الثلاثاء، 8 أبريل 2025

حين يثور الشلال: رسالة إلى القلب الحائر!

 

حين يثور الشلال: رسالة إلى القلب الحائر!

 

لا تظنّ أنَّ الشلالَ - ذلك المُتجدِّدُ بأعجوبةِ الخلق - لا يعرفُ الغضبَ!، إنَّ الماءَ الذي يهبطُ مِن علوٍّ كأنه دعاءُ السماءِ للأرض، قد يتحوّلُ - حين يُلامسُ جشعَ الوحوش - إلى طوفانٍ يبتلعُ السكينةَ!

 

تأمّلْ: مفترسانِ يتصارعانِ عند حافّتِه، ويُحوِّلانِ بركةَ الحياةِ إلى ساحةِ انتقامٍ.. حيث يُذَرِّي الغبارُ على وجهِ الماءِ، وتُخْنَقُ أنفاسُ النقاءِ بين أنيابِهِما.

 

الشلالُ لا يصرخُ إلا حينَ نُصمّ آذاننا عن دروسِ التدفّقِ.. "توقّفوا عن الصراعِ عندَ قدميّ فأنا أعرفُ كيفَ أحملُ الألمَ دونَ أن أفقدَ نقائي!"

 

لكنّ الحقيقةَ التي تعلو كالجبال: الخالقُ وزّعَ الأرزاقَ بتوازنٍ، لكنَّ قلوبَ العاشقينَ هي القنواتُ السرّيةُ التي تَجري فيها البركاتُ.. دعوةٌ صادقةٌ من أمٍّ، أو نظرةُ حبٍّ من صديقٍ، أو همسةُ شكرٍ من معلمٍ.. تفتحُ أبوابًا لم تكنْ في حسابِ الرياحِ!

 

أتعلمُ سرَّ الرزقِ الغامضِ؟ إنّهُ يكمن في بركة الأحبة، ويمرُّ عبرَ قلوبٍ أحببتنا دونَ أن نَدري.. كلُّ دعوةٍ خلفَ بابٍ مغلقٍ هي مفتاحُ كنزٍ لم نرَهُ بعدُ!

 

أغمضْ عينيكَ عن بحورِ الآخرينَ، ولا تُحصِ قطرات غيرك!، وافتحْ كفّيكَ لقطراتكَ الذهبيةِ.. فالحياةُ تُسكبُ في أيادينا بقدرِ ما نستطيعُ حملَهُ

لا بقدرِ ما يتمنّاهُ قلبُنا الجائعُ!، ولا تُضِعْ عمرَكَ تُحصي قطراتِ غيرِك، ولا تَغرقْ في صراعاتٍ تُعكّرُ صفوَ تدفُّقِك.

 

الحياةُ - مثلَ الشلال - يُغنيكَ بجمالِ ما تُعطيهِ، لا بما يُسرقهُ الآخرونَ من ضفافِ نبعه!، الشلالُ يهمسُ: "كنْ كالماءِ.. إنْ صافحتَ الصخرَ اهتززتَ لكنّكَ لا تنكسرُ، وإنْ صادفتَ ظلمًا.. اجعلْ غضبَكَ زخاتِ مطرٍ، لا طوفانًا يمحو الجمالَ!".

 

لماذا تبحثُ عن بساتينَ بعيدةٍ وحديقتكَ ممتلئةٌ بأشجارٍ لم تثمرْ بعدُ؟ أغلقْ عينيكَ عن حصادِ الآخرينَ، واسقِ بذورَكَ.. فكلُّ فرصةٍ بينَ يديكَ هي شجرةٌ تختبئُ في بذرةٍ!

 

اخترْ أن تكونَ كالنهرِ الذي يمرُّ بهدوءٍ ويُروي ظمأَ الأرضِ دونَ صخبٍ، ويَحملُ أسرارَ السماءِ دونَ تشويشٍ، ويصلُ إلى المحيطِ.. كأنما الأمواجُ تُصفّقُ لوصوله!

 

ليسَ الجمالُ في الصخبِ، بل في أن تتدفّقَ كالنهرِ الذي يُنحي الصخورَ بصمتٍ، ويصلُ إلى البحرِ وهوَ يُسبّح بحمد الخالق!، لكن احذر.. فحتى الماء الهادئ قد يحفر الجبال لو صبر وقتاً كافياً!

 

الماء الذي صار طوفانًا: كنتَ نبعًا صافيًا حتى علّمتكَ الحروبُ أنَّ الوداعةَ ليستْ ضعفًا.. بل اختيارٌ أن تظلَّ ماءً في عالمٍ يصرخُ: "اصبحْ نارًا!".

 

إذا أردتَ أن تعيشَ: أَغمِضْ عينيكَ عن زبدِ الصراعاتِ، وافتحهُما على كنوزِك الخفيّةِ، ستجدُ أنَّ السعادةَ - كقطرةِ الندى على زهرةٍ - تتجمّعُ من صغائرِ اللحظاتِ التي لا نُدركُ قيمتَها.. حتى تصيرَ بحرًا يُغرقُ كلَّ حسدٍ!

 

وفي النهاية.. تذكّر أن الشلال حين يثور لا يغرق أحداً سوى الذين ظنوا أنهم يمتلكون ضفافه!

 

جهاد غريب

أبريل 2025

الاثنين، 7 أبريل 2025

هكذا تخلّقتُ من كسراتي!

 

هكذا تخلّقتُ من كسراتي!

