الوطن: حاضنة الروح وأرض الأحلام!
في زحام المدن وتشابك الحدود، نبحث عن ذلك المكان الذي لا يُختزل في خطوط الخرائط أو يُقاس بمسافات الأميال!، الوطن ليس مجرد أرض نطأها بأقدامنا، بل هو الذاكرة التي تحمل رائحة القهوة في الصباح الباكر، وصوت الأذان الذي ينساب من بعيد، ودفء الأيادي التي عرفتها منذ الطفولة؛ هنا، في هذا الواقع الملموس، تُنسج حكاياتنا وتُزرع أحلامنا.
لكننا أحيانًا نعيش في وسط هذا كلّه غرباء! ليس لأن الجدران تغيّرت، بل لأننا نحمل داخلنا أسئلة لا تجد إجاباتها بين الأزقة القديمة!؛ قد ننتمي إلى أرضٍ بعينها، بينما يظلّ جزءٌ منا يبحث عن ملاذ آخر!، ليس بديلًا عن الوطن الأصلي، بل امتدادًا له، فالوطن الحقيقي لا يطلب منّا أن نختار بين الأرض والروح، بل هو ذلك الحضن الكبير الذي يسعنا جميعًا: حجارة الشوارع وذكرياتها، شغفنا الذي لا يهدأ، وحتى جراحنا التي تعافت تحت سمائه.
تخيل نفسك في شارع طفولتك بعد سنوات من الغياب، الطُرق نفسها، والوجوه ذاتها، لكنك تشعر بأن شيئًا ما قد اختلف!، هل تغيّر المكان أم تغيّرت أنت؟ الحقيقة أن الوطن ينمو كما ننمو، يتسع ليشمل كلّ ما صرنا إليه؛ قد نعود إلى البيت الذي تربّينا فيه فلا نجد أنفسنا بين جدرانه، ليس لأنه لم يعد "بيتًا"، بل لأننا صرنا بحاجة إلى أوطانٍ أخرى تُضاف إليه: كتابٌ قرأناه فغيّرنا، أو صديقٌ التقيناه فأصبح جزءًا منا، أو مدينةٌ احتضنت أحلامنا فصارت قطعةً من كياننا.
الغربة الأقسى ليست في العيش بعيدًا عن الأرض، بل في العيش عليها بقلبٍ لم يعد يتعرف عليها، لكن حتى هذا الألم هو دليل على أن الانتماء لا يموت؛ فهو يُولد من جديد كلّما فهمنا أن الأوطان ليست سجونًا نرثها، بل حدائق نزرعها!؛ قد نغادر المكان جغرافيًا، لكننا نحمل معنا الطرقات التي مشيناها، ولهجة أهلنا، وطعم الأكل الذي تعلمناه منذ الصغر، هذه ليست ذكريات فحسب، بل موادّ بناء ذلك الوطن الداخلي الذي لا يتعارض مع أرض الواقع، بل يجعله أكثر ثراءً.
في النهاية، لا يوجد تناقض بين أن تحبّ أرضًا وأن تبحث عن معنىً أعمق للانتماء؛ الوطن الحقيقي هو حيثما تستطيع أن تحمل ذاتك دون خوف، وحيثما تسمع همسَ قلبك يقول: "هنا"، قد يكون هذا "هنا" بحرًا رأيته للمرة الأولى فشعرت بأنه يعرفك، أو غرفةً صغيرةً كتبتَ فيها أحلامك، أو ترابًا دُفنت فيه قصص من سبقوك؛ الوطن هو كلّ هذا وأكثر!، ليس لأنه مكان مثالي، بل لأنه مكانك.
فلنحتفِ بالأرض التي حملتنا، ولنصنع داخلنا مساحةً لكلّ ما يجعلنا نشعر بأننا أحياء، فالوطن ليس مفترق طرق بين الروح والمادة، بل هو الجسر الذي يصلها، وهو حين يفقدنا - ولو للحظة - نكتشف أننا لم نكن نبحث عن مكان، بل عن ذلك الجزء منّا الذي يجعله يستحقّ أن يُسمى "وطنًا".
جهاد غريب
أبريل 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق