الأحد، 13 أبريل 2025

همسات العابرين: أخلاق تُختَزَفُ بين زحام النسيان!

 

همسات العابرين: أخلاق تُختَزَفُ بين زحام النسيان!

في زوايا الطرقات، حيث تُلامسُ أصابعُ النورِ أعشابَ الرصيفِ الخضراء، وتذوبُ أحذيةُ العابرين في ضجيجِ المدينةِ كأنها لم تكنْ، تكمنُ الهمساتُ التي لا يسمعُها إلا من يُوقِظُ قلبهُ من سُباتِ الروتين. ليست هناك حاجةٌ إلى مصطلحاتٍ ضخمةٍ، فجوهرُ الإنسانيةِ يُدرَكُ في اللحظاتِ الصغيرةِ التي تسرقُها منا أيامُنا: في نظرةِ طفلٍ يبتسمُ لغريبٍ، أو في يدٍ تمتدُّ فجأةً لترفعَ حقيبةَ امرأةٍ عجوزٍ تعثرتْ على الرصيفِ.  

بعضُ العقول لا تحتاجُ إلى مفاهيمَ جاهزةٍ، بل تبحثُ عن نصٍّ يُلامسُ أعماقَها بلغةِ الوجدان. هنا، حيث يصبحُ الحبرُ دمًا، والورقةُ جلدًا، تُولدُ تلك الكلماتُ التي لا تُقرأُ بالعينِ بل بِشغافِ القلبِ. لا فرقَ بين كاتبٍ وقارئٍ هنا، فكلاهما يحملان شمعةَ المعنى في غرفةِ النصِّ ذاتها، يُضيئان معًا تلك المساحةَ الخفيّةَ حيثُ تذوبُ الأنا في بحرِ الكينونةِ.  

وها هي الكتابةُ الحقيقيةُ تمدُّ يدَها إليك: ليست كلماتٍ تُلقى، بل قبضةُ حياةٍ تُنقذُك من الغرقِ في الضياع. تأخذُك إلى شرفةِ الزمنِ حيثُ تُعلّقُ الذكرياتُ كفوانيسَ على شجرةِ الماضي: طفولةٌ كضوءٍ خجولٍ، وصبا كريحٍ تُحطّمُ الأغصانَ الواهنةَ لتُزرعَ مكانها أسئلةً بلا جذورٍ، ثم شبابٌ كموجٍ يصرخُ في ليلِ الوجودِ، قبل أن يهدأَ كلُّ شيءٍ في سكونِ الشيخوخةِ، كغروبٍ يُغلّفُ الأرضَ بوشاحِ سلامٍ أخيرٍ.  

لكننا ننسى.  

ننسى ونحنُ نحملُ في هواتفنا ذاكرةَ العالمِ كلَّه، لكننا نُقصّرُ في تذكّرِ إنسانيتِنا. ننسى حين نمرُّ كالظلالِ بجانبِ من يحتاجُنا، أو حين نُغلقُ قلوبنا قبل أبوابِ المتاجرِ. لفتةٌ بسيطةٌ تكشفُ عن أخلاقٍ كادتْ تضيعُ - تلك الأخلاقُ التي هي كالغبارِ الذهبيِّ الذي يترسّبُ على أجنحةِ الفراشاتِ حين تمرُّ قربَ أيدينا دون أن نُؤذيها.  

الكتابةُ عن الذاتِ ليست تزيينًا أو جَرحًا، بل هي وقفةُ مصارعٍ أمام مرآةِ الروحِ. فيها تتساقطُ الأقنعةُ كأوراقِ الخريفِ، وتظهرُ الحقيقةُ عاريةً: معاناةٌ كشجرةٍ بلا ثمارٍ، وأحلامٌ كسفينةٍ غارقةٍ في بحرِ اليأسِ. حتى الكتبُ التي ظننّاها مرايا، تتحولُ أحيانًا إلى نوافذَ مغلقةٍ، نرى من خلالها أوجُهَ كُتّابٍ يتحدثونَ عن فضائلَ لم يعيشوها.  

هل سنظلُّ نمرُّ كالظلال؟ أم سنُوقِظُ في أنفسِنا ذلك الطفلَ الذي كان يرى في كلِّ عابرٍ قصةً تنتظرُ أن تُروى؟  

لأننا في النهاية، لسنا مجرد عابرين، بل حراسٌ لهذه الهمساتِ الإنسانيةِ. فلنُبطئ خطانا، ولننحني قليلًا كي نسمعَ صوتَ العشبِ وهو ينمو بين شقوقِ الأرصفةِ، ولنُمسكْ بيدِ من يحتاجنا... فربما يكونُ آخرُ همسةٍ ننقذها من النسيانِ هي ما يُخلّصُنا نحنُ أولًا.  

ففي عالمٍ يختزلُ القيمَ إلى شعاراتٍ، والإنسانَ إلى رقمٍ، تبقى تلك اللمساتُ الخفيّةُ هي الثورةُ الحقيقيةُ: ثورةُ القلبِ على قسوةِ الوجودِ، وانتصارُ الإنسانيةِ على زحامِ النسيانِ.

جهاد غريب 

أبريل 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة لا تُفهم إلا متأخرًا!

  رحلة لا تُفهم إلا متأخرًا!  لا يبدأ الإنسان بحثه عن المعنى في أول الطريق، بل غالبًا ما يتأخر. إذ كيف يمكن لمن لم يرَ إلا بداية العالم أن ي...