لم أكنْ أعرفُ أنَّ الكسرَ قد يكونُ بذرةً لِما هو أقوى.. حتى صرتُ الفارسَ الذي يُمسكُ بزمام جراحه، ويحوّلها إلى دروعٍ لا تُثقَب!

 

في غمارِ الحياةِ ذاتِ الصعابِ التي لا تُحتمل، لم يكن لي نَصيرٌ ولا سَندٌ يحميني، حاربتُ وحدي.. درعًا أخيرًا لِما تبقّى مِنّي.

 

تكسرتْ أضلاعي، لكنّ الروحَ.. أبَتْ أن تنحني. فانتصَرَتْ.. جلستُ ألتقطُ أنفاسي الواهنة، أحاولُ فَهمَ الزلزالِ الذي مرَرتُ به، فإذا بساحةِ المعركةِ.. تُمطرُ فجأةً بأشباحِ الأمس، بِـ مَنْ ظننتُهم حصونًا لي.. يا للخذلانِ! لم يأتوا لإنقاذي، بل كانوا أشياعَ الظلامِ، رفاقَ الدّجى والنفاقِ.

 

تلك الوجوهُ التي غسلتُها بضوءِ ثقتي، كشفتْ اليومَ عن أفاعيها.. عن عيونٍ تُقطّرُ سُمّ الخيانة، وحين اشتعلت النيرانُ حولي، لم أبحثُ عن ماءٍ في جفونهم.. فهم - بابتساماتهم - كانوا الريحَ التي زادت اللهيبَ احتراقًا! تركتُهم ورائي.. أشباحًا تُراوح مكانها، وأمضيتُ.

 

كنتُ أظنُّ أنَّ الخذلانَ سيُنهيني.. حتى رأيتُ ظلّي - كلما تراجعتُ - يتقدّمُ بدالي! ففهمتُ أنَّ الهزيمةَ وهمٌ.. وأنَّ انتصاري كان دائمًا مخبوءًا في خطواتي.

 

لم تكن السهولُ التي مشيتُ عليها مُفْرشَةً بالورود.. كانت شظايا، ودمي سِجادتها. لكنّ روحي - كلما انحنى جسدي - كانت ترفضُ السقوطَ.. فتُولدُ من رمادها انتصارًا جديدًا!، انتصار الروح التي لم تنكسر.

 

تذكّرتُ كلَّ ابتسامةٍ زائفةٍ، كلَّ كلمةٍ حملتْ مِسْمارَ غدرٍ، كلَّ ثقةٍ دفنتُها في رمالِهم المتحركة.. فانقلبتْ عليَّ قبورًا!، في تلك اللحظةِ.. أدركتُ أنني كنتُ جيشًا لوحدي، قلعةً منيعَةً في وجهِ العالمِ الجائر، صامدًا كالجبالِ.. منتصرًا كالنسورِ!

 

لكنْ في هذا اليقينِ.. وُلِدَتْ قوةٌ جديدةٌ في قلبي، تألّقَ إيماني بنفسي، بِسيفي الذي صقلتهُ التجاربُ.. أدركتُ أنني لا أحتاجُ إلى ظهيرٍ ولا سندٍ.. فأنا الإعصارُ الذي لا يُقهَر!، ووسط العاصفة، لم أعدُ أسمعُ إلا صوتَ قلبي يهتف: "أنت الباقي"

 

اليومَ.. شعرتُ بالحريةِ تُعانقُ روحي، بالانتصارِ يُكلّلُ جبيني، بأني.. أنا! بكلِّ ما فيَّ من بأسٍ.. وإرادةٍ تُزهرُ بين ضلوعي كالسنابل!

 

لم أعدْ أصرخُ طلبًا للنجدة.. صمتِي صار سلاحًا، ووحدتي صارت حصني. تعلّمتُ أنَّ القوةَ لا تُستعارُ من أحدٍ.. إنما تُصنعُ من حدِّ اليقين في النفس!

جهاد غريب

أبريل 2025

الأحد، 6 أبريل 2025

حين تنطق الأصابع وتبكي الحروف!

 

حين تنطق الأصابع وتبكي الحروف!

عندما يعجز اللسان، لا يصمت الشعور... بل يبحث عن مخرج!، وحين تتلعثم الكلمات في الحنجرة، تُخرِج الأصابع ما اختنق في القلب!، تكتب لا لتشرح، بل لتبكي!، لتصرخ في صمت، وتهمس في ضجيج العالم: "أنا موجوع... فهل من سامع؟"

ما الذي يجعل الإنسان يهرب إلى الورق؟ هل لأن الورق لا يقاطع؟ أم لأنه لا يحكم؟ أم لأنه وحده يحتمل كل الوجع دون أن يُنهك؟ كم مرة كتبت رسالة ولم ترسلها؟ وكم مرة تركت دموعك تنزف على لوحة المفاتيح، لأنك لم تجد من تبوح له؟ وهل تعرف أن بعض الحروف يُكتبها القلب مباشرة، دون إذن من العقل؟

بعض النقاط ليست نهاية جُمل… بل ثقوبًا صغيرة في القلب تتسرّب منها الذكريات، حتى تصل إلى محطات البكاء… وبعض الفواصل ليست لفصل المعاني... بل محاولات يائسة لالتقاط أنفاس نجت من الغرق بأعجوبة، وكأنها تستعير لحظة حياة، فتتشبث بها، قبل أن تنهار من جديد، وقبل أن تعود لتختنق بصمت داخل الصدر.

نكتب لأننا نحتاج أن نعيش من جديد… نكتب لنربّت على أنفسنا عندما لا نجد يدًا حانية!، نكتب لأننا نؤمن أن الشعور حين يُحبس، يموت… وأن الحرف حين يُولد من رحم الألم، يصبح صادقًا حدّ الخلود، لذا، لا تستهِن بما تُسطّره يدٌ مرتجفة… ربما كانت تلك الكلمات آخر محاولة للبقاء.
وفي نهاية كل سطر مكتوب بالحنين…تبقى دمعة معلّقة على حافة القلب، كأنها تنتظر من يقرأ كي تسقط.

جهاد غريب
أبريل 2025

السبت، 5 أبريل 2025

الأدواتُ.. قصائدُ الصامتين!


الأدواتُ.. قصائدُ الصامتين!

في البداية، وقبل أن تتحوّل الكلمات إلى أصوات، وقبل أن تترسخ في الأذهان، هناك لحظةٌ حرجةٌ يولد فيها الصمت!، لحظةٌ تشعر فيها بأنّ اللغة تقف عاجزة، كأنّما الحروف تتآكل على شفتيك، والجمل تنهار قبل أن تكتمل!، هنا، في هذا الفراغ الذي يخلقه العجز عن التعبير، يبرز السؤال الأكبر: ماذا تفعل عندما تفقد الكلمات؟ هل تظلّ حبيس صمتك، أم تبحث عن لغةٍ أخرى، لغةٍ لا تحتاج إلى ألفاظٍ لتُسمع؟

إنّ التاريخ لا يكتبه أولئك الذين توقفوا عند حدود الكلام، بل أولئك الذين حوّلوا صمتهم إلى فعل، ويأسهم إلى حركة، فالكلمات، وإن بلغت من البلاغة مبلغها، تبقى عاجزةً إذا لم تترافق مع إرادةٍ تُحوّلها إلى واقع!، فكم من خطيبٍ مُفوّهٍ وقف يلقي خطاباته العظيمة، بينما العالم من حوله ينهار؟ وكم من شخصٍ بسيطٍ، لا يُجيد التعبير، لكنّ يديه تقومان بما تعجز عنه الكلمات؟ التاريخ لا يذكر الذين همسوا بالحقّ ثم اختبأوا، بل يذكر أولئك الذين حوّلوا صمتهم إلى مطرقة، وصرخاتهم إلى جسر!.

يقولون إن الكلمات أجنحة، لكن ماذا لو تشقّقت الأجنحة قبل الإقلاع؟ ماذا لو وقفتَ على حافة القول، فوجدت لسانك يُشبه حجرًا باردًا، وكلماتك تذوب مثل ثلجٍ تحت شمس اليأس؟  هنا يأتي السؤال الأكبر:  هل نبقى سجناء الصمت، أم نتحوّل إلى بنّائين للفعل؟

الأدوات ليست مجرد أشياء ماديّة!، معاول وريشات، بل هي تعبيرٌ عن الإرادة، وشكلٌ آخر من أشكال الكلام، فالقلم الذي يكتب الحقيقة عندما يُخافُ قولها هو لسانٌ جديد، والفرشاة التي ترسم الألم أو الأمل على لوحةٍ صامتةٍ هي صرخةٌ لا تحتاج إلى صوت، وحتى الحجر الذي يُلقى في بحيرة الظلم، فيُحدث دوائرَ تتسع وتتسع، هو كلمةٌ تُقال دون حروف!، الفرق بين الكلمات والأدوات هو أنّ الأولى قد تُنسى، بينما الثانية تترك أثرًا ملموسًا.

باختصار!، الأدوات أحلامٌ متجسّدة، وقلمٌ يكتب سطور الثورة حين تخرس الأصوات، وفرشاةٌ ترسمُ عالمًا جديدًا على جدران الواقع الباهت، والأهم من الأدوات نفسها هو الجرأة التي تحملها، فكم من أداةٍ نامت في أدراج الخوف، وكم من فكرةٍ تحوّلت إلى غبارٍ لأن أحدًا لم يمدّ يده ليُمسكها!

لكنّ الأدوات وحدها لا تكفي، إن لم تكن مدعومةً بشجاعة القلب، فكم من أداةٍ ظلّت حبيسة الأدراج، لأنّ أحدًا لم يجرؤ على استخدامها؟ وكم من فكرةٍ عظيمةٍ ماتت قبل أن تولد، لأنّ صاحبها فضّل الكلام على الفعل؟ الأدوات تحتاج إلى أيدي تحملها، وإلى قلوبٍ تؤمن بأنّ التغيير ممكن، حتى عندما تبدو الكلمات غير كافية.

التغيير.. لغة من لا يملكون كلمات، اللغة الصامتة التي يتكلّم بها من حُرموا من الكلمات!، وهو الكلمة التي لم تُنطق، لكنّها انفجرت نورًا!

انظر إلى أولئك الذين غيّروا العالم دون أن يحتاجوا إلى خطبٍ مُلهِمة: غاندي الذي حوّل الملح إلى رمزٍ للحرية، لم يخطب طويلًا عن الحرية، بل غزل خيوطًا من الملح وقال: "هذه أرضنا"، وفان جوخ الذي جعل من ألمه فنًّا يضيء العالم، لم يصرخ بألمه، بل أضاء الكون بلوحاتٍ مثل "ليلة النجوم" ليُظهر جنونه الجميل، وأولئك المجهولون الذين وقفوا في الساحات، ليس لأنّهم يمتلكون الكلمات الأكثر بلاغةً، بل لأنّهم امتلكوا الشجاعة الأكثر نقاءً!

هؤلاء لم يقولوا: "كان يجب أن نفعل كذا"، بل فعلوا، ولم ينتظروا الكلمات المثالية، بل صنعوا التغيير بأيديهم، وعلمونا أن الفعل قصيدةٌ لا تحتاج إلى كلمات.

إذا تعثّر لسانك، فاجعل خطواتك كلمات، وإذا جفّ حبرك، فاجعل عرقك سطورًا!، أما إذا عجز لسانك عن الكلام، فلا تدع هذا العجز يقعد بك، اكتب قصيدتك ليس بالحبر، بل بالحركة!، واجعل خطواتك كلمات، وأفعالك بيتًا من الشعر لا يُنسى، لأنّ أعظم الكلام هو ذلك الذي لا يُقال، بل يُعاش، وأعظم الكلام هو ذلك الذي يترك أثرًا لا يُمحى، ليس في الأذهان، بل في الواقع.

في النهاية، العالم لا يتذكّر من قال أكثر، بل يتذكّر من فعل أفضل!، اكتبْ بصمتك، واصرخْ بفعلِك، فالعالم لا يُغيّره من يقول: "كان يجب أن.."، بل من يرفع يده ويقول: "سأفعل"، وتذكّر دائمًا: أعظم الكلام هو ذلك الذي يُكتَب بقدمين تمشيان، ويدين تبنيان، وقلبٍ لا يعرف الاستسلام!، فعندما تعجز الكلمات، فأنت لا تزال تملك الكثير لتقوله!، فقط غيّر الأدوات، وستجد أنّ الصمت نفسه يمكن أن يصير أغنية.

جهاد غريب
أبريل 2025

كلمات.. على حافة النية!


كلمات.. على حافة النية!

حين يتكلم الناس، لا يتحدثون دائمًا بما يريدون قوله، بل بما يستطيعون احتماله!، وبين المرايا التي تعكس أكثر مما نتصور، والأقنعة التي تُخفينا أكثر مما تحمينا، تمضي اللغة كتيار خفي، حاملة وجوهًا كثيرة تحت السطح!، قد تبدأ جملة عابرة، وتنتهي بعاصفة داخلية لا تُرى، وقد يكون في "كيف قيلت" أكثر مما في "ما قيل". فهل حقًا نُدير حواراتنا بالعقل، أم نحركها بمرآة مشاعرنا؟ وهل الكلمات التي نُلقيها نحو الآخرين هي سهام موجهة، أم نداءات نبحث بها عن أنفسنا في ملامحهم؟

كثيرًا ما يتردد صدى الجُمل التي نسمعها كأنها طُرحت أولًا على أنفسنا قبل أن تُوجَّه إلينا!، فكم من مرة شعرتَ أن ما قيل لك، قيل في الحقيقة عن قائله؟ المرآة لا تخون!، هي فقط تُظهر الحقيقة كما هي، دون تزويق، ودون مواربة!، تقول لك: هذا أنت، مهما حاولت أن تكون غير ذلك!، واللغة، حين تأتي من قلبٍ مرتبك، تُصبح مرآة لا تُرحم!، تراك كما أنت، وتُريك نفسك كما لا تُحب أن تراها، ومن أغرب مفارقات المرايا في الكلام، أن تُستخدم ضد الآخرين، فتنكسر أولًا على صدر من حملها.

قد يقول لك أحدهم: "أراك تتحدث وأنت تضع قناعًا!"، فتبتسم، وربما تغضب، أو ربما تغرق في صمتٍ طويل، ولكن، مَن الذي يضع القناع فعلًا؟ وهل القناع دومًا نفاق؟ أليس أحيانًا وسيلة للنجاة؟ أحيانًا نرتديه خجلًا، وأحيانًا خوفًا، وأحيانًا بدافع الغريزة حين نُجبر على الظهور بأقل ما نشعر وأكثر مما نتحمل، لكن السؤال المخيف يظهر حين ننسى أننا نرتديه.. وحين يتحول القناع إلى وجه، والدرع إلى جلدٍ جديدٍ لا نعرف أنفسنا دونه.

وفي خضمّ ذلك، تظهر جُملٌ منمقة، تتراقص بين النور والظل، كأنها ترقص على حبل النوايا!، كأن يقول أحدهم: "الحمد لله على نعمة التخطي"، فتقف أمامها متأملًا، لا تعرف أهي دعاء أم لغم لغوي؟ قد تكون شكرًا حقيقيًا لقلب نجا من جرح، وقد تكون سخرية مريرة ممن لم يتجاوز شيئًا سوى الاعتراف بالخذلان!، اللغة هنا لا تخطئ، لكنها تنتظر القارئ المناسب، فمن يقرأ من موضع الألم يرى السخرية، ومن يقرأ من موضع الشكر يرى النعمة، وبين الاثنين تكمن عبقرية التعبير وغموض القصد.

التخطي.. تلك الكلمة التي تُشبه جسورًا ضبابية، لا تدري إن كنتَ تعبر بها فوق نهر من الذكريات، أم تُسقط بها كل من تركتهم خلفك!، أهو نعمة؟ نعم، حين يأتي كعفوٍ كريم، وكصفح لا ينتظر المقابل!، حين تتجاوزه لأنك سامحت، لا لأنك تناسيت، أما إن كان التخطي مجرد إغماض عين عن الحقيقة، أو تجاهل للضرر، أو تظاهر بالتماسك، فهو حينها ليس تخطيًا، بل سقوطٌ ناعمٌ في هاوية أخرى لا اسم لها.

ولأن اللغة تمضي مثل نهرٍ لا يمكن لمسه مرتين، فإننا كثيرًا ما نحتاج إلى قارئ حقيقي، قارئ لا يبحث عن المعنى فقط، بل عن الشعور وراءه!، قارئ يسأل نفسه: هل هذه الكلمة كانت مرآةً صافية، أم قناعًا لامعًا؟ وهل خرجت من فمٍ شاكرٍ أم من عقلٍ غاضب؟ وهل كانت الجملة جسرًا نحو السلام، أم طريقًا مختصرًا للانتقام غير المعلن؟

نحن لا نكتب الكلمات فقط، بل نختارها كما نختار ملامحنا أمام الآخرين!، نُجمّلها، ونُعدّلها، ونغلفها بما نظنه ألطف، أو أذكى، أو أكثر دهاءً، لكن القلوب وحدها، هي التي تفك شفراتها، ولذلك، فإن جمال اللغة لا يكمن في اتقانها، بل في صدقها!، أن تقول ما تعنيه، وتعي ما تقوله، وتُدرك أن بعض العبارات تُشبه السماء: يتغير لونها بتغير زاوية النظر.

في النهاية، نحن لسنا سوى مرآة لما نُخفيه، ولسانًا لما نحمله!، وكل كلمة نقولها هي إشارة خفية عمّا يدور في أرواحنا، فلنختر كلماتنا كما نختار مصيرنا، بحكمة، لا بهروب، وبقلبٍ حيّ، لا بقناعٍ ميت، فما أجمل أن تكون مرايانا نقية، وأقنعتنا مؤقتة، وتخطيّنا نابعًا من نورٍ لا يُطفئه الحقد، وشكرنا طالعًا من روحٍ تعرف كيف تبتهج حتى وسط الغبار!

جهاد غريب
أبريل 2025

الجمعة، 4 أبريل 2025

العطاء المتوازن… سرّ التألق الإنساني!

 

العطاء المتوازن… سرّ التألق الإنساني!

الإنسان المتّزن لا يُفرِط في الأخذ، ولا يستنزف ذاته في العطاء!، هو ذلك الكائن الذي تنساب من قلبه أنهار من محبةٍ لا تُقاس، ورحمةٍ لا تُشترى، فيمنح بحب، ويأخذ بامتنان، وكأن الحياة رقصة متكاملة لا تكتمل بخطوة واحدة.

أما الذي يأخذ دون أن يمنح، أو يمنح حتى يفرغ دون أن يتلقّى، فهو يشقّ نهر إنسانيته بسكين الغفلة!، هناك، حيث يختل ميزان الروح، ويضيع البهاء الذي جُبلنا عليه، فالعطاء لا يكون جميلًا إلا إذا عاد دفئه إلى القلب، واستقبلنا كما استجبنا، وامتلأنا كما أفرغنا.

فلنعد إلى ذواتنا، لا كمن ضلّ ثم عاد، بل كمن استيقظ فجأة على نور داخلي يقول له: "أنت خُلقْت لتكتمل، لا لتتآكل!"، لنمنح العالم نسخًا نقيّة منا، نحب فيها بحبٍّ لا يعلّقه شرط، ونُضيء حياة من نحب بأفعال لا تنطفئ في زوايا الوقت.

لنجعل من أرواحنا وهجًا يُلهم، ومن قلوبنا جسورًا تمتد بيننا وبين الآخرين!، أن نترك في كل قلب عبرناه أثرًا لا يُنسى، وفي كل لحظة مررنا بها بصمةً من نور.

أما الحقيقة؟ فهي ليست مرآة مشروخة نكسرها إن لم تُرضِنا، بل شمسٌ علينا أن نكشف عنها الغيم، لا أن نطفئها بحججٍ واهية!، هي لا تختبئ إلا حين نغرقها نحن في بحور الخوف والادّعاء، وحين نبرر الزيف بطبيعتنا البشرية، وننسى أن تلك الطبيعة خُلقت أصلًا للعطاء، وللاحتواء، وللنور.

فلنكن كما أرادتنا فطرتنا: أنقياء في الحب، متّزنين في العطاء، حقيقيين في الوجود، فإن العالم لا يحتاج منا إلا أن نكون… كما نحن حين نكون الأفضل منّا.

فابدأ من اليوم، كن نهرًا رقراقًا يتدفّق حبًا وصدقًا واتزانًا، ولا تسمح للخذلان أن يُغلق قلبك، ولا للعطاء أن يُفنيك!، ازرع وجودك أثرًا، وكن أنت السبب في اتزان هذا العالم الصاخب…
فأجمل ما نتركه خلفنا، ليس ما نملكه، بل ما أحييناه في قلوب الآخرين.

جهاد غريب
أبريل 2025

القلعة الداخلية: رحلةٌ بين الشوك والندى!

 

القلعة الداخلية: رحلةٌ بين الشوك والندى!

كانت يداه ترتجفان حين أدرك أخيراً أنه لم يعد قادراً على حمل أثقال العالم فوق صدره، وفي تلك الليلة التي انكسر فيها للمرة الأخيرة، لم يبكِ على ما فقده، بل على السنين التي أمضاها كحارسٍ للآخرين، وكسندٍ لا يكلّ، وهو يحمل سقفاً ليس سقفه!، وكشجرةٍ تُظلّل الجميع بينما جذورها تتعفّن في صمت!، في تلك اللحظة الحاسمة، بين دموع لم يعرف لها معنى، تحوّل الألم إلى مرآة، فرأى نفسه لأول مرة: كائناً يستحق أن يحيا، لا أن يُضحّى به!، وانكسر القفل الذي ظلّ يحبس به روحه خلف أسوار اللااستحقاق.

درع الروح ليس درعاً من حديد، بل هو زئير الروح عندما ترفض أن تُؤكل بهدوء، وهو رقصةٌ مع الذات في غابةٍ من الأسئلة، ذلك الصمت الذي يسبق العاصفة، والغضب الذي يلي الخداع!، كم من مرةٍ مررنا بجانب أنفسنا كغرباء؟ وكم مرةً أخبرنا ضميرنا الجريح: كفى، ثم مضينا نبحث عن شظايانا في جيوب الآخرين؟

كلّنا نحمل جروحاً تشبه خرائط مدن غريبة، فهناك الألم الذي يتسلّل كالضباب إلى مفاصل الروح، والعلاقات التي تتحوّل إلى سجونٍ بلا قضبان!، بعض الجروح تُظهر أماكنَ يجب ألا نعود إليها أبداً، وبعضها يحدّد نقاطَ اللاعودة.

في سوق المشاعر، حيث تُباع الذكريات بأرخص الأثمان، نتعلم أن الحب ليس عملةً ندفعها ثمناً للبقاء، فبعض الناس يأتون كالمطر، يروون كلّ شيءٍ وينصرفون، وبعضهم كالطين، يلتصقون حتى يخنقوا الجذور!، الفرق بينهما؟ المطر لا يطلب منك أن تموت ليعيش.

أقسى ما في الرحلة أن تكتشف أنك غريبٌ عن ذاتك، وأن ترى نفسك عبر عيون من لا يرونك إلا عندما تكون مفيداً، لكنّ في هذا الاكتشاف شرارة التغيير، فالصحة النفسية ليست حديقةً خاليةً من الأعشاب الضارة، بل هي أرضٌ تتعلم فيها كيف تميّز الزهرة من الشوك، وعندما تتعلم أن تقف أمام المرآة وتقول: هذا أنا.. كاملاً، حتى مع كلّ ما ينقصني، تكون قد وضعت حجر الأساس لقلعتك الداخلية.

التفكير النقدي هنا ليس مجرّد تحليل، بل هو فنّ رؤية الأشياء كما هي، وهو أن تسأل: هل هذا يؤلمني لأنّه جارح، أم لأنّه يلمس جرحاً قديماً؟ وهو أن تتعلم أن تحمل سكيناً تقطع به الحبال التي تربطك بأشباح الماضي، أما التواصل الفعال، فهو أن تخرج الكلمات من كهف الحلق إلى فضاء الأذن، صادقةً كندى الصباح، حادةً كالسيف حين يجب أن تكون، وأن تقول: هذا أنا، وهذا ما لا أستطيع احتماله.

والاستقلال؟! إنه ذلك الطفل الذي يرفض أن يُربط بحبلٍ إلى ساريةٍ متآكلة، وهو قرارك بأن تبني مقياسك الخاص للقيم، وأن ترفض أن تكون نسخةً من توقعات الآخرين، وهو أن تدرك أن بعض الأبواب تُغلق ليس لأنها نهايات، بل لأنّك تحتاج إلى يديك حرّتين لفتح أبوابٍ أخرى.

ابدأ بالحدود، كي تبني معاييرك!، حدّدها كالنجوم التي تُرشد السفن، لا كالجدران التي تخنق النور، ثم انظر إلى العلاقات: أيّها يشبه الجذور، وأيّها يشبه الأغصان التي تنكسر عند أول عاصفة؟ تعلّم أن تحمل مقصّاً في جيبك، فبعض القصّ يُنبت.

أما المواقف الصعبة، فتذكّر: حتى الألم يصنع منك شاعراً إذا لم يقتلك!، ولا تهرب من العاصفة، لكنّ لا تنسَ أن تحمل مظلّتك، وتعلّم أن ترى في المرآة وجه المحارب، لا الضحية، وأن تسمع في صمتك صوت القوة، لا الوحدة.

وفي العمق، كل هذا يرجع إلى الحبّ!، ليس الحبّ الذي يُشترى بالتنازلات، بل ذلك الذي يبدأ من الداخل كبذرةٍ لا تُرى، ثم يصير شجرةً تُثمر ثقةً، واحتراماً، واستحقاقاً، الحبّ الذي يجعل من الاستقامة اختياراً يومياً، لا شعاراً، الحبّ الذي يحوّل التطوّر الشخصي إلى رحلةٍ لا إلى محطّة.

أخيرًا، الحماية الذاتية ليست نهاية المطاف، بل هي البداية، بداية أن تعيش كما لو أنّك تستحقّ الحياة.

جهاد غريب
أبريل 2025

الخميس، 3 أبريل 2025

سفر الروح في متاهات الألم!


كيف يغوص قلبٌ وحيد في تلك اللُّجج السوداء من الألم، وكيف تظل الروحُ صامدةً تحت وطأة هذا العذاب الأبدي؟ أسئلةٌ تثور كالأمواج الهائجة كلما هزّتنا عواصفُ الحياة، وكلما تعمّقت الجراحُ في أغوار النفس كسكاكينَ تنتزف الجراح!، فالإنسان، في رحلته الوجودية، يحمل بين ضلوعه عالماً كاملاً من التناقضات: شمعة أملٍ تتأرجح في مهبّ اليأس، وقوةً عاتيةً تختبئ خلف قناع الضعف، وإيمانًا بالحياة يرقص على حافة الهاوية، حيث يلوح شبح الاستسلام في الظلام.

بعد كل هذا التشظي والتمزق، أين يختفي "الإنسان" بداخلنا؟ وأين تذهب تلك الفطرة الأولى من البراءة والسلام التي ولدنا بها؟ يبدو أننا، مع كل صدمة، ومع كل خيبة، ندفن جزءاً من أنفسنا في مكان ما، حتى لم نعد نعرف من نحن!، ففي أعماق كل منا متاهة مظلمة لا نهاية لها، متاهة تزداد تعقيداً كلما طال بنا الزمن في أرض الغربة الوجودية. 

وكلما امتد بنا سفر التيه، ازدادت الجراحُ عمقاً، وكأنها أنهارٌ من الدماء لا تعرفُ التوقُّف عن النزف!، أما ذكرياتنا البائسة، فقد صارت مذبحاً مقدساً نذبحُ عليه أرواحنا كل فجرٍ جديد، قطرةً قطرة، وكأن الألمَ قد تحوَّل إلى طقسٍ يوميٍّ نؤديه بخشوع المُذعِن لمصيره.

نعم، الحياةُ في أقسى لحظاتها لا تترك لنا خياراً سوى أن ننزفَ في صمتٍ مطبق، حاملين أوجاعنا كأوزارٍ مقدسةٍ، أو سلاسلَ من ذهبٍ ساخنٍ تُوثقُنا إلى جذور آلامنا!، فكيف نتحرر منها، ونحن قد صرنا لا نعرفُ أنفسنا بدونها؟

ثم تأتي تلك اللحظة المصيرية، حين ينفطر الصمتُ كزجاجٍ مهشّم، وتنفلقُ أعماقنا بصرخةٍ كونية تخرج من أغوار الوجدان كالبركان الثائر! إنه "المارد الكامن" فينا، ذلك الشرارة الإلهية التي ترفضُ الموت، تنهضُ من تحت الرماد لتلوح بقبضتها في وجه قسوة الوجود وتصرخ بكلمة الحق: "كفى!"

هذا المارد.. لا يبحث عن شمعة عقلٍ فحسب، بل يحفر بأظافره في جدران الظلام بحثاً عن شمسٍ جديدة، لأن القلوبَ قد تحوّلت إلى رمادٍ منذُ عصور، ولم يبقَ لنا إلا شراع العقلِ الهشّ لنبحر به في هذا البحر المُظلم، علّنا نجدُ جزيرةَ الخلاص الأخيرة.

وهكذا تتحول الحياة إلى حكايةٍ مبعثرة الأوراق، وروايةً بلا مغزى تُروى بأنينٍ وبصوتٍ مبحوح!، أو سرداً متقطعاً من معاناة الأسئلة التي تبقى دون إجابات!، ثم نصير ظلالاً شاحبة تتراقص على جدار الزمن المتصدع!، نلهث خلف سرابٍ يُعيد لنا دفء إنسانيتنا الضائعة، فلا نجد سوى دوامة الألم التي تدور بنا كفراشاتٍ محنطة في قارورة الزمن.

فهل من خلاص؟ وهل من مخرجٍ من هذه المتاهة التي صارت جزءاً من أرواحنا؟ أم أننا - في النهاية - مجرد حروفٍ متعثرة في قصة الكون العظيمة، حروف تبحث عن نقطة توقف، وعن معنى، وعن لمسة نور في هذا الظلام الدامس؟

ربما تكمن الإجابة في أن نتعلم فنَّ حمل الجراح كحُليٍّ ثمينةٍ لا كأغلالٍ ثقيلة!، وأن نحوِّلَ ندوبنا إلى شهادات وجودٍ لا شواهدَ موت، فالأملُ الوحيدُ ليس في الوصول، بل في الاستمرارِ ذاته: في كلِّ خطوةٍ نخطوها ونحنُ نُجرُّ أذيالَ الظلال خلفنا، وفي كلِّ نفسٍ نستنشقهُ رغمَ عَبَقِ اليأس.

إنها الرحلةُ التي تصنعُ المعنى، لا الوجهة. فحينَ ينطفئُ كلُّ نورٍ خارجيٍّ، نكتشفُ أنَّ في صميمِ عتمتنا شمعةً لا تُطفأ!، هي إرادةَ الحياةِ التي ترفضُ أن تنحني، حتى لو لم يبقَ منها سوى ذرَّاتٍ متوهجةٍ في فضاءِ الوجود.

جهاد غريب
ابريل 2025

الأربعاء، 2 أبريل 2025

الأطلال: حين تصبح الذكريات وطنًا!

الأطلال: حين تصبح الذكريات وطنًا!

في زوايا الذاكرة، حيث لا يُرى إلا بالقلب، تقبع الأطلال كشواهد حية على ما مرَّ بنا!، ليست مجرد ذكريات تُسرد ثم تُنسى، بل هي ميراث اللحظات، تتركه الأيام كرسائل مختومة برائحة الأمكنة وهمسات الأشخاص، إنها الوشم الذي لا يزول، والخيط الرفيع الذي يخيط ماضينا بحاضرنا، ثم يرمي طرفه نحو المستقبل كجسرٍ من نور.

كم مرة وقفتَ في مكانٍ عابقٍ بالذكريات، فخُيل إليك أن الجدران تُناجيك، والأرض تُحدثك بلغةٍ لا يفهمها إلا قلبك؟ هنا، حيث تتحول الحجارة إلى كلمات، والفراغات إلى حكايات، تصبح الأطلال شاهدًا حيًا على أننا كنا هنا يومًا، أحببنا، وتألمنا، وحلمنا!، إنها ليس غيابًا، بل هي طريقة أخرى للوجود، كالنجوم التي تظل تُرسل ضوءها إلينا حتى بعد انفجارها.

وتمر السنوات، لكن الأطلال تظل ذلك الخيط السري الذي يربط بين كل ما فات وكل ما هو آت!، قد تكون نغمة موسيقية علقت في الذهن، أو رائحة قهوة كانت تُحضر بأيدي لم تعد بيننا، أو لمسة خفية تجعل الزمن ينثني على نفسه، فيختلط الماضي بالحاضر، ويصبح الغائب حاضراً من جديد.

الأطلال ليست مجرد ذكريات نسترجعها، بل هي لحظات نعيد عيشها كلما ضاق بنا الحاضر، وهي ذلك الشعور الذي يبقى معك بعد أن يمر كل شيء، ليذكرك بالأماكن والأشخاص واللحظات التي صاغت جزءًا منك!، فحين تمرُّ بشارعٍ عرفته يومًا، أو تلمس غرضًا كان لشخصٍ غاب، فأنت لا تستحضر الماضي، بل تُحييه من جديد.

كثيرًا، ما نسأل أنفسنا: ماذا نترك وراءنا حين نغيب؟ ربما لا نملك إلا ذاكرتنا، إذًا الأطلال هي الكنز الذي نزرعه في الأرض ليقطفه من يأتي بعدنا!، قد يكون بيتًا مهجورًا، أو صورة قديمة، أو كلمة محفورة على جدار، أو حتى صمتًا مُحمَّلًا بدلالات، ذلك الصمت الثقيل الذي يحمل في طياته كل ما لم يُقال.

نحن نكتب قصتنا على وجه الزمن، ثم نمضي، لكن الأطلال تبقى كبصمة روح تُخبر الأجيال: عاش هنا أناسٌ ضحكوا، وبكوا، وأحبوا، وحملوا قلوبهم بين أيديهم، وزرعوها في هذه الأرض!، الأطلال ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل وصية ورسالة نبعثها إلى المستقبل. 

في لحظات الوحدة، تصبح الأطلال ذلك الرفيق الذي لا يغادر، وهي الظل الذي يمشي خلفك في شمس الظهيرة، والصوت الذي يهمس في أذنك عندما يسكن الليل، ويخيم السكوت!

قد تأتيك عبر نسمة هواء تحمل رائحة تعرفها، أو عبر طريقٍ مررت به ذات يوم ولم تنسه!، إنها شكل من أشكال الخلود، ودليل على أن بعض الأشياء لا تموت، بل تتنكر في أشياء أخرى كي تظل معنا.

الأطلال ليست شيئًا نراه بأعيننا فقط، بل نشعر به كدفءٍ خفي، وكضوء قمرٍ يُنير درباً نسيناه، لكنه لم ينسنا!، وهي الجزء منا الذي يرفض الرحيل، والذي يهمس للوجود: سنظل هنا، حتى لو كنا في أي مكان آخر!

في النهاية، لسنا نحن من نصنع الذكريات فقط، بل الذكريات هي التي تصنعنا، وتجعل من أطلالنا وطناً نعود إليه كلما ضاقت بنا الدنيا.

جهاد غريب
أبريل 2025

البطل: رحلة من الصراعات إلى القوة الملهمة!

البطل: رحلة من الصراعات إلى القوة الملهمة!

قد يتجاوز البطل الحقيقي القوة الخارقة، فهو يواجه صراعاته الداخلية والخارجية ليكتسب النضج ويصبح رمزًا للأمل! وهذا البطل، الذي يجمع بين الواقع والأسطورة، يجسد الشجاعة والمثالية التي نسعى إليها، لكن، البطل ليس دائماً من الشخصيات البارزة أو القوية! أحياناً، يأتي الإلهام من شخصيات هامشية! لذا فإن الأبطال في الأدب والسينما هم انعكاس لما نتمناه في حياتنا، فهم يمنحوننا نافذة نطل منها على إمكانياتنا البشرية، وقصصهم ليست مجرد متعة، بل هي دعوة للتفكير في ذواتنا وكيف يمكننا أن نكون أبطالًا في حياتنا، مستلهمين منهم القوة في مواجهة تحدياتنا.

جهاد غريب

أبريل 2025

حين يثور الشلال: رسالة إلى القلب الحائر!

  حين يثور الشلال: رسالة إلى القلب الحائر!   لا تظنّ أنَّ الشلالَ - ذلك المُتجدِّدُ بأعجوبةِ الخلق - لا يعرفُ الغضبَ!، إنَّ الماءَ الذي ...