سيمفونية الأماكن العابرة!
هل سمعتَ يومًا أنين الجدران؟ هل أرهفتَ سمعك لِصراخ الصمت الذي يتردّد في زوايا الغُرف المهجورة؟ الأماكنُ أيضًا تشيخُ، يا صديقي، تتثاقل خطاها حين يغيب عنها الحُبّ، تذبلُ رائحتها كزهرةٍ نُسيت في كتابٍ قديم. لها قلوبٌ خفيّةٌ تنبضُ بالغِياب، وأرواحٌ تئنُّ كلّما مرّ عليها الزمنُ كشبحٍ عابرٍ في مدنِ الذكريات.
نحنُ والأماكنُ قصيدةٌ واحدة، نكتبها بالخطواتِ والهمسات، بالضحكاتِ التي تتدفّقُ كشلالٍ عابر، والدموعِ التي تنسابُ كندى على زجاج النوافذ البارد. كلُّ بابٍ يُغلقُ يحملُ في طيّاته ألفَ حكاية، وكلُّ نافذةٍ تُطلُّ على شمسِ الغياب تَحملُ في زجاجها كسَرَ أحلامٍ لم تُكتمل.
هنا، في هذا الركنِ المُظلم، جلستَ يومًا مع حبيبٍ رحلَ مبكّرًا. هل تذكر؟ الأريكةُ ما زالت تحتفظُ بدمعتها الأخيرة، والجدارُ يهمسُ باسمِ من لم يعُد. الأماكنُ لا تنسى، بل تتحوّلُ إلى شواهدَ حيّةٍ على كلِّ ما فات. إنّها تتألّمُ كما نتألّم، تتضوّرُ جوعًا لِلَحظاتٍ لن تعود، وتصرخُ بصمتٍ كلّما مررنا بها كالغرباء.
لا تهجروها، لا تتركوا ظلالكم تتآكلُ تحت شمسِ النسيان. زوروها كالحُبّ القديم، افتحوا أبوابَها المُغبرّة، اسمعوا دقّاتِ قلبها الخافتة. إنّها تستجدي الذكرياتِ كالمسكين، تُقلّبُ في جيوبها الباليةِ صورًا باهتةً، وتنتظرُ أن يعودَ أحدٌ ما ليُضيءَ مصباحها المُنطفئ.
نحنُ راحلونَ، والأماكنُ باقيةٌ كالنجومِ التي تُزيّن سماءَ الليل بعد رحيلنا. لكنّنا، قبل أن نغادر، نخطّ على جدرانِها بأظافرِ الروحِ قصصًا لن تقرأها إلّا الأجيالُ القادمة. فليكنْ حضورُنا فيها كاللّحنِ الذي لا ينتهي، وليكنْ غيابُنا مجرّدَ انقطاعٍ مؤقتٍ في سيمفونيةِ الوجود.
يا لَقسوةِ الفراق! الأماكنُ تنتظرُ، ونحنُ نُسابقُ الزمنَ كالهاربين. نتركُ وراءنا غُرفًا مليئةً بالأشباح، وكراسيَ تترقّبُ جلوسَ أحدٍ لن يعود. من يُواسي من؟ من يُمسحُ دمعَ الجدران؟ من يُنصتُ لِحكاياتِ السقفِ الذي يحملُ كلَّ هذا الثقل؟
لكنّ الذكرى تبقى. الذكرى التي تُشعِلُ مصابيحَ الأمل في دروبِ الماضي، وتجعلُ من كلِّ غيابٍ لقاءً مؤجّلًا. فَلا تَلهثوا خلفَ الدنيا وزينتها، فالزمنُ خائنٌ، والأماكنُ أصدقُ منّا. اِحملوا إليها ضحكاتكم، اِتركوا فيها بصماتِ قلوبكم، اِكتبوا على جدرانِ الزمن: "كُنّا هنا، أحببنا، عشنا، ولن يمحونا النسيان."
فليكنْ حُبّنا للأماكنِ ثورةً ضدّ النسيان! لِنُعلّمَ الجدرانَ أن تُغنّي، والنوافذَ أن تتنفّس، والأبوابَ أن تحتضنَ كلَّ عابرٍ كأنّه الغائبُ الذي انتظرناه. لِتكنْ خطواتُنا قصائدَ مكتوبةً على ترابِ الدروب، ولِتكنْ دموعُنا أنهارًا تروي ظمأَ الأرض العطشى.
فنحنُ والأماكنُ.. وَهْمُ الخلود!
جهاد غريب
أبريل 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق