تُبنى فرديًا فقط، بل جماعيًا!؛ فحين تحيط نفسك بمن يرون العالم كما تراه، وبمن يتحدون المألوف، يصبح المستحيل ممكنًا. الشركات العظيمة، والأسر المتماسكة، والمجتمعات الناهضة، جميعها تبدأ بفكرة واحدة: "لماذا نرضى بالعادي، ونحن قادرون على صنع المعجزات؟"

في النهاية، تذكّر أن اللحظات الذهبية لا تنتظر أحدًا، بل نصنعها نحن!، قد لا نستطيع إيقاف الزمن، لكننا نستطيع أن نملأه بلمساتنا، وكلماتنا، وأحلامنا، ففي كل يومٍ عادي، ثمة فرصةٌ استثنائية تنتظر من يراها... فكن عينًا ترى، ويدًا تصنع، وقلبًا يؤمن بأن حتى الذرات الصغيرة، يمكن أن تُضيء الكون.

جهاد غريب 
أبريل 2025

ولادة تحت الركام!

 
ولادة تحت الركام!

عندما نواجه لحظة السقوط، تندفع الحياة بسرعة إلى التراجع، تلك اللحظات التي نتأرجح فيها بين صرخات الفشل وضباب الخسارة، والتي قد تكون نتيجة لقرارات ارتجالية، أو لحظة قهر قد تكون فُرضت علينا، لكنها تؤلم بقدر ما تشحذ روحنا؛ لحظة السقوط هي الفصل الذي لا بد منه في أي قصة، وهي الخطوة التي تتبعها المسافة، وكلما ابتعدنا عنها، أصبح بإمكاننا رؤية الصورة الأكبر بوضوح، فتتجلى أمامنا دروس قد لا تكون قد ظهرت من قبل.

في تلك اللحظة، قد نبدو وكأننا قد فقدنا كل شيء: الأحلام، والأمل، والاتجاه!؛ تتبدل الألوان في حياتنا إلى درجات قاتمة، وكأن السماء قد أغشي عليها، لكن هذا السقوط، رغم قسوته، يحمل في طياته بذرة لإعادة تقييم الذات، فكل لحظة فشل هي في ذاتها دعوة للنظر داخلنا، ولمراجعة قيمنا، وأولوياتنا، لا بل لاكتشاف قوة خفية كانت في ظلالنا، تنتظر اللحظة المناسبة لكي تظهر!؛ السقوط لا يُنزلنا فحسب، بل يُتيح لنا فرصة إعادة البناء، لأننا فقط عندما نكون في قاع الألم نكتشف من نحن حقًا.

ومع الوقت، تنبت ولادة الذات الحقيقية من بين أنقاض تلك اللحظات الصعبة!، ليست الولادة السهلة، بل هي معركة داخلية طويلة!، نبدأ في صياغة أنفسنا من جديد، نمزج الألم بالتحمل، الفشل بالأمل، وكل خطوة على الأرض تصبح فرصة لاستعادة القوة التي كانت تختبئ خلف الأقنعة، هذه الرحلة لا تخلو من التحديات، لكنها تكون مكافئة عند الوصول إلى القمة، فنحن لا نولد عظماء إلا بعد أن نمر بتجربة التكسير، وهو في جوهره الموجة التي تجعل من ينجو منها يتناغم مع ذاته الحقيقية.

أمثلة من حياة الناس قد تدل على هذه الحقيقة!، فكل شخصية عظيمة مرّت في حياتها بلحظات السقوط: فكر في من اجتازوا الحروب، أو من خسروا أعز ما يملكون، أو حتى في أولئك الذين فقدوا مساراتهم المهنية، فكل هؤلاء هم من اكتشفوا بعد السقوط قدرتهم على النهوض مرة أخرى؛ قد تبدو تلك اللحظات فارغة من الأمل، لكنها تثمر عن دروس عميقة حول صبر التحمل والتعلم من الأخطاء.

ولا تختلف أنواع السقوط: السقوط المادي قد يتجسد في خسارة مالية أو فقدان وظيفة، بينما السقوط العاطفي يحمل أوجاع الخذلان أو فقدان الحبيب، وهناك السقوط المعنوي الذي يرافقه الشعور بالضياع وابتعادنا عن قيمنا، أما السقوط المهني، فهو مثل أن تجد نفسك عائداً إلى نقطة البداية بعد سنوات من الجهد، لكن في النهاية، جميع هذه الأنواع تتقاطع في نقطة واحدة: لحظة تحول جوهرية.

ما يحدث بعدها هو أن ردود فعلنا تجاه السقوط تتنوع!، قد نتجاهل الواقع، أو نتراكم بالغضب، أو نغرق في الحزن!؛ قد نلوم أنفسنا أو نلقي اللوم على الظروف، لكن، في أقصى مراحل السقوط، يبدأ الوعي بالتحول!، ويصبح التقبل والتأمل سبلًا لتحقيق التحول الداخلي، ففي النهاية، السقوط ليس إلا بداية الطريق.

الدعم الخارجي له دور عميق في هذه المرحلة!، إن الأصدقاء، والعائلة، وحتى مرشدونا في الحياة، يمكن أن يسهموا في رفعنا!؛ التفاعل مع المجتمعات التي تشاركنا الألم يعزز قدرتنا على النهوض، ففي الانتماء إلى مجموعة، قد نجد العزاء والشجاعة التي نحتاجها للانطلاق من جديد، ومع ذلك، في النهاية، تتحقق القوة من داخلنا، من تعلمنا من مرونة المواقف، واستنباط القوة من نقاط ضعفنا.

قد يتساءل البعض عن معنى "السقوط المقدس" أو "الانهيار الإيجابي"!، في هذه اللحظات من الهدم، يكون هناك إعطاء المجال للبناء الأفضل، فالحياة تتطلب أحيانًا أن نتخلى عن ذواتنا الزائفة، لتتكشف لنا حقيقتنا بعد أن تخلينا عن الأقنعة التي صنعناها لحماية أنفسنا!، إن "السقوط" هنا ليس مجرد انهيار، بل هو تحول من حالة إلى حالة أعلى، حيث نتقبل ضعفنا كي نكتشف في النهاية قوتنا الحقيقية.

المرونة النفسية هي أحد مفاتيح تجاوز هذه اللحظات، فهي ليست مجرد قدرة على البقاء، بل هي القدرة على النهوض من جديد بعد الصدمات، وعلى النظر إلى التحديات كفرص للنمو، وعندما نعيد النظر في اللحظة الصعبة مع مرور الوقت، نرى كيف تغيرت رؤيتنا لها. كان الألم قد بدا لوهلة عائقًا، لكنه أصبح فيما بعد درسًا.

وفي ختام هذه التجربة، قد يتساءل البعض: هل السقوط هو النهاية؟ في الواقع، هو بداية، بداية جديدة لرحلة نحو الذات الحقيقية!، مثلما تحتاج الزهور إلى أن تُسحق لتتفتح، نحن أيضًا نحتاج إلى لحظات السقوط لكي نكتشف في النهاية من نحن. تعلمنا من أخطائنا، واكتشفنا قوة خفية داخلنا لم نكن لندركها لو لم نمر بتلك اللحظة. لن نكون أنفسنا حقًا إلا بعد أن نسقط، ولكن الأهم من ذلك هو أن نتعلم كيف ننهض. 

جهاد غريب
أبريل 2025

الاثنين، 28 أبريل 2025

سحر التفاصيل: حينما تُنْبت البساطةُ عُشبَ الجنون!

 

سحر التفاصيل: حينما تُنْبت البساطةُ عُشبَ الجنون!


في زحمةِ الحياة، حيثُ تُقاسُ القيمةُ بالضخامةِ والكمّ، ننسى أنَّ الكونَ يُحدّثنا بلغةِ الهمسِ، لا الصراخ. أنَّ الجمالَ الحقيقيَّ لا يختفي خلفَ الواجهاتِ البرّاقة، بل يتسلّلُ عبرَ شقوقِ التفاصيل الصغيرة، كضوءِ شمعةٍ في غرفةٍ مظلمةٍ يُعيدُ تعريفَ الظلّ.  
هل تأمّلتَ يومًا كيفَ تُغيّرُ ورقةُ شجرةٍ ساقطةٍ مسارَ نهرٍ كاملٍ؟ أو كيفَ تُعيدُ رائحةُ قهوةٍ صباحيةٍ تشكيلَ ذكرياتِ طفولةٍ بعيدة؟ التفاصيلُ هي نقاطُ الارتكازِ التي تُحرّكُ عالمنا الداخليّ، لكنّنا – للأسف – نتعاملُ معها كحروفٍ زائدةٍ في نصٍّ طويلٍ، فنشطبُها دونَ أنْ ندركَ أنَّ الجملةَ تفقدُ معناها بغيابها.  

الفنُّ: حينما تُصبحُ الذبذباتُ قصائدَ!
في متحفِ الحياةِ، كلُّ تفصيلٍ هو لوحةٌ قابلةٌ للتأويل. الفنانُ العظيمُ لا يخشى الفوضى، بل يخشى أنْ تُصبحَ فوضاهُ عاديةً. ألمْ يُخبرنا "فان جوخ" أنَّ النجومَ ليستْ نقاطًا مضيئةً، بل دوّاماتُ غضبٍ سماويّ؟ تلكَ اللمسةُ الأخيرةُ على اللوحة، ذاكَ الظلُّ الذي يبدو كخطأٍ للوهلةِ الأولى، هو ما يجعلُ العملَ الفنيَّ ينبضُ بالحياة.  

وفي الطبيعةِ، حيثُ لا وجودَ للعشوائيةِ، نجدُ أنَّ تكرارَ الأمواجِ على الشاطئ ليسَ تكرارًا أبدًا. كلُّ موجةٍ تحملُ سرًّا مختلفًا في رغوتها، كلُّ حصاةٍ تُغيّرُ نغمةَ اصطدامها. العلمُ يقولُ إنَّ دماغَ الإنسانِ يُفرزُ هرمونَ السعادةِ عندَ التركيزِ على التفاصيلِ الطبيعيةِ، كتعرّجاتِ لحاءِ الشجرةِ أو تناغمِ ألوانِ الغروب. لكنّنا – مع ذلك – نسيرُ في الحدائقِ ونحنُ نحدّقُ في شاشاتِ هواتفنا!  

المطبخُ: مسرحُ الذكرياتِ الصغيرة!
لا تُخبرني أنَّك تحبُّ الطعامَ إنْ كنتَ تبتلعهُ دونَ أنْ تسمعَ همساتِه. الطبقُ البسيطُ قد يصبحُ أسطورةً إذا أضفتَ إليهِ شيئًا منْ روحك. قطعةُ ليمونٍ على حافةِ الصحن، رشةُ نعناعٍ طازجٍ كأنّها إضاءةٌ خلفيةٌ للطبق، أو حتى طريقةُ ترتيبِ الخبزِ في السلةِ كأنّها تحضنُ وجبتَك. الدراساتُ تُشيرُ إلى أنَّ 70% منْ تجربةِ الأكلِ تعتمدُ على الحواسِ قبلَ الذوقِ. فلماذا نُهملُ هذه النسبةَ العظيمةَ؟  

العلاقاتُ: جغرافيةُ الهمساتِ!
أعمقُ العلاقاتِ لا تُبنى بالخطبِ الرنّانةِ، بل بالكلماتِ التي تُقالُ بنبرةٍ خاصّةٍ في الوقتِ المناسب. تذكُّرُ أنَّ صديقَكَ يُفضّلُ الشايَ بالسكرِ البني، أو أنَّ زوجتَكَ تُحبُّ أنْ تُتركَ لوحدها لدقائقَ عندَ الاستيقاظِ، هذهِ تفاصيلُ صغيرةٌ تُترجمُ إلى: "أنتَ موجودٌ في عالمي". علماءُ النفسِ يؤكّدونَ أنَّ العلاقاتَ التي تعيشُ طويلًا هي تلكَ التي تُكرّسُ 80% منْ اهتمامها للـ"تفاصيلِ اليوميةِ"، و20% فقط للأحداثِ الكبرى.  

كيفَ نتعلمُ فنَّ التقاطِ اللحظاتِ الخفيّة؟ 
لا تحتاجُ إلى عدسةٍ مكبّرةٍ، بل إلى عينينِ طفلٍ يرى العالمَ لأوّلِ مرّة. جرّبْ أنْ تلمسَ الحياةَ بأطرافِ أصابعك، أن تشعرَ بنعومةِ ورقةِ الكتابِ قبلَ تقليبها، أو ببرودةِ النافذةِ في يومٍ شتويّ. لا تتعجّل، دعْ أصابعك تقرأُ ما لا تقولهُ الصفحات.  
وتذكّرْ أحيانًا أن تتوقّفَ عن ملءِ الصمتِ، لأنّ الفراغَ بينَ الكلماتِ هو ما يحملُ المعنى الحقيقيّ. ففي ذلكَ الهدوءِ، تسمعُ دقّاتِ قلبِ اللحظةِ، وتفهمُ ما لا يُقال.  

اكتبْ دونَ أن تكتبَ. لا تدوّنْ يومَكَ في قوائمَ جافّة، بل احفظهُ في ذاكرتكَ كصورٍ متحركةٍ، كفيلمٍ لا ينتهي. دعِ التفاصيلَ تتراكمُ مثلُ طبقاتِ العطرِ على جلدِ الزمن، فتشمّها كلّما مررتَ بها مرّةً أخرى.

في عصرِ السرعةِ، كنْ بطيئًا كشجرةٍ تُنبتُ ثمارها!
الحياةُ ليستْ وثيقةً نُسرعُ في توقيعها، بل قصيدةٌ ننثرُ تفاصيلَها كحباتِ عقدٍ مكسور. الجمالُ ليسَ حدثًا استثنائيًا، بل طريقةُ نظرٍ نختارُها كلّ يوم. ففي النهاية، كما قالَ "نيتشه": "لا توجدُ حقائقٌ، فقط تأويلاتٌ". فلتكنْ تأويلاتُكَ للعالمِ مليئةً بالتفاصيلِ التي تُشعِلُ المصابيحَ في زوايا الروحِ المظلمة.  

هكذا، تصبحُ البساطةُ إمبراطوريةً، والتفاصيلُ الصغيرةُ قوانينَها.

جهاد غريب 
أبريل 2025

الأحد، 27 أبريل 2025

حين تسقط الأقنعة، يولد الإنسان من رماده!

 
حين تسقط الأقنعة، يولد الإنسان من رماده!

الحياة مسرحٌ كبير، لكن الممثلين هنا لا يُعلنون أنهم يُمثِّلون. يرتدون الأقنعة ببراعة حتى ينسون أحيانًا أن الوجوه الحقيقية تكمن خلفها. نصنع لأنفسنا شخصياتٍ تناسب المشهد، نلبس ثيابًا من التوقعات، ونرسم ابتساماتٍ مصنوعة من المجاملات، لكن ماذا يحدث حين ترتجف المنظومة كلها أمام زلزال الحقيقة، ويسقط القناع فجأة؟ ستنكشف الهشاشةُ المختبئة تحت قشرة الزيف، ولا يبقى إلا الوجه الحقيقي.

الزيف في حياتنا ليس مجرد كذبة عابرة، بل منظومة معقدة تُشبه الدخان الذي يحجب النار. قيل في الأثر: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا." كم منا يعيش حياته في غفلةٍ عن ذاته، معتقدًا أن القناع الذي صنعه بيديه هو وجهه الحقيقي؟ 

الواقع مؤلم، لا شك، لكنه على قسوته أرحم من الزيف، لأن الأخير يُضاعف المعاناة بطبقاتٍ من الخداع، وحين يُدرك الإنسان أن حياته بنيت على أوهام، يصرخ داخله بسؤال موجع: أين كنت حين ضعت عن نفسي؟

في الزوايا الاجتماعية، تتكاثر الأقنعة بصمت. يصبح القناع درعًا واقيًا نلوذ به من نظرات العالم. المدير المتسلط يخفي خلف صرامته خوفًا من الفشل، الصديق المتظاهر بالوفاء يخفي غصة الحسد، وحتى في الحب، نرتدي قناع الكمال خشية ألّا يقبلنا الناس كما نحن، بل كما يريدوننا أن نكون. غير أن الخداع الطويل لا يجدي نفعًا؛ فالأقنعة ثقيلة، ومع الوقت تترك ندوبًا لا تُمحى على وجوهنا الحقيقية.

وتحت هذا الركام من الزيف، تبدأ الصراعات الداخلية في الاشتعال. أقسى المعارك هي تلك التي تدور في صمت داخلي: حين يشك الإنسان في روايته عن نفسه، وحين يُدرك أن حياته، التي تبدو من بعيد كجدارية جميلة، ما هي إلا حائط متشقق إن اقتربت منه. 

هذا الصراع هو البوابة إلى التحول، مع أنه بوابة مؤلمة. قال جبران خليل جبران: "الحياة ليست إلا لحظة صحوة طويلة"، غير أن هذه الصحوة تقتضي أن نرفع السجادة ونواجه كل ما خبأناه تحتها طيلة سنوات.

تأتي اللحظة الحاسمة حين ينكشف كل شيء فجأة. قد تكون خيانة تكسر الثقة، أو فشل مهني يسقط ورقة التوت عن الكفاءة الزائفة، أو قد تكون بساطة طفل يسأل ببراءة: "لماذا تتصنع؟". 

حينها، لا يعود القناع قادرًا على التماسك، إما أن ينكسر الإنسان من الداخل، أو يولد من جديد. وكما يسقط الزيف الفردي، تسقط الأنظمة المبنية على الأكاذيب تحت ضوء الشمس الساطع، لأن التاريخ لا يرحم من يغلف الحقيقة بالزيف.

والسقوط، مهما بدا مدمرًا، ليس نهايةً كما نظن، بل بداية جديدة أكثر صدقًا. بعض الناس، من شدة خوفهم، يعيدون تركيب أقنعتهم بإحكام أكبر، بينما يختار آخرون أن يواصلوا الطريق بوجهٍ عارٍ، حتى لو كان ذلك محفوفًا بالقسوة.

المجتمعات أيضًا تتغير حين تسقط أوهامها الكبرى، تمامًا كما حدث في ثورات الربيع العربي حين اكتشف الملايين أن الخوف كان القيد الحقيقي الذي كبلهم.

في النهاية، يبقى السؤال معلقًا في الهواء: هل نجرؤ حقًا على أن نكون؟ الأقنعة، رغم كل شيء، لن تختفي تمامًا؛ فالحياة أحيانًا تتطلب أدوارًا مؤقتة ومشاهد مستعارة، ولكن الخطر كل الخطر أن ننسى وجوهنا الحقيقية تحت طبقات التمثيل. عندما يسقط الزيف، نرى أنفسنا لأول مرة: ضعفاء، خائفين، مكشوفين، ولكن حقيقيين. وربما تكون هذه المعجزة الكبرى: أن تعيش كما أنت، لا كما يريدك الآخرون أن تكون.

قال محمود درويش: "وضعت كل أقنعتي في البحر، فعادت إلي أمواجًا."

ومع كل قناع يُلقى بعيدًا، نقترب أكثر من الحقيقة التي انتظرَتنا طويلًا خلف الضباب.

جهاد غريب 
أبريل 2025

الاثنين، 21 أبريل 2025

رحلة الغياب الذي يشبهنا!

 
رحلة الغياب الذي يشبهنا!

الحياةُ ليست مساراً نرسمه بقلم، بل ظلاً يتلاعب به الضوء والنسيان! في تلك المساحة الغامضة حيث تتلاشى ملامحنا، تبدأ رحلتنا الحقيقية - لا بحثاً عن مكان، بل عن أجزاء منا تركت نفسها خلف ظلال الزمن. هذه ليست رحلة استعادة، بل مواجهة مع ذلك الغائب الحاضر الذي يسكننا: نسختنا التي توارت خلف الأيام، كشخصية من فصل غير مكتمل في قصتنا.

النداء الخفي:
تتماوج الأحاسيس كظل على الماء، نكتشف أنفسنا من جديد. نتبع نداءً خفيًا يوقظ سؤالاً: ما الذي بقي منا في لحظات لم نعد نعيشها؟ في عالم تتداخل فيه أصوات الروح مع أصوات الصد، نسمع همسات من نسخة منا لم نعد نجرؤ على مقابلتها. الأصوات ليست كلمات بل ذبذبات توقظ أسئلة: ماذا لو عدنا إلى أرواحنا التي هجرناها؟ الأحاسيس كضوء الفجر الخافت، يلمح بما يكفي لإثارة الفضول دون منح اليقين.

الحنين إلى الذات المفقودة:
في صمت اللحظة التي تسبق الاعتراف، نقف أمام مرآة الغياب، كظل بلا جسد، أو صوت بلا صدى، نتحرك في حياتنا كغرباء عن سيرتنا الذاتية. أصبحنا أشباح أنفسنا، نلمس بأيد لا تشبه أيدينا، ونحدق في المرآة فلا نعرف الوجه الذي يحدق بنا. الحنين هنا ليس إلى زمن مضى، بل إلى ذات لم نعرف كيف نحتفظ بها.

الغريب الذي يسكننا:
تمر الأيام ونحن نسير في أجسادنا كبيوت مستأجرة! نشاهد حياتنا من خلف زجاج سميك، ونسمع ضحكاتها ولا نشعر بدفئها. هذا الانفصال ليس زائراً عابراً، بل مستقراً في صدورنا! نتصفح أيامنا كقصة آخر، لنكتشف فجأة أن الغريب في السطور هو نحن!؛ العبثية الكبرى ليست في فقدان النفس أثناء السفر، بل في اكتشاف أن الروح سافرت بينما بقي الجسد.

الخاتمة:
الحكمة تكمن في الاعتراف بأن أعظم الرحلات تقاس بالمسافة بيننا وبين ذواتنا. هذه الرحلة ليست بحثاً عن ماضٍ فقدناه، بل مواجهة مع حاضر لم نعد نعرف كيف نعيشه. في النهاية، ليس المهم أن نعود إلى ما كنا عليه، بل أن نتعلم العيش مع ما صرنا إليه، ربما نكتشف أخيراً أنفسنا في تلك المساحات الفارغة بين الذكريات والحاضر.

لماذا "رحلة الغياب الذي يشبهنا"؟
لأن الغياب هنا مرآة عاكسة لحضور لم نجرؤ على مواجهته. نختفي لنرى أنفسنا بوضوح حين لا يكون هناك أحد لنكون أمامه. هذه الرحلة هي اكتشاف أننا قد نكون أكثر أنفسنا حين نغيب عنها، كشجرة تفقد أوراقها لترى جذورها، أو نهر يجف ليظهر قاعه. نحن لا نضيع لنوجد، بل نوجد لنعترف بأننا ضائعون!؛ في هذه المفارقة تكمن حكاية كل رحلة حقيقية.

جهاد غريب 
أبريل 2025

السبت، 19 أبريل 2025

جراح الملح: قصيدة الثورة والقمح!

 

جراح الملح: قصيدة الثورة والقمح!


(1)


أكتبُ كمن يحفرُ في جمرِ الذكريات،  

بقلمٍ من ضباب...

حروفٌ تتهاوى كشموسٍ غاربة،  

على ضفافِ الورق.

كأواصرَ ممزقةٍ،  

في خرائطَ لم تُقرأ بعد...

كعاشقٍ يخطُّ رسائله على جلدِ الريح،  

ويختمها بدمعٍ من فضةٍ وحرير.


ها أنا ذا - الذي أحرقَ الوهمَ! 

بشمعةِ يقينٍ،  

فأغلقتُ أبوابَ مملكتي بالشموعِ لتضيءَ، 

لا لتحترق!

لكي لا يضيعَ الحلمُ بين طيّاتِ الظلام،

ولكي تبقى كلماتي مصابيحَ للغرباءِ الذين

يقرأون قصتي على جدرانِ الزمن البالي.



يا ابنَ الشمسِ الساجدةِ على أعتابِ الفجر... 

يا عروسَ الموتِ التي تلبسُ ثوبَ القبورِ وتُزهِر!  

أبكي...  

لعلّ دموعي تُنبتُ غابةً!

من نخيلٍ في صحراءِ القلوبِ القاحلة،  

نخيلاً تَسْقُطُ ثمارُها دمعاً على رُفاتِ الأجيال،

وتصبحُ ظلالُها ملجأً للعابرينَ من أبناءِ القحط،

ممن حملوا أوطانهم على الأكتافِ

وتركوا أحلامهم عند حدودِ الغروب.

أبكي من ذرى الجبالِ حيثُ تُعلّمُ الصخورُ الصمتَ،  

إلى سهولِ الوادي حيثُ تعزفُ الأنهارُ أغاني الخلود،

حيثُ تروي الأرضُ حكاياتِ الأجدادِ...

للأحفادِ الذين لم يعودوا يفهمون لغةَ التراب.



(2)


يا وطني.. أكتبُك وأكتبني

أكتبُ كمن ينقشُ على جدرانِ السجونِ بأظافرِه...

حروفٌ تنزفُ كقمحٍ يسقطُ تحتَ سنابلِ المدافعِ.

ها أنا ذا - الذي رأى شمسَ الحريةِ!

تُباعُ في سوقِ المؤامرة الدولي،

فأشعلتُ شموعَ المقاومةِ من شحومِ ظلمِكم!


أسألكَ... 

يا عالمَ الظلمِ المُزيّفَ بِعطورِ المنظماتِ:

أهكذا تبنونَ "النظام العالمي الجديد"؟

على جماجمِ الأطفالِ في غزةَ؟

وعلى أنقاضِ المدارسِ في صنعاءَ؟

وبدموعِ الأمهاتِ في حلبَ؟


يا من جعلتَ رغيفَ جوعي..

مائدةً لعُملائكَ الذينَ يرقصونَ على أنغامِ الدولارِ،

ويلعقونَ صحونَ الاستعمارِ بألسنةٍ مِنْ لهب!


يقتسمونَ خبزَنا..

بينما نحنُ نقتسمُ الموتَ في طوابيرِ المساعداتِ!

ويشربونَ نبيذَهم الفاخرَ..

بينما نحنُ نشربُ الماءَ الملوثَ باليورانيومِ!


لكنّكَ يا وطني..

يا وردةَ المقاومةِ التي تتفتحُ بين الحواجزِ،

تعلمُ أنَّ كلَّ شبرٍ يُسرقُ منكَ..

سيعودُ ذاتَ يومٍ..

مُحمّلاً برائحةِ الدمِ والكرامةِ!



(3)


وطني يا وطني.. 

ها أنا اليومَ:

أبكيكَ يا أجملَ الجيادِ التي ركضتْ نحوَ الهاويةِ بفرحٍ!  

كأنّما تدركُ أنَّ الحريةَ تُولدُ من رحمِ السقوطِ.  

أبكيكَ يا قلبي.. يا وطنَ الأسى،  

يا من حوّلتَ دمعي إلى نهرٍ يروي ظمأَ التاريخ.  


يا من صاغَ من دمي قوسَ قزحٍ يعلو فوقَ سحابةِ الأمِّ الحزينة،  

يا من جعلتَ عظامي سُلّماً للحُلماءِ،  

لكنّك نسيتَ أنَّ كلَّ سلمٍ يُصعدُ إلى السماءِ  

سيُداسُ عليهِ ذاتَ يومٍ بأقدامِ العابرين!


أسألكَ.. يا عالمَ الظلمِ المُقنَّعِ بِحريرِ الدبلوماسية،  

يا من حوَّلتَ دمَ شهدائنا...

وقوداً لقطاراتِ المستعمرينَ،

يُشعلونَ بهِ أفرانَ مصانعِهم،

ونحترقُ نحنُ في صقيعِ الجوعِ!


يقتسمونَ خبزَنا على موائدَ مِنْ عظامِ الشهداءِ،

يأكلونَ بالشوكِ الذهبيةِ،

ونحنُ نلتقطُ الفتاتَ بأظافرِ الجوعِ.

ويشربونَ في كؤوسِ الكريستالِ دمعَ الأراملِ،

ونحنُ نرشفُ الموتَ من كؤوسٍ مِنْ طين!


أما الأوثانُ التي تلبسُ ربطةَ عنقٍ،  

فتحملُ أسماءً كُتبتْ بحروفٍ مِنْ دمٍ،  

وتحرسُها كلابُ الحربِ البوليسيةِ  

في أقفاصٍ مِنْ صمتِ العدالة! 


أما الجرادُ الذي يحسبُ نفسَهُ ملائكةً،  

فقد باعَ ضميرَ الوطنِ بمزادِ الأممِ المتحدةِ،  

ونسيَ أنَّ جناحيهِ مِنْ شمعِ دموعِ الأبرياءِ.  

سيذوبُ حينَ تشرقُ شمسُ الثورةِ!  


فلا نامتْ أعينُ الخائنين،

ولا سكنتْ جفونُ الغدرِ،

ولا طابتْ لهم أرضٌ داسوا فيها ظِلّ أرواحِنا،

ولا بردَتْ أنفاسُ الموتى في صدورِنا،

حتى نكتبَ أسماءَهم على جدرانِ الخلود.


نمضي،

بذاكرةٍ تمشي على جمرِ التجربة،

لكننا لا نميل،

ولا نستسلمُ للعاصفة،

لأننا ببساطةٍ،

أبناءُ الحلمِ الذي لا يموت.


يا وطني الصامد..

يا وردةَ الصباحِ التي تتحدى شفراتِ الاحتلال،  

مازلتَ تزرعُ الأملَ في عيونِ الأطفالِ،  

فهم وحدهم يرسمونكَ بألوانٍ  

لا يعرفها "مجلسُ الأمن" ولا "محكمةُ العدل"!


يا وطني الثائر..

يا من جعلتَ مِنْ رمادِ أحزاني  

حديقةً تزهرُ كلَّ ربيعٍ،  

علمتني أنَّ الزهرَ ينبتُ حتى بينَ شقوقِ السجونِ،  

وأنَّ الوردةَ التي تسقطُ على سيفِ الظلمِ  

ستظلُّ تُنبتُ شوكاً يحمي جمالَها..  

شوكاً سيُدمي أيادِيَ الظالمينَ ذاتَ يومٍ!



(4)


لستُ سوى زهرةِ دكناءَ نبتتْ بين طياتِ الورقِ القديم..  

زعموا أنني الإعصارُ فآمنتُ،  

وكنتُ مجردَ فراشةٍ تُنزفُ ألوانَها على مذبحِ الكلمات...

فراشةٍ تعلّمت أن الموتَ على ورقةِ قصيدةٍ

أجملُ من الحياةِ في قفصِ الأيامِ الرمادية.


لم يعدْ في صدري متّسعٌ للحقدِ،  

فكلُّ المجدِ للرحيلِ،  

وكلُّ الذاكرةِ دمٌ يسيلُ

من جروحِ العائدينَ من منافي الخيبة...

دماءُ العائدينَ تروي أساطيرَ لم تُكتَبْ بعد،  

وتُنبِتُ في صحاري العالمينَ زهوراً من حنين،

زهوراً تعرفُ أن الجذورَ لا تموت،

وأنّ الأشجارَ التي قطّعوها

ستظلُّ تورقُ في قلوبِ الذين لم ينسوا.


في أعماقي...  

حيثُ ينسجُ المستقبلُ خيوطَهُ من سكينٍ،  

وحيثُ الليالي السودُ 

تمضغُ ما تبقّى من إنسانيتي،

وحيثُ الصباحُ يأتي حاملاً جرائدَ الموتِ،

وعلى صدره شارةُ الأملِ المزيفة...

أصبحتُ كالتفاحةِ المحرّمةِ 

التي يقضمها الوجودُ كلَّ ليلة،  

وأغني كتمرِ الجراحِ 

الذي يُحلى بمرارةِ الفراق،

لأنني تعلمتُ أن الأغنيةَ الحزينةَ

هي الوحيدةُ التي تستطيعُ عبورَ الجدران،

والوصولَ إلى قلوبِ الذين يشبهوني.


اقرأْ يا عينُ التاريخِ المُدمنةَ على دمعِ الزمن!  

هذه خرائطي الضائعةُ بينَ يديّ العاصفة،  

وهذه هويتي:

ورقةُ شجرٍ تساقطتْ قبلَ الخريف...

ورقةٌ كتبتُ عليها كلَّ الحكاياتِ،

ثم رميتها في نهرِ النسيان...

لكنها ظلّتْ تطفو على السطح،

كأنّ الماءَ يرفضُ أن يبتلعَ حروفي!


عندما تذلُّ منصاتُ العالمِ كبرياءَها،  

تتضحُ فاكهةُ القلبِ الحقيقية:  

ليستْ تفاحةَ موتٍ، 

بل بذرةَ حياةٍ تُزرعُ في جوفِ الظلام...

بذرةٌ تعرفُ

أنَّ النورَ لا يأتي من فوق،

بل من الأعماق ـ

من حيثُ لا يجرؤ أحدٌ على النزول!


لكنّي...  

ما زلتُ هنا  

أحملُ ابتسامةً كشمسِ نوفمبرَ الدافئة،  

أحملُ ذكراكَ يا وطني... 

كالعنوانِ في رسالةٍ لم تُرسل!

رسالةٌ لو قرأها أحدٌ

لأدركَ أن الحبَّ هو اللغةُ الوحيدة

التي يفهمها كلُّ المنفيين.


أقفُ بينَ أنقاضِ الذاكرةِ المجهدةِ،  

أقبّلُ جبينَ الحقيقةِ في عتمةِ الليالي،  

وأعلّقُ حولَ عنقِ الزمنِ...  

قلائدَ من نجومٍ ماتتْ،  

لكنّ وهجَها بقيَ كبوصلةٍ  

تدلُّ التائهينَ على أننا... 

 

كنّا هنا يومًا.  

ونبتنا من دمعِ الأرضِ،  

وسنظلُّ كشمعةٍ لا تنطفئُ،  

حتى لو تحوّلَ كلُّ الرمادِ إلى قبرٍ...  

لأنّ النورَ الذي في داخلنا  

أقوى من كلِّ قبورِ العالمينَ!  


جهاد غريب 

أبريل 2025


الخميس، 17 أبريل 2025

سيمفونية الأماكن العابرة!

 سيمفونية الأماكن العابرة!


هل سمعتَ يومًا أنين الجدران؟ هل أرهفتَ سمعك لِصراخ الصمت الذي يتردّد في زوايا الغُرف المهجورة؟ الأماكنُ أيضًا تشيخُ، يا صديقي، تتثاقل خطاها حين يغيب عنها الحُبّ، تذبلُ رائحتها كزهرةٍ نُسيت في كتابٍ قديم. لها قلوبٌ خفيّةٌ تنبضُ بالغِياب، وأرواحٌ تئنُّ كلّما مرّ عليها الزمنُ كشبحٍ عابرٍ في مدنِ الذكريات.

نحنُ والأماكنُ قصيدةٌ واحدة، نكتبها بالخطواتِ والهمسات، بالضحكاتِ التي تتدفّقُ كشلالٍ عابر، والدموعِ التي تنسابُ كندى على زجاج النوافذ البارد. كلُّ بابٍ يُغلقُ يحملُ في طيّاته ألفَ حكاية، وكلُّ نافذةٍ تُطلُّ على شمسِ الغياب تَحملُ في زجاجها كسَرَ أحلامٍ لم تُكتمل.

هنا، في هذا الركنِ المُظلم، جلستَ يومًا مع حبيبٍ رحلَ مبكّرًا. هل تذكر؟ الأريكةُ ما زالت تحتفظُ بدمعتها الأخيرة، والجدارُ يهمسُ باسمِ من لم يعُد. الأماكنُ لا تنسى، بل تتحوّلُ إلى شواهدَ حيّةٍ على كلِّ ما فات. إنّها تتألّمُ كما نتألّم، تتضوّرُ جوعًا لِلَحظاتٍ لن تعود، وتصرخُ بصمتٍ كلّما مررنا بها كالغرباء.

لا تهجروها، لا تتركوا ظلالكم تتآكلُ تحت شمسِ النسيان. زوروها كالحُبّ القديم، افتحوا أبوابَها المُغبرّة، اسمعوا دقّاتِ قلبها الخافتة. إنّها تستجدي الذكرياتِ كالمسكين، تُقلّبُ في جيوبها الباليةِ صورًا باهتةً، وتنتظرُ أن يعودَ أحدٌ ما ليُضيءَ مصباحها المُنطفئ.

نحنُ راحلونَ، والأماكنُ باقيةٌ كالنجومِ التي تُزيّن سماءَ الليل بعد رحيلنا. لكنّنا، قبل أن نغادر، نخطّ على جدرانِها بأظافرِ الروحِ قصصًا لن تقرأها إلّا الأجيالُ القادمة. فليكنْ حضورُنا فيها كاللّحنِ الذي لا ينتهي، وليكنْ غيابُنا مجرّدَ انقطاعٍ مؤقتٍ في سيمفونيةِ الوجود.

يا لَقسوةِ الفراق! الأماكنُ تنتظرُ، ونحنُ نُسابقُ الزمنَ كالهاربين. نتركُ وراءنا غُرفًا مليئةً بالأشباح، وكراسيَ تترقّبُ جلوسَ أحدٍ لن يعود. من يُواسي من؟ من يُمسحُ دمعَ الجدران؟ من يُنصتُ لِحكاياتِ السقفِ الذي يحملُ كلَّ هذا الثقل؟  

لكنّ الذكرى تبقى. الذكرى التي تُشعِلُ مصابيحَ الأمل في دروبِ الماضي، وتجعلُ من كلِّ غيابٍ لقاءً مؤجّلًا. فَلا تَلهثوا خلفَ الدنيا وزينتها، فالزمنُ خائنٌ، والأماكنُ أصدقُ منّا. اِحملوا إليها ضحكاتكم، اِتركوا فيها بصماتِ قلوبكم، اِكتبوا على جدرانِ الزمن: "كُنّا هنا، أحببنا، عشنا، ولن يمحونا النسيان."  

فليكنْ حُبّنا للأماكنِ ثورةً ضدّ النسيان! لِنُعلّمَ الجدرانَ أن تُغنّي، والنوافذَ أن تتنفّس، والأبوابَ أن تحتضنَ كلَّ عابرٍ كأنّه الغائبُ الذي انتظرناه. لِتكنْ خطواتُنا قصائدَ مكتوبةً على ترابِ الدروب، ولِتكنْ دموعُنا أنهارًا تروي ظمأَ الأرض العطشى.

فنحنُ والأماكنُ.. وَهْمُ الخلود!

جهاد غريب 

أبريل 2025

الثلاثاء، 15 أبريل 2025

وهم الخلود: حين تتبخر الأشياء التي ظنناها دائمة!

 

وهم الخلود: حين تتبخر الأشياء التي ظنناها دائمة!

تمرُّ بنا لحظاتٌ نظنُّ فيها أن بعض الأشياء ثابتةٌ كالجبال، راسخةٌ كالنجوم، لا تتزعزع ولا تتبدل. نعيش معها كما لو كانت جزءًا من قوانين الكون التي لا تنكسر، ثمّ فجأةً، نكتشف أنها كانت مجرّد حلم ترويه الأيام، ثم تستيقظ فتجده قد تبخر.

كيف لشيءٍ كان يملأ عالمنا بالحضور أن يصبح غيابًا؟ كيف لقلبٍ كان ينبض بجوارنا أن يتحوّل إلى ذكرى؟ تساؤلاتٌ لا تنتهي، لكنّها تعلّمنا درسًا واحدًا: لا شيء يبقى، إلا ما يُقرِّره رب القدر.  

ننسج أوهام الديمومة حول الأشياء التي نحبّ، لأنّ الاعتراف بزوالها يُشبه الاعتراف بزوالنا نحن. نغمض أعيننا عن حقيقة أن كلّ شيءٍ في هذا العالم مؤقت، كالوردة التي تتفتّح في الصباح وتذبل بحلول المساء. نتعامل مع المشاعر والأشخاص والأماكن كما لو كانت قطعًا أثريةً محنّطة في متحف الذاكرة، لكنّ الحياة ليست متحفًا، بل نهرًا يجرف معه كلّ ما نعتقد أنه "لنا".  

لأنّ المواجهة مُرهقة. لأنّ الاعتراف بأنّ كلّ ما حولنا يمكن أن يغيب بين لحظةٍ وأخرى يُشبه المشي على حبلٍ فوق هاوية. نختار أن نعيش في قناعةٍ واهية بأنّ الغد سيكون نسخةً من اليوم، وأنّ من نحبّ سيظلّ بجوارنا إلى الأبد. لكنّ الأبدية ليست سوى وعدٍ نصنعه لأنفسنا لنهدئ من روعنا. الحقيقة المؤلمة هي أنّنا لا نملك شيئًا، ولا نستطيع أن نمنع شيئًا من الرحيل إذا حان وقته.  

هناك أشياء لا نستعدّ لفراقها أبدًا، لأنّنا لا نتخيّل العالم من دونها. مثل شجرة الظلّ التي اعتدنا الجلوس تحتها، أو صوت الأم الذي يملأ البيت دفئًا، أو حتى المدينة التي نشأنا فيها وهي تتغيّر أمام أعيننا دون أن نستطيع فعل شيء. نمدّ أيدينا لنمسك بها، لكنّها تتحوّل إلى غبار. هذا هو قانون الحياة: كلّ شيءٍ يمرّ، حتى نحن.


نحن نعيش وكأنّنا أبطال رواية نكتبها بأنفسنا، لكنّنا ننسى أن هناك كاتبًا آخر يمسك بالقلم. قد نخطط، نحلم، نتمسّك، لكنّ القرار النهائي ليس لنا. كم من خططٍ تحطّمت فجأة؟ كم من أحبّة رحلوا دون سابق إنذار؟ كم من أوطانٍ تحوّلت إلى ذكريات؟ لا نملك إلا أن نسلّم بأنّ الحياة قصيدةٌ مقدسةٌ، ونحن مجرّد كلماتٍ عابرة فيها.

ربما يكون أعظم درسٍ نتعلمه في هذه الحياة هو فنّ توديع الأشياء. ليس لأنّنا لم نعد نحبّها، بل لأنّ الحبّ نفسه يعلّمنا أن التمسّك ليس شرطًا للوفاء. اِحتفظ بالجمال في قلبك، لكن اِتركه حرًّا كالطيور. اِعلم أنّك مهما أغلقت الباب، فإنّ الريح ستجرف أوراقك عاجلًا أم آجلًا. فلتكن شجاعًا كفايةً أن تعيش بلا ضمانات، وأن تحبّ بلا وعود. لأنّ الحياة، في النهاية، ليست سوى رحلةٌ قصيرة نتعلّم فيها أن نترك كلّ شيء... ونحن نبتسم.

جهاد غريب

أبريل 2025



الأحد، 13 أبريل 2025

همسات العابرين: أخلاق تُختَزَفُ بين زحام النسيان!

 

همسات العابرين: أخلاق تُختَزَفُ بين زحام النسيان!

في زوايا الطرقات، حيث تُلامسُ أصابعُ النورِ أعشابَ الرصيفِ الخضراء، وتذوبُ أحذيةُ العابرين في ضجيجِ المدينةِ كأنها لم تكنْ، تكمنُ الهمساتُ التي لا يسمعُها إلا من يُوقِظُ قلبهُ من سُباتِ الروتين. ليست هناك حاجةٌ إلى مصطلحاتٍ ضخمةٍ، فجوهرُ الإنسانيةِ يُدرَكُ في اللحظاتِ الصغيرةِ التي تسرقُها منا أيامُنا: في نظرةِ طفلٍ يبتسمُ لغريبٍ، أو في يدٍ تمتدُّ فجأةً لترفعَ حقيبةَ امرأةٍ عجوزٍ تعثرتْ على الرصيفِ.  

بعضُ العقول لا تحتاجُ إلى مفاهيمَ جاهزةٍ، بل تبحثُ عن نصٍّ يُلامسُ أعماقَها بلغةِ الوجدان. هنا، حيث يصبحُ الحبرُ دمًا، والورقةُ جلدًا، تُولدُ تلك الكلماتُ التي لا تُقرأُ بالعينِ بل بِشغافِ القلبِ. لا فرقَ بين كاتبٍ وقارئٍ هنا، فكلاهما يحملان شمعةَ المعنى في غرفةِ النصِّ ذاتها، يُضيئان معًا تلك المساحةَ الخفيّةَ حيثُ تذوبُ الأنا في بحرِ الكينونةِ.  

وها هي الكتابةُ الحقيقيةُ تمدُّ يدَها إليك: ليست كلماتٍ تُلقى، بل قبضةُ حياةٍ تُنقذُك من الغرقِ في الضياع. تأخذُك إلى شرفةِ الزمنِ حيثُ تُعلّقُ الذكرياتُ كفوانيسَ على شجرةِ الماضي: طفولةٌ كضوءٍ خجولٍ، وصبا كريحٍ تُحطّمُ الأغصانَ الواهنةَ لتُزرعَ مكانها أسئلةً بلا جذورٍ، ثم شبابٌ كموجٍ يصرخُ في ليلِ الوجودِ، قبل أن يهدأَ كلُّ شيءٍ في سكونِ الشيخوخةِ، كغروبٍ يُغلّفُ الأرضَ بوشاحِ سلامٍ أخيرٍ.  

لكننا ننسى.  

ننسى ونحنُ نحملُ في هواتفنا ذاكرةَ العالمِ كلَّه، لكننا نُقصّرُ في تذكّرِ إنسانيتِنا. ننسى حين نمرُّ كالظلالِ بجانبِ من يحتاجُنا، أو حين نُغلقُ قلوبنا قبل أبوابِ المتاجرِ. لفتةٌ بسيطةٌ تكشفُ عن أخلاقٍ كادتْ تضيعُ - تلك الأخلاقُ التي هي كالغبارِ الذهبيِّ الذي يترسّبُ على أجنحةِ الفراشاتِ حين تمرُّ قربَ أيدينا دون أن نُؤذيها.  

الكتابةُ عن الذاتِ ليست تزيينًا أو جَرحًا، بل هي وقفةُ مصارعٍ أمام مرآةِ الروحِ. فيها تتساقطُ الأقنعةُ كأوراقِ الخريفِ، وتظهرُ الحقيقةُ عاريةً: معاناةٌ كشجرةٍ بلا ثمارٍ، وأحلامٌ كسفينةٍ غارقةٍ في بحرِ اليأسِ. حتى الكتبُ التي ظننّاها مرايا، تتحولُ أحيانًا إلى نوافذَ مغلقةٍ، نرى من خلالها أوجُهَ كُتّابٍ يتحدثونَ عن فضائلَ لم يعيشوها.  

هل سنظلُّ نمرُّ كالظلال؟ أم سنُوقِظُ في أنفسِنا ذلك الطفلَ الذي كان يرى في كلِّ عابرٍ قصةً تنتظرُ أن تُروى؟  

لأننا في النهاية، لسنا مجرد عابرين، بل حراسٌ لهذه الهمساتِ الإنسانيةِ. فلنُبطئ خطانا، ولننحني قليلًا كي نسمعَ صوتَ العشبِ وهو ينمو بين شقوقِ الأرصفةِ، ولنُمسكْ بيدِ من يحتاجنا... فربما يكونُ آخرُ همسةٍ ننقذها من النسيانِ هي ما يُخلّصُنا نحنُ أولًا.  

ففي عالمٍ يختزلُ القيمَ إلى شعاراتٍ، والإنسانَ إلى رقمٍ، تبقى تلك اللمساتُ الخفيّةُ هي الثورةُ الحقيقيةُ: ثورةُ القلبِ على قسوةِ الوجودِ، وانتصارُ الإنسانيةِ على زحامِ النسيانِ.

جهاد غريب 

أبريل 2025

السبت، 12 أبريل 2025

الصمت الذي يبني العوالم!

 

الصمت الذي يبني العوالم!

هل سمعتَ يومًا صمتًا يهزُّ الكون؟ 
صمتًا لا يخونُ الكلمات، بل يخلقُها من أعماقِ العتمة... 

ثمّة صمتٌ يشبهُ خذلانًا خفيًّا للنفس، 
لا يسمعُه أحدٌ... لكنّه يوجعُك وحدَك. 
وحين يطولُ، لا يُبقي شيئًا كما كان؛ 
يبتلعُ النورَ من عينيكَ، والحياةَ من صوتِكَ. 

فهل نبقى أسرى هذا الصمت؟ 
أم نتحوّلُ أخيرًا إلى مَن يزرعونَ الأثرَ، لا إلى مَن يراقبون؟ 

حتى الهمسةُ... حين تؤمنُ بها، تكبرُ، 
وتصيرُ جسرًا يعبرُ عليه الحالمونَ نحو التغيير. 
لذا... 
لا تنتظرْ.
فالتاريخُ لا يكتبُ نفسَه. 
اصنعْ من صمتِكَ حجرًا، 
ومن فعلِكَ زلزالًا. 

الضوءُ لا يولدُ من الكلامِ، 
بل من شرارةِ الفعلِ حين تشتعلُ في العتمة. 
اكتبْ بصمتِك، واصرخْ بفعلِك.
فالعالمُ لا يتذكّرُ مَن قالَ أكثرَ، 
بل يتذكّرُ مَن فعلَ الأفضلَ. 

لا تبقَ هناكَ... حيثُ لا يراكَ التاريخُ. 
التاريخُ لا يُنصتُ كثيرًا، 
بل يُدوّنُ أسماءَ الذينَ تحرّكوا، 
ويتركُ الذينَ همسوا بالحقِّ ثمّ اختبأوا. 
يذكرُ أولئكَ الذينَ حوّلوا صمتَهم إلى مطرقةٍ، 
وهمساتِهم إلى أعاصيرَ!

الصمتُ الجميلُ لا يبني عالمًا... 
العوالمُ تُبنى حين يتحوّلُ الصبرُ إلى حركةٍ، 
والنيةُ إلى خطوةٍ أولى. 
لنكنْ كالنجومِ...
تُضيءُ بالصمتِ، لكنّها تحرقُ الظلامَ بثباتِها. 

وسيأتي يومٌ... 
حين ينظرُ الكونُ إلى صمتِك فيدهشُ: 
"كيف استطاعَ قلبٌ واحدٌ أن يملأَ الفراغَ بهذا الضجيجِ الجميل؟!" 

لذا... 
لا تتركْ للصمتِ أن يكونَ قفصًا، 
بل اجعلْهُ أجنحةً... 
فالعالمُ ينتظرُ أن تعلوَ به نحوَ الضوء.

جهاد غريب
أبريل 2025

القصيدة التي لا تُقال!

 

القصيدة التي لا تُقال!

ثمّة أفعالٌ لا تحتاج إلى تفسير، تمامًا كالقصيدة الصادقة التي لا تحتاج إلى مقدمة. القصيدة التي لا تُقال... ليست حروفًا تُكتب، بل خطواتٌ تُسجَّل على رمال الزمن، فلا تُمحى!

وحده الفعل يكشف النوايا، يترجم المشاعر، ويُعبّر عنك أكثر من ألف كلمة! إنها القصيدة الحيّة... تلك التي تُلقى على مسرح الواقع بلا حروف، لكنها تلامس القلب مباشرةً، وتبقى في الذاكرة أبدًا. 

أما الكلمات، وإن كانت من ذهب، تظلّ هشّة ما لم تسندها إرادة تتّقد في الداخل! فالكلام وحده لا يُشعل شمعة، ولا يُرمم جدارًا مكسورًا، ولا يربّت على كتف الحياة المتعبة... الكلام قد يملأ الأسماع، لكن الفعل يملأ العيونَ بالدموعِ... أو بالبسمة!

يقولون: "إن للكلمات أجنحة"، لكنها لا تطير إلا بقلبٍ شجاع. وانظر إلى يدِ البستاني التي تُنبِت وردةً من تراب، بينما ظلّ الشاعر يصف العطرَ في قصيدته! 

وكم من خطيبٍ مُفوّه ارتقى المنابر وتغنّى بالحكمة، بينما العالم من حوله يتهاوى؟ وكم من فكرةٍ نبيلة ماتت في مهدها لأن صاحبها اكتفى بترديدها، ولم يُغامر بتجسيدها؟ بقيت حبيسة الأدراج، تنتظر فعلًا لم يأتِ، وصوتًا لم يتجاسر على البوح. 

وانظر إلى الفرشاة… تلك الساحرة الصامتة! لا تخطّ حروفًا، لكنها تخلعُ ثوب الصمت عن الروح. كلّ لونٍ فيها فعلٌ يُغني عن كلامٍ يذروه الهواء. أليست الحياةُ قصيدةً مرسومةً بضربات الفعل، لا بمداد الكلام؟ إنها تشقّ طريقها على جدران الواقع الباهت، وتمنح الحلم لونًا... والواقع شكلاً أكثر احتمالاً. 

اكتب قصيدتك بالحركة لا بالحبر. دع خطواتك تُكمل المعنى، ودع أفعالك تصوغ بيت الشعر الأخير. فالكلام الأعظم ليس ما يُقال، بل ما يُعاش. ما يُكتَب بقدمين تمشيان نحو الضوء، ويدين تبنيان رغم التعب، وقلبٍ لا يُجيد سوى المحاولة. 

لتكن قصيدتك إشارةً في ظلام، لا كلامًا يُردَّد في الظلام!

جهاد غريب
أبريل 2025

الخميس، 10 أبريل 2025

قصيدة تمشي على الأرض!

 

قصيدة تمشي على الأرض!

ماذا لو كانت الحياة قصيدةً لا تُقرأ.. بل تُحيا؟! ليست كل الأبيات تُكتب بالحبر، ثمة أقدام تنسجها على رصيف الزمن، وخطواتٌ تهمس بقوافٍ لا يسمعها إلا من أصغى بقلبه قبل أذنيه.. كقصيدةٍ وُلدت من ضجيج الشوارع، لا من صمت الأوراق! 

 بعض الخطوات تُغنّي قبل أن تصل، كأنها نوتاتٌ تسبق اللحن.. وأحيانًا.. تكون أقصر القصائد مجرد نظرة، أو ظلّين يلتقيان تحت شمسٍ واحدة! 

 ثمة جُمل لا تُقال، بل تُخاط على أيامنا بإبرةِ الوقت.. تُنطقها طريقةُ العناق، ودفءُ الحضور، وصمتٌ يفهمه من كان ينتظر كلمةً، فجاءه الفعلُ كرسالةٍ مكتوبة بمداد القلب!، لذا.. فأجمل الكلام ليس ما كُتِبَ بالحروف، بل ما كُتِبَ بالحياة. 

 الكلمات تموت إن لم تمشِ.. تصير مثل أوراق الخريف: عباراتٌ لا ظلَّ لها في الواقع، تطويها رياح النسيان، وحدها الكلمات التي تمشي.. هي التي تُزهر في الذاكرة كشجرٍ دائم الخُضرة! 

 حين تتحول النوايا إلى خطواتٍ ملموسة، يصير الصدقُ قصيدةً جديدة.. لا تحتاج إلى وزنٍ ولا قافية، بل فقط إلى قلبٍ يعرف طريقَها! 

 النوايا تُفهَم.. لكنّ الفعلَ يُحسّ.. لا يحتاج إلى ترجمة، يكفي أن يحدثَ.. ليقول كلَّ شيء! 

 لن ترسمني كلماتٌ عابرة.. بل سأكون لوحتك التي خطّتها أقدامك يومًا بعد يوم.. ظلُّك حين تشتدُّ الشمس، وصمتُك حين يملأ الكونَ الضجيج.. 

 هكذا.. حين تصمتُ الشفاه، تتكلّم الأقدام، وحين تتوقّف الحروف.. تبدأ الروحُ في الكتابة!

جهاد غريب

أبريل 2025

العصف الصامت!

 

العصف الصامت!

 

دوائرُ الضوء تبدأ بقلم... قلمٌ يخترقُ السكونَ مثلَ ومضةٍ في ليلٍ طويل، لا يكتبُ حروفًا بل يشعلُ شظايا من وعيٍ جديد.

 قلمٌ واحدٌ، إذا كتبَ بصدقٍ، يمكنُه أن يبددَ ظلامًا طالَ أمده؛ حيثُ الكلماتُ ليست حبرًا على ورق، بل شراراتٌ تُنبتُ دوائرَ نورٍ، تبدأ من نقطةٍ... ثم تتسعُ حتى تملأَ الأفق. 

 القلمُ الذي يكتبُ الحقيقةَ حينَ يُخشى قولُها، ليسَ أداةً عابرةً، بل لسانٌ جديدٌ ينبضُ بالجرأة، فالجرأةُ لا تسكنُ الحناجرَ، بل تعيشُ في النوايا التي ترفضُ السكوت.

 كم من قلمٍ نَامَ في أدراجِ الخوفِ، وكم من فكرةٍ تحوّلتْ إلى غبارٍ لأنّ أحدًا لم يمدَّ يدَه ليقتلعَها من هواءِ التردد! 

 لكنّ القلمَ وحدهُ لا يكفي... لا بدَّ أن ينبضَ التغييرُ في قلبٍ يؤمنُ به قبلَ أن ينطقَ به اللسان، فالتغييرُ ليسَ دائمًا صراخًا، أحيانًا يكونُ صمتًا يشعُّ نورًا.

 وفي كلِّ لحظةٍ، هناكَ مَنْ ينتظرُ مَنْ يرفعُهُ، أو مَنْ يخلعُ عنهُ رداءَ التمنّي ويلبسُهُ جسدَ الفعل. 

 بعضُ الحروفِ كالصواعق... تُلقى في مستنقعِ السكون، فتضيءُ الوحلَ وتُنبتُ أزهارًا.

 وما أجملَ أن يُلقى الحرفُ كشرارةٍ تلامسُ الماءَ الراكدَ، فترسمُ حولَهُ دوائرَ لا تنتهي... دوائرَ تصلُ إلى الشاطئِ البعيد، حيثُ يقفُ الآخرونَ في انتظارِ الأثر. 

 وكأنّ الحقيقةَ تحتاجُ إلى نبضةٍ... تُلقى في بحيرةِ الظلمِ، فتنبتُ حولَها دوائرُ الوعيِ والدهشة! قد لا تُرى فورًا، لكنّها تُحسُّ... وتبقى.

 إنّها كلمةٌ تُقالُ في وقتِها، فتُوقظُ الساكنَ، وتُحرّكُ الراكدَ، وكأنّما الكونُ كلُّهُ كانَ ينتظرُها لِيَتنفّسَ. 

 أحيانًا، لا يحتاجُ الحقُّ إلى صراخٍ... يكفي أن تقفَ في وجهِ الخوفِ بصمتِكَ الواثقِ، وبجرأةٍ تُنطقُ بلا صوتٍ، فتقولَ كلَّ شيء، فالصمتُ حينَ يكونُ موقفًا، يكونُ أعلى صوتٍ في العالم. 

 فقط... لا تكنْ شاهدًا صامتًا. اتركْ أثرًا. حتى لو كانَ الأثرُ ذبذبةً في الهواءِ... فتذكّرْ أنَّ الأعاصيرَ تبدأُ بنسمة. 

 جهاد غريب

أبريل 2025

الثلاثاء، 8 أبريل 2025

حين يثور الشلال: رسالة إلى القلب الحائر!

 

حين يثور الشلال: رسالة إلى القلب الحائر!

 

لا تظنّ أنَّ الشلالَ - ذلك المُتجدِّدُ بأعجوبةِ الخلق - لا يعرفُ الغضبَ!، إنَّ الماءَ الذي يهبطُ مِن علوٍّ كأنه دعاءُ السماءِ للأرض، قد يتحوّلُ - حين يُلامسُ جشعَ الوحوش - إلى طوفانٍ يبتلعُ السكينةَ!

 

تأمّلْ: مفترسانِ يتصارعانِ عند حافّتِه، ويُحوِّلانِ بركةَ الحياةِ إلى ساحةِ انتقامٍ.. حيث يُذَرِّي الغبارُ على وجهِ الماءِ، وتُخْنَقُ أنفاسُ النقاءِ بين أنيابِهِما.

 

الشلالُ لا يصرخُ إلا حينَ نُصمّ آذاننا عن دروسِ التدفّقِ.. "توقّفوا عن الصراعِ عندَ قدميّ فأنا أعرفُ كيفَ أحملُ الألمَ دونَ أن أفقدَ نقائي!"

 

لكنّ الحقيقةَ التي تعلو كالجبال: الخالقُ وزّعَ الأرزاقَ بتوازنٍ، لكنَّ قلوبَ العاشقينَ هي القنواتُ السرّيةُ التي تَجري فيها البركاتُ.. دعوةٌ صادقةٌ من أمٍّ، أو نظرةُ حبٍّ من صديقٍ، أو همسةُ شكرٍ من معلمٍ.. تفتحُ أبوابًا لم تكنْ في حسابِ الرياحِ!

 

أتعلمُ سرَّ الرزقِ الغامضِ؟ إنّهُ يكمن في بركة الأحبة، ويمرُّ عبرَ قلوبٍ أحببتنا دونَ أن نَدري.. كلُّ دعوةٍ خلفَ بابٍ مغلقٍ هي مفتاحُ كنزٍ لم نرَهُ بعدُ!

 

أغمضْ عينيكَ عن بحورِ الآخرينَ، ولا تُحصِ قطرات غيرك!، وافتحْ كفّيكَ لقطراتكَ الذهبيةِ.. فالحياةُ تُسكبُ في أيادينا بقدرِ ما نستطيعُ حملَهُ

لا بقدرِ ما يتمنّاهُ قلبُنا الجائعُ!، ولا تُضِعْ عمرَكَ تُحصي قطراتِ غيرِك، ولا تَغرقْ في صراعاتٍ تُعكّرُ صفوَ تدفُّقِك.

 

الحياةُ - مثلَ الشلال - يُغنيكَ بجمالِ ما تُعطيهِ، لا بما يُسرقهُ الآخرونَ من ضفافِ نبعه!، الشلالُ يهمسُ: "كنْ كالماءِ.. إنْ صافحتَ الصخرَ اهتززتَ لكنّكَ لا تنكسرُ، وإنْ صادفتَ ظلمًا.. اجعلْ غضبَكَ زخاتِ مطرٍ، لا طوفانًا يمحو الجمالَ!".

 

لماذا تبحثُ عن بساتينَ بعيدةٍ وحديقتكَ ممتلئةٌ بأشجارٍ لم تثمرْ بعدُ؟ أغلقْ عينيكَ عن حصادِ الآخرينَ، واسقِ بذورَكَ.. فكلُّ فرصةٍ بينَ يديكَ هي شجرةٌ تختبئُ في بذرةٍ!

 

اخترْ أن تكونَ كالنهرِ الذي يمرُّ بهدوءٍ ويُروي ظمأَ الأرضِ دونَ صخبٍ، ويَحملُ أسرارَ السماءِ دونَ تشويشٍ، ويصلُ إلى المحيطِ.. كأنما الأمواجُ تُصفّقُ لوصوله!

 

ليسَ الجمالُ في الصخبِ، بل في أن تتدفّقَ كالنهرِ الذي يُنحي الصخورَ بصمتٍ، ويصلُ إلى البحرِ وهوَ يُسبّح بحمد الخالق!، لكن احذر.. فحتى الماء الهادئ قد يحفر الجبال لو صبر وقتاً كافياً!

 

الماء الذي صار طوفانًا: كنتَ نبعًا صافيًا حتى علّمتكَ الحروبُ أنَّ الوداعةَ ليستْ ضعفًا.. بل اختيارٌ أن تظلَّ ماءً في عالمٍ يصرخُ: "اصبحْ نارًا!".

 

إذا أردتَ أن تعيشَ: أَغمِضْ عينيكَ عن زبدِ الصراعاتِ، وافتحهُما على كنوزِك الخفيّةِ، ستجدُ أنَّ السعادةَ - كقطرةِ الندى على زهرةٍ - تتجمّعُ من صغائرِ اللحظاتِ التي لا نُدركُ قيمتَها.. حتى تصيرَ بحرًا يُغرقُ كلَّ حسدٍ!

 

وفي النهاية.. تذكّر أن الشلال حين يثور لا يغرق أحداً سوى الذين ظنوا أنهم يمتلكون ضفافه!

 

جهاد غريب

أبريل 2025

الاثنين، 7 أبريل 2025

هكذا تخلّقتُ من كسراتي!

 

هكذا تخلّقتُ من كسراتي!

لم أكنْ أعرفُ أنَّ الكسرَ قد يكونُ بذرةً لِما هو أقوى.. حتى صرتُ الفارسَ الذي يُمسكُ بزمام جراحه، ويحوّلها إلى دروعٍ لا تُثقَب!

 

في غمارِ الحياةِ ذاتِ الصعابِ التي لا تُحتمل، لم يكن لي نَصيرٌ ولا سَندٌ يحميني، حاربتُ وحدي.. درعًا أخيرًا لِما تبقّى مِنّي.

 

تكسرتْ أضلاعي، لكنّ الروحَ.. أبَتْ أن تنحني. فانتصَرَتْ.. جلستُ ألتقطُ أنفاسي الواهنة، أحاولُ فَهمَ الزلزالِ الذي مرَرتُ به، فإذا بساحةِ المعركةِ.. تُمطرُ فجأةً بأشباحِ الأمس، بِـ مَنْ ظننتُهم حصونًا لي.. يا للخذلانِ! لم يأتوا لإنقاذي، بل كانوا أشياعَ الظلامِ، رفاقَ الدّجى والنفاقِ.

 

تلك الوجوهُ التي غسلتُها بضوءِ ثقتي، كشفتْ اليومَ عن أفاعيها.. عن عيونٍ تُقطّرُ سُمّ الخيانة، وحين اشتعلت النيرانُ حولي، لم أبحثُ عن ماءٍ في جفونهم.. فهم - بابتساماتهم - كانوا الريحَ التي زادت اللهيبَ احتراقًا! تركتُهم ورائي.. أشباحًا تُراوح مكانها، وأمضيتُ.

 

كنتُ أظنُّ أنَّ الخذلانَ سيُنهيني.. حتى رأيتُ ظلّي - كلما تراجعتُ - يتقدّمُ بدالي! ففهمتُ أنَّ الهزيمةَ وهمٌ.. وأنَّ انتصاري كان دائمًا مخبوءًا في خطواتي.

 

لم تكن السهولُ التي مشيتُ عليها مُفْرشَةً بالورود.. كانت شظايا، ودمي سِجادتها. لكنّ روحي - كلما انحنى جسدي - كانت ترفضُ السقوطَ.. فتُولدُ من رمادها انتصارًا جديدًا!، انتصار الروح التي لم تنكسر.

 

تذكّرتُ كلَّ ابتسامةٍ زائفةٍ، كلَّ كلمةٍ حملتْ مِسْمارَ غدرٍ، كلَّ ثقةٍ دفنتُها في رمالِهم المتحركة.. فانقلبتْ عليَّ قبورًا!، في تلك اللحظةِ.. أدركتُ أنني كنتُ جيشًا لوحدي، قلعةً منيعَةً في وجهِ العالمِ الجائر، صامدًا كالجبالِ.. منتصرًا كالنسورِ!

 

لكنْ في هذا اليقينِ.. وُلِدَتْ قوةٌ جديدةٌ في قلبي، تألّقَ إيماني بنفسي، بِسيفي الذي صقلتهُ التجاربُ.. أدركتُ أنني لا أحتاجُ إلى ظهيرٍ ولا سندٍ.. فأنا الإعصارُ الذي لا يُقهَر!، ووسط العاصفة، لم أعدُ أسمعُ إلا صوتَ قلبي يهتف: "أنت الباقي"

 

اليومَ.. شعرتُ بالحريةِ تُعانقُ روحي، بالانتصارِ يُكلّلُ جبيني، بأني.. أنا! بكلِّ ما فيَّ من بأسٍ.. وإرادةٍ تُزهرُ بين ضلوعي كالسنابل!

 

لم أعدْ أصرخُ طلبًا للنجدة.. صمتِي صار سلاحًا، ووحدتي صارت حصني. تعلّمتُ أنَّ القوةَ لا تُستعارُ من أحدٍ.. إنما تُصنعُ من حدِّ اليقين في النفس!

جهاد غريب

أبريل 2025

الأحد، 6 أبريل 2025

حين تنطق الأصابع وتبكي الحروف!

 

حين تنطق الأصابع وتبكي الحروف!

عندما يعجز اللسان، لا يصمت الشعور... بل يبحث عن مخرج!، وحين تتلعثم الكلمات في الحنجرة، تُخرِج الأصابع ما اختنق في القلب!، تكتب لا لتشرح، بل لتبكي!، لتصرخ في صمت، وتهمس في ضجيج العالم: "أنا موجوع... فهل من سامع؟"

ما الذي يجعل الإنسان يهرب إلى الورق؟ هل لأن الورق لا يقاطع؟ أم لأنه لا يحكم؟ أم لأنه وحده يحتمل كل الوجع دون أن يُنهك؟ كم مرة كتبت رسالة ولم ترسلها؟ وكم مرة تركت دموعك تنزف على لوحة المفاتيح، لأنك لم تجد من تبوح له؟ وهل تعرف أن بعض الحروف يُكتبها القلب مباشرة، دون إذن من العقل؟

بعض النقاط ليست نهاية جُمل… بل ثقوبًا صغيرة في القلب تتسرّب منها الذكريات، حتى تصل إلى محطات البكاء… وبعض الفواصل ليست لفصل المعاني... بل محاولات يائسة لالتقاط أنفاس نجت من الغرق بأعجوبة، وكأنها تستعير لحظة حياة، فتتشبث بها، قبل أن تنهار من جديد، وقبل أن تعود لتختنق بصمت داخل الصدر.

نكتب لأننا نحتاج أن نعيش من جديد… نكتب لنربّت على أنفسنا عندما لا نجد يدًا حانية!، نكتب لأننا نؤمن أن الشعور حين يُحبس، يموت… وأن الحرف حين يُولد من رحم الألم، يصبح صادقًا حدّ الخلود، لذا، لا تستهِن بما تُسطّره يدٌ مرتجفة… ربما كانت تلك الكلمات آخر محاولة للبقاء.
وفي نهاية كل سطر مكتوب بالحنين…تبقى دمعة معلّقة على حافة القلب، كأنها تنتظر من يقرأ كي تسقط.

جهاد غريب
أبريل 2025

الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف!

  الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف!  في زوايا الروحِ حيثُ ينسابُ الضوءُ خافتًا، تُولدُ الصحوةُ، كأنّما كنتَ نائمًا في قفصِ ا...