"أحتاجُكَ": من انكشاف الروح إلى أوطان القلوب في ظلّ دفء الاستجابة!
الجزء الثالث:
"أحتاجُكَ": انكسارٌ يُشرِّفُنا، وحنينٌ يُكمِلُنا!
عندما تُقالُ كلمة "أحتاجُكَ"، فإنها لا تمرُّ كأي كلمة عابرة. إنها تخرقُ جدارَ الصمت الذي نبنيه حول أنفسنا، وتكشفُ عن هشاشةٍ نعتقدُ أنها عيبٌ يجب إخفاؤه. لكنّ الحقيقةَ الأعمق هي أن هذه الكلمة، بكل ما تحمله من انكشاف، هي أقوى ما يمكن أن يُقال. إنها ليست طلبًا للمساعدة فحسب، بل هي إعلانٌ عن ثقةٍ مطلقة، عن استعدادٍ لأن يُرى المرءُ ضعيفًا أمام آخرَ اختارهُ ليكون شاهدًا على هذا الضعف. في عالمٍ يُقدّسُ القوةَ المزيفة، يصبحُ الاعترافُ بالحاجةِ ثورةً صغيرةً على كلّ الأكاذيب التي نرويها لأنفسنا.
لكنّ السؤالَ الأكثر إيلامًا: لماذا نخشى أن نعترفَ بحاجتنا؟ ربما لأننا نربطُ الضعفَ بالخذلان. نتذكّرُ كلّ المرات التي كشفنا فيها عن قلوبنا فوجدناها مكشوفةً للسخرية أو اللامبالاة. ننسى أن الحاجةَ ليست عارًا، بل هي الجسرُ الوحيدُ الذي يعبرُ من خلاله الحبُّ والصداقةُ الحقيقية. الفرقُ بين الحاجةِ الصحيةِ والاتكاليةِ كالفرقِ بين يدٍ تمتدُّ طلبًا للعون، ويدٍ تنتظرُ أن تُطعَمَ كلّ يوم. الأولى تُبنى عليها العلاقاتُ، والثانيةُ تُدمّرها.
في قلبِ كلّ علاقةٍ حقيقيةٍ، هناك هذا النوعُ من الحاجةِ الذي لا يُقالُ مباشرةً، لكنّه يُفهمُ في نظرةٍ، أو صمتٍ، أو ابتسامةٍ حزينة. إنه الحنينُ إلى حضورٍ لا يغيب، إلى من يفهمُك دونَ كلمات، إلى من يكونُ ملاذك عندما تضيقُ بكَ الدنيا. هذه الحاجةُ ليست نقصًا، بل هي دليلٌ على أنك وجدتَ في شخصٍ آخرَ ما يُكمّلُك. لكنّ الخطورةَ تكمنُ عندما تتحولُ هذه الحاجةُ إلى توقّدٍ دائمٍ، إلى لهفةٍ لا تنتهي، عندها تصبحُ العلاقةُ سجنًا بدلًا من أن تكونَ ملاذًا.
ثمّة من يرفضُ فكرةَ الحاجةِ تمامًا، ويعتبرها دليلَ ضعفٍ. هؤلاء يبنونَ حولَ قلوبهم جدرانًا سميكةً، لا يعبرُ منها أحدٌ، لكنّهم لا يدركونَ أنهم بهذا يصنعونَ سجنًا لأنفسهم. الكبرياءُ قد يحميكَ من الألم، لكنّه سيحرمكَ من الدفءِ أيضًا. في المقابل، هناك من يبالغُ في الحاجةِ حتى تفقدَ معناها، فيتحولُ إلى عالةٍ عاطفيةٍ، ينتظرُ من الآخرينَ أن يحلّوا مشاكله، أن يملؤوا فراغه، أن يكونوا سببَ سعادته. هنا تفقدُ الحاجةُ قدسيتها، وتصبحُ عبئًا.
لكنّ الجمالَ الحقيقيّ يكمنُ في التوازن. في أن تعترفَ بحاجتكَ دونَ أن تفقدَ استقلاليتك، في أن تطلبَ المساعدةَ دونَ أن تصبحَ عاجزًا، في أن تكونَ ملاذًا لغيركَ دونَ أن تتحولَ إلى عكازٍ دائم. الحاجةُ، حينَ تكونُ صادقةً، ليستْ مجردَ طلبٍ للمساعدة، بل هي نوعٌ من المشاركةِ الوجودية. أن تقولَ "أحتاجُكَ" يعني أنك تثقُ بأنّ هناكَ من يستحقُّ أن يحملَ جزءًا منك، وأنّك مستعدٌّ لأن تحملَ جزءًا منه.
في النهاية، قد نكتشفُ أن الحاجةَ هي التي تجعلُنا بشرًا. هي التي تذكّرنا بأننا لسنا كائناتٍ منعزلة، بل نحنُ خيوطٌ في نسيجٍ أكبر. كلّما كسرنا حاجزَ الخوفِ من الاعترافِ بحاجتنا، كلّما اقتربنا من جوهرِ إنسانيتنا. وربما تكونُ "أحتاجُكَ" هي الكلمةُ الوحيدةُ التي، رغم كلّ هشاشتها، تستطيعُ أن تبني عالَمًا كاملًا من الثقةِ والانتماء. عالمًا نكونُ فيهِ، ولو للحظةٍ، أقلَّ وحدةً.
جهاد غريب
أبريل 2025
أبريل 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق