جراح الملح: قصيدة الثورة والقمح!
(1)
أكتبُ كمن يحفرُ في جمرِ الذكريات،
بقلمٍ من ضباب...
حروفٌ تتهاوى كشموسٍ غاربة،
على ضفافِ الورق.
كأواصرَ ممزقةٍ،
في خرائطَ لم تُقرأ بعد...
كعاشقٍ يخطُّ رسائله على جلدِ الريح،
ويختمها بدمعٍ من فضةٍ وحرير.
ها أنا ذا - الذي أحرقَ الوهمَ!
بشمعةِ يقينٍ،
فأغلقتُ أبوابَ مملكتي بالشموعِ لتضيءَ،
لا لتحترق!
لكي لا يضيعَ الحلمُ بين طيّاتِ الظلام،
ولكي تبقى كلماتي مصابيحَ للغرباءِ الذين
يقرأون قصتي على جدرانِ الزمن البالي.
يا ابنَ الشمسِ الساجدةِ على أعتابِ الفجر...
يا عروسَ الموتِ التي تلبسُ ثوبَ القبورِ وتُزهِر!
أبكي...
لعلّ دموعي تُنبتُ غابةً!
من نخيلٍ في صحراءِ القلوبِ القاحلة،
نخيلاً تَسْقُطُ ثمارُها دمعاً على رُفاتِ الأجيال،
وتصبحُ ظلالُها ملجأً للعابرينَ من أبناءِ القحط،
ممن حملوا أوطانهم على الأكتافِ
وتركوا أحلامهم عند حدودِ الغروب.
أبكي من ذرى الجبالِ حيثُ تُعلّمُ الصخورُ الصمتَ،
إلى سهولِ الوادي حيثُ تعزفُ الأنهارُ أغاني الخلود،
حيثُ تروي الأرضُ حكاياتِ الأجدادِ...
للأحفادِ الذين لم يعودوا يفهمون لغةَ التراب.
(2)
يا وطني.. أكتبُك وأكتبني
أكتبُ كمن ينقشُ على جدرانِ السجونِ بأظافرِه...
حروفٌ تنزفُ كقمحٍ يسقطُ تحتَ سنابلِ المدافعِ.
ها أنا ذا - الذي رأى شمسَ الحريةِ!
تُباعُ في سوقِ المؤامرة الدولي،
فأشعلتُ شموعَ المقاومةِ من شحومِ ظلمِكم!
أسألكَ...
يا عالمَ الظلمِ المُزيّفَ بِعطورِ المنظماتِ:
أهكذا تبنونَ "النظام العالمي الجديد"؟
على جماجمِ الأطفالِ في غزةَ؟
وعلى أنقاضِ المدارسِ في صنعاءَ؟
وبدموعِ الأمهاتِ في حلبَ؟
يا من جعلتَ رغيفَ جوعي..
مائدةً لعُملائكَ الذينَ يرقصونَ على أنغامِ الدولارِ،
ويلعقونَ صحونَ الاستعمارِ بألسنةٍ مِنْ لهب!
يقتسمونَ خبزَنا..
بينما نحنُ نقتسمُ الموتَ في طوابيرِ المساعداتِ!
ويشربونَ نبيذَهم الفاخرَ..
بينما نحنُ نشربُ الماءَ الملوثَ باليورانيومِ!
لكنّكَ يا وطني..
يا وردةَ المقاومةِ التي تتفتحُ بين الحواجزِ،
تعلمُ أنَّ كلَّ شبرٍ يُسرقُ منكَ..
سيعودُ ذاتَ يومٍ..
مُحمّلاً برائحةِ الدمِ والكرامةِ!
(3)
وطني يا وطني..
ها أنا اليومَ:
أبكيكَ يا أجملَ الجيادِ التي ركضتْ نحوَ الهاويةِ بفرحٍ!
كأنّما تدركُ أنَّ الحريةَ تُولدُ من رحمِ السقوطِ.
أبكيكَ يا قلبي.. يا وطنَ الأسى،
يا من حوّلتَ دمعي إلى نهرٍ يروي ظمأَ التاريخ.
يا من صاغَ من دمي قوسَ قزحٍ يعلو فوقَ سحابةِ الأمِّ الحزينة،
يا من جعلتَ عظامي سُلّماً للحُلماءِ،
لكنّك نسيتَ أنَّ كلَّ سلمٍ يُصعدُ إلى السماءِ
سيُداسُ عليهِ ذاتَ يومٍ بأقدامِ العابرين!
أسألكَ.. يا عالمَ الظلمِ المُقنَّعِ بِحريرِ الدبلوماسية،
يا من حوَّلتَ دمَ شهدائنا...
وقوداً لقطاراتِ المستعمرينَ،
يُشعلونَ بهِ أفرانَ مصانعِهم،
ونحترقُ نحنُ في صقيعِ الجوعِ!
يقتسمونَ خبزَنا على موائدَ مِنْ عظامِ الشهداءِ،
يأكلونَ بالشوكِ الذهبيةِ،
ونحنُ نلتقطُ الفتاتَ بأظافرِ الجوعِ.
ويشربونَ في كؤوسِ الكريستالِ دمعَ الأراملِ،
ونحنُ نرشفُ الموتَ من كؤوسٍ مِنْ طين!
أما الأوثانُ التي تلبسُ ربطةَ عنقٍ،
فتحملُ أسماءً كُتبتْ بحروفٍ مِنْ دمٍ،
وتحرسُها كلابُ الحربِ البوليسيةِ
في أقفاصٍ مِنْ صمتِ العدالة!
