الوطن الذي يسكننا!
في زوايا الحياة المزدحمة، نكتشف أن الغربة لا ترتبط بالحدود فقط، ولا أن الوطن محصور في خرائط الأرض!، هناك شعورٌ خفي، يمر بنا كنسمة لا نراها، لكنه يوقظ فينا السؤال الأبدي: أين ننتمي فعلًا؟ وحين يطول التأمل، ندرك أن الوطن أكبر من فكرة ما نعود إليه، بل ما لا نغادره داخل أنفسنا.
نحن لا نولد مرة واحدة، ثمة ولادات متكررة تحدث في صمت العمر، حين نُجبر على إعادة تعريف ذواتنا!، قد تكون الولادةُ خيانةً لعاداتٍ التصقنا بها، أو تجاوزًا لنسخٍ قديمة منّا ظننا أنها الحقيقة!؛ نكتشف في لحظات الصفاء أن ما كنا نظنه "وطنًا" كان أعمق من مجرد فكرة ارتحنا لها، بل ملاذًا حقيقيًا، وحينها، لا يعود المكان وحده هو ما يمنحنا الانتماء، بل المعنى الذي نسكنه ويمنحنا الثبات وسط تغير كل شيء.
في بعض الأحيان، نسير في شوارعنا المعتادة ولا نكاد نعرفها، لا لأن الأرصفة تغيّرت، بل لأن الزمن نفسه تحوّل إلى غريب!، نكتشف أن الأماكن التي حملتنا لم تعد تذكرنا، وأن الذكريات نفسها صارت باهتة كصفحات مرّت عليها أعوام من النسيان، وحين لا تعود الأماكن تعني ما كانت تعنيه، ندرك أن الغربة الحقيقية قد تكون في انقطاع الشعور، لا في اختلاف الجغرافيا فقط، فربما الوطن كان أكبر من مجرد لحظة... يمكن استعادتها.
الغربة ليست دائمًا في الرحيل، بل أيضًا في الإقامة داخل ما لم يعد يستوعبنا!، نكبر، وتتغير أدوات فهمنا، فتصبح الأوطان الصغيرة التي كنا نحتمي بها عاجزة عن احتواء قلقنا الجديد، ورغم ذلك نحن نحتاج إلى أن نعود، وإلى أن نفهم لماذا نشعر أننا ابتعدنا، حتى لو لم نغادر.
السلام لا يُطلب من الخارج، بل يُبنى في الداخل، فحين نستقر داخل ذواتنا، وحين نتصالح مع ما رحل، ومع ما لن يأتي، نصبح قادرين على أن نحمل أوطاننا في قلوبنا، لا في جوازات سفرنا، ولا في نداءات الحنين!، حينها فقط، لن نغترب.
لن تكون غريبًا إن استوطنتك السكينة، فالمكان وإن بدا مجرد إطار، فلن يكون الزمن صفحة قابلة للطيّ، أما الوطن الحقيقي، فهو تلك اللحظة التي تصافح فيها ذاتك بسلام، وتبتسم دون سبب... لأنك وصلت، أخيرًا، إلى حيث لم تبرح يومًا.
لا تبحث عن مفاتيح العودة فقط، بل اجعل الباب الذي تبحث عنه يكون مفتوحًا داخلك منذ البداية!، وكل ما عليك، أن تلتفت دائمًا إلى الداخل... فهناك تبدأ الرحلة، وهناك تنتهي.
جهاد غريب
أبريل 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق