الاثنين، 28 أبريل 2025

سحر التفاصيل: حينما تُنْبت البساطةُ عُشبَ الجنون!

 

سحر التفاصيل: حينما تُنْبت البساطةُ عُشبَ الجنون!


في زحمةِ الحياة، حيثُ تُقاسُ القيمةُ بالضخامةِ والكمّ، ننسى أنَّ الكونَ يُحدّثنا بلغةِ الهمسِ، لا الصراخ. أنَّ الجمالَ الحقيقيَّ لا يختفي خلفَ الواجهاتِ البرّاقة، بل يتسلّلُ عبرَ شقوقِ التفاصيل الصغيرة، كضوءِ شمعةٍ في غرفةٍ مظلمةٍ يُعيدُ تعريفَ الظلّ.  
هل تأمّلتَ يومًا كيفَ تُغيّرُ ورقةُ شجرةٍ ساقطةٍ مسارَ نهرٍ كاملٍ؟ أو كيفَ تُعيدُ رائحةُ قهوةٍ صباحيةٍ تشكيلَ ذكرياتِ طفولةٍ بعيدة؟ التفاصيلُ هي نقاطُ الارتكازِ التي تُحرّكُ عالمنا الداخليّ، لكنّنا – للأسف – نتعاملُ معها كحروفٍ زائدةٍ في نصٍّ طويلٍ، فنشطبُها دونَ أنْ ندركَ أنَّ الجملةَ تفقدُ معناها بغيابها.  

الفنُّ: حينما تُصبحُ الذبذباتُ قصائدَ!
في متحفِ الحياةِ، كلُّ تفصيلٍ هو لوحةٌ قابلةٌ للتأويل. الفنانُ العظيمُ لا يخشى الفوضى، بل يخشى أنْ تُصبحَ فوضاهُ عاديةً. ألمْ يُخبرنا "فان جوخ" أنَّ النجومَ ليستْ نقاطًا مضيئةً، بل دوّاماتُ غضبٍ سماويّ؟ تلكَ اللمسةُ الأخيرةُ على اللوحة، ذاكَ الظلُّ الذي يبدو كخطأٍ للوهلةِ الأولى، هو ما يجعلُ العملَ الفنيَّ ينبضُ بالحياة.  

وفي الطبيعةِ، حيثُ لا وجودَ للعشوائيةِ، نجدُ أنَّ تكرارَ الأمواجِ على الشاطئ ليسَ تكرارًا أبدًا. كلُّ موجةٍ تحملُ سرًّا مختلفًا في رغوتها، كلُّ حصاةٍ تُغيّرُ نغمةَ اصطدامها. العلمُ يقولُ إنَّ دماغَ الإنسانِ يُفرزُ هرمونَ السعادةِ عندَ التركيزِ على التفاصيلِ الطبيعيةِ، كتعرّجاتِ لحاءِ الشجرةِ أو تناغمِ ألوانِ الغروب. لكنّنا – مع ذلك – نسيرُ في الحدائقِ ونحنُ نحدّقُ في شاشاتِ هواتفنا!  

المطبخُ: مسرحُ الذكرياتِ الصغيرة!
لا تُخبرني أنَّك تحبُّ الطعامَ إنْ كنتَ تبتلعهُ دونَ أنْ تسمعَ همساتِه. الطبقُ البسيطُ قد يصبحُ أسطورةً إذا أضفتَ إليهِ شيئًا منْ روحك. قطعةُ ليمونٍ على حافةِ الصحن، رشةُ نعناعٍ طازجٍ كأنّها إضاءةٌ خلفيةٌ للطبق، أو حتى طريقةُ ترتيبِ الخبزِ في السلةِ كأنّها تحضنُ وجبتَك. الدراساتُ تُشيرُ إلى أنَّ 70% منْ تجربةِ الأكلِ تعتمدُ على الحواسِ قبلَ الذوقِ. فلماذا نُهملُ هذه النسبةَ العظيمةَ؟  

العلاقاتُ: جغرافيةُ الهمساتِ!
أعمقُ العلاقاتِ لا تُبنى بالخطبِ الرنّانةِ، بل بالكلماتِ التي تُقالُ بنبرةٍ خاصّةٍ في الوقتِ المناسب. تذكُّرُ أنَّ صديقَكَ يُفضّلُ الشايَ بالسكرِ البني، أو أنَّ زوجتَكَ تُحبُّ أنْ تُتركَ لوحدها لدقائقَ عندَ الاستيقاظِ، هذهِ تفاصيلُ صغيرةٌ تُترجمُ إلى: "أنتَ موجودٌ في عالمي". علماءُ النفسِ يؤكّدونَ أنَّ العلاقاتَ التي تعيشُ طويلًا هي تلكَ التي تُكرّسُ 80% منْ اهتمامها للـ"تفاصيلِ اليوميةِ"، و20% فقط للأحداثِ الكبرى.  

كيفَ نتعلمُ فنَّ التقاطِ اللحظاتِ الخفيّة؟ 
لا تحتاجُ إلى عدسةٍ مكبّرةٍ، بل إلى عينينِ طفلٍ يرى العالمَ لأوّلِ مرّة. جرّبْ أنْ تلمسَ الحياةَ بأطرافِ أصابعك، أن تشعرَ بنعومةِ ورقةِ الكتابِ قبلَ تقليبها، أو ببرودةِ النافذةِ في يومٍ شتويّ. لا تتعجّل، دعْ أصابعك تقرأُ ما لا تقولهُ الصفحات.  
وتذكّرْ أحيانًا أن تتوقّفَ عن ملءِ الصمتِ، لأنّ الفراغَ بينَ الكلماتِ هو ما يحملُ المعنى الحقيقيّ. ففي ذلكَ الهدوءِ، تسمعُ دقّاتِ قلبِ اللحظةِ، وتفهمُ ما لا يُقال.  

اكتبْ دونَ أن تكتبَ. لا تدوّنْ يومَكَ في قوائمَ جافّة، بل احفظهُ في ذاكرتكَ كصورٍ متحركةٍ، كفيلمٍ لا ينتهي. دعِ التفاصيلَ تتراكمُ مثلُ طبقاتِ العطرِ على جلدِ الزمن، فتشمّها كلّما مررتَ بها مرّةً أخرى.

في عصرِ السرعةِ، كنْ بطيئًا كشجرةٍ تُنبتُ ثمارها!
الحياةُ ليستْ وثيقةً نُسرعُ في توقيعها، بل قصيدةٌ ننثرُ تفاصيلَها كحباتِ عقدٍ مكسور. الجمالُ ليسَ حدثًا استثنائيًا، بل طريقةُ نظرٍ نختارُها كلّ يوم. ففي النهاية، كما قالَ "نيتشه": "لا توجدُ حقائقٌ، فقط تأويلاتٌ". فلتكنْ تأويلاتُكَ للعالمِ مليئةً بالتفاصيلِ التي تُشعِلُ المصابيحَ في زوايا الروحِ المظلمة.  

هكذا، تصبحُ البساطةُ إمبراطوريةً، والتفاصيلُ الصغيرةُ قوانينَها.

جهاد غريب 
أبريل 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين تتنفس السماء من صدرك!

  حين تتنفس السماء من صدرك!  كانت الغيوم تمرُّ كسفنٍ من قطنٍ مبلل، تجرّ خيولها الخفية خيوطًا من ضوء شاحب على مرآة البحر. وقفتُ على حافة الها...