أما الجرادُ الذي يحسبُ نفسَهُ ملائكةً،
فقد باعَ ضميرَ الوطنِ بمزادِ الأممِ المتحدةِ،
ونسيَ أنَّ جناحيهِ مِنْ شمعِ دموعِ الأبرياءِ.
سيذوبُ حينَ تشرقُ شمسُ الثورةِ!
فلا نامتْ أعينُ الخائنين،
ولا سكنتْ جفونُ الغدرِ،
ولا طابتْ لهم أرضٌ داسوا فيها ظِلّ أرواحِنا،
ولا بردَتْ أنفاسُ الموتى في صدورِنا،
حتى نكتبَ أسماءَهم على جدرانِ الخلود.
نمضي،
بذاكرةٍ تمشي على جمرِ التجربة،
لكننا لا نميل،
ولا نستسلمُ للعاصفة،
لأننا ببساطةٍ،
أبناءُ الحلمِ الذي لا يموت.
يا وطني الصامد..
يا وردةَ الصباحِ التي تتحدى شفراتِ الاحتلال،
مازلتَ تزرعُ الأملَ في عيونِ الأطفالِ،
فهم وحدهم يرسمونكَ بألوانٍ
لا يعرفها "مجلسُ الأمن" ولا "محكمةُ العدل"!
يا وطني الثائر..
يا من جعلتَ مِنْ رمادِ أحزاني
حديقةً تزهرُ كلَّ ربيعٍ،
علمتني أنَّ الزهرَ ينبتُ حتى بينَ شقوقِ السجونِ،
وأنَّ الوردةَ التي تسقطُ على سيفِ الظلمِ
ستظلُّ تُنبتُ شوكاً يحمي جمالَها..
شوكاً سيُدمي أيادِيَ الظالمينَ ذاتَ يومٍ!
(4)
لستُ سوى زهرةِ دكناءَ نبتتْ بين طياتِ الورقِ القديم..
زعموا أنني الإعصارُ فآمنتُ،
وكنتُ مجردَ فراشةٍ تُنزفُ ألوانَها على مذبحِ الكلمات...
فراشةٍ تعلّمت أن الموتَ على ورقةِ قصيدةٍ
أجملُ من الحياةِ في قفصِ الأيامِ الرمادية.
لم يعدْ في صدري متّسعٌ للحقدِ،
فكلُّ المجدِ للرحيلِ،
وكلُّ الذاكرةِ دمٌ يسيلُ
من جروحِ العائدينَ من منافي الخيبة...
دماءُ العائدينَ تروي أساطيرَ لم تُكتَبْ بعد،
وتُنبِتُ في صحاري العالمينَ زهوراً من حنين،
زهوراً تعرفُ أن الجذورَ لا تموت،
وأنّ الأشجارَ التي قطّعوها
ستظلُّ تورقُ في قلوبِ الذين لم ينسوا.
في أعماقي...
حيثُ ينسجُ المستقبلُ خيوطَهُ من سكينٍ،
وحيثُ الليالي السودُ
تمضغُ ما تبقّى من إنسانيتي،
وحيثُ الصباحُ يأتي حاملاً جرائدَ الموتِ،
وعلى صدره شارةُ الأملِ المزيفة...
أصبحتُ كالتفاحةِ المحرّمةِ
التي يقضمها الوجودُ كلَّ ليلة،
وأغني كتمرِ الجراحِ
الذي يُحلى بمرارةِ الفراق،
لأنني تعلمتُ أن الأغنيةَ الحزينةَ
هي الوحيدةُ التي تستطيعُ عبورَ الجدران،
والوصولَ إلى قلوبِ الذين يشبهوني.
اقرأْ يا عينُ التاريخِ المُدمنةَ على دمعِ الزمن!
هذه خرائطي الضائعةُ بينَ يديّ العاصفة،
وهذه هويتي:
ورقةُ شجرٍ تساقطتْ قبلَ الخريف...
ورقةٌ كتبتُ عليها كلَّ الحكاياتِ،
ثم رميتها في نهرِ النسيان...
لكنها ظلّتْ تطفو على السطح،
كأنّ الماءَ يرفضُ أن يبتلعَ حروفي!
عندما تذلُّ منصاتُ العالمِ كبرياءَها،
تتضحُ فاكهةُ القلبِ الحقيقية:
ليستْ تفاحةَ موتٍ،
بل بذرةَ حياةٍ تُزرعُ في جوفِ الظلام...
بذرةٌ تعرفُ
أنَّ النورَ لا يأتي من فوق،
بل من الأعماق ـ
من حيثُ لا يجرؤ أحدٌ على النزول!
لكنّي...
ما زلتُ هنا
أحملُ ابتسامةً كشمسِ نوفمبرَ الدافئة،
أحملُ ذكراكَ يا وطني...
كالعنوانِ في رسالةٍ لم تُرسل!
رسالةٌ لو قرأها أحدٌ
لأدركَ أن الحبَّ هو اللغةُ الوحيدة
التي يفهمها كلُّ المنفيين.
أقفُ بينَ أنقاضِ الذاكرةِ المجهدةِ،
أقبّلُ جبينَ الحقيقةِ في عتمةِ الليالي،
وأعلّقُ حولَ عنقِ الزمنِ...
قلائدَ من نجومٍ ماتتْ،
لكنّ وهجَها بقيَ كبوصلةٍ
تدلُّ التائهينَ على أننا...
كنّا هنا يومًا.
ونبتنا من دمعِ الأرضِ،
وسنظلُّ كشمعةٍ لا تنطفئُ،
حتى لو تحوّلَ كلُّ الرمادِ إلى قبرٍ...
لأنّ النورَ الذي في داخلنا
أقوى من كلِّ قبورِ العالمينَ!
جهاد غريب
أبريل 